هادي العلوي
كسلة مريم
يقترن أسم كرادة مريم بالكسلة المشهورة التي كان يؤجج أوارها أهل بغداد. وقد فاتنا أن نشير إلى ضريح يقع في وسط الناحية وينسب إلى السيدة مريم بنت عمران والدة المسيح ومنه استمدت كرادة مريم اسمها. والمرجح ان هذا القبر يعود لامرأة صالحة من نساء العهد العثماني أسمها مريم. وقد التبس الأمر على الناس فشاع بينهم أنها السيدة العذراء, والعذراء لم تأت إلى العراق ولا عهد لها بالكرادة.
كان أهل الكرادة يقدسون ضريح مريم تبعا لهذا الظن. واتخذوا من الأرض التابعة له مقبرة لأكبادهم. أما أهل بغداد فكان هذا المشهد متنزها لهم يجتمعون حوله في كل عام مرتين: في الجمعة الأولى بعد عيد الفطر والجمعة الأولى بعد عيد الأضحى, وهذه هي الكسلة.. والكسلة في بغداد ثلاثة أيام, فإلى جانب كسلة مريم كانت كسلة سيد إدريس في الكرادة الشرقية ويحتفل بها في الحد الأول بعد العيدين. وكسلة أبو رابعة في الأربعاء الأول بعد العيدين وكانت تتوهج حول ضريح (أبو رابعة) في العظمية.
عندما يحين موعد الكسلة في كرادة مريم كان الناس يأخذون _ منذ الصباح الباكر _ بالزحف نحو ضريح السيدة من كل جهة من جهات بغداد حتى تضيق بهم البساتين والحقول المحيطة بالضريح. ويأتي مع الناس, الباعة المتجولون بأنماط شتى من الأطعمة والمرطبات واللعب. ومع هواة الطرب ألوان مما عرفت بغداد في ذلك الوقت من أدوات اللهو والغناء. ويكون يوما مشهودا يفوق في صخبه ومسراته أيام العيد ويطبع في الأذهان ذكريات لا تنسى.
أما أصل الكسلة فمجهول, وكذلك المعنى الذي ينطوي عليه. وأغلب الظن أنها وجدت بدافع الرغبة في مداومة المرح والتعطل الذي يستروحه الناس طوال أيام العيد. وفي مجتمع ضيق يخنقه الحرمان, كالذي زاملته بغداد في الجيل الماضي تفرض مثل هذه النزعات تأثيرها الفوي على الأفراد. أن حاجة الناس إلى التفسح والخروج من أسر القيود التي تكبلهم تؤلف على الدوام حافزا يدفع بهم نحو البحث عن منافذ يتنفسون من خلالها. وهكذا كانت لأيام العيد في بغداد, بما تحمله للناس من مسرات, أهميتها البالغة وأصداؤها البعيدة في النفوس. وكانت الكسلات مناسبة فرعها البغداديون من أعيادهم تطمينا لهذه النزعة. ولعل في أطلاقهم أسم (الكسلة) على هذه الأيام ما يؤيد هذا الظن أو يقربه من الصواب.
كرادي كرادي أبو بيتنجانة
قد تردد ذكر الكرادة في الأمثال والكنايات البغدادية. ويلاحظ أن البغادة كثيرا ما كانوا يتهكمون من أهل الكرادة. ويستند هذا التصرف إلى اعتقاد البغدادي أن الكرادي غير متحضر وأن درجته في سلم التطور الاجتماعي أدنى من درجته. وليس لأهل بغداد يد في هذا الاعتقاد فهو من نتائج الشعور بالتفوق الذي يلازم أهل المدن ويغرس في أذانهم مثل هذه الأفكار والغرور. يعير أهل بغداد أهل الكرادة بالباذنجان فيقولون (كرادي أبو بيتنجانة) ويردد صبيانهم أهزوجة بهذا المعنى يقولون فيها:
كرادي كرادي أبو بيتنجانة
خلي الجلب نايم ومشنتر اذانة
ولا يعرف أحد بالضبط أصل هذه الشتيمة التي يطعن بها البغداديون جيرانهم الكرادة. سوى أننا نعرف أن أهل الكرادة كانوا يكثرون من زراعة الباذنجان ألا أنهم لا يستهلكونه بكثرة لاضطرارهم إلى بيعه. وهم لا يأكلون منه ألا ما يدر عليهم بيعه ربحا وهو الباذنجان الكبير الحجم يشوونه بالتنور أو يطبخونه مرقا. وفي هذه العادة ما يدل على الشح والفقر معا.. وأهل بغداد يزعمون أن الباذنجانة تعادل عند الكرادي دم الإنسان! وهذا بلا شك من المزاعم الباطلة..
ومن الأمثال البغدادية قولهم (كرادة وعزا حسين) يضربونه للجماعة تحرص على الشيء وتثير الضوضاء من حوله. والكرادة معروفون بحرصهم على أقامة التعازي في مناسبة عاشوراء. وفي هذه المناسبة كانت تعد الولائم الكبرى, حيث يجد فقراء الكرادة وهم الأكثرية بغيتهم فيتهافتون عليها بحماس شديد. وآخر يقولون فيه (بل المعظم على الكرادة) وفي أصل المثل ومعناه أقوال متناقضة. وقد أورد جانبا منها الشيخ جلال الحنفي في كتابه القيم عن الأمثال البغدادية, (راجع حرف التاء من الجزء الأول).
تسمية الكرادة
والضواحي التي تسمى بهذا الاسم تمتد على جانبي دجلة. وهي: كرادة الصليخ, شمالي بغداد على الجانب الشرقي من النهر, والكرادة الشرقية الى الجنوب وتقع على الجانب الشرقي أيضا. وكرادة مريم على جانب الغربي المقابل للكرادة الشرقية. وكانت هذه الضواحي الثلاث تشتمل على المزارع وبساتين كثيفة تروى من دجلة بواسطة الكرود المنتشرة على الضفاف, وذالك قبل البدء باستعمال المضخات الآلية.
أن الكرادة الأولى الواقعة في منطقة الصليخ لم تشتهر طويلا بهذ الاسم, الذي صار يطلق فقط على من لا يسكن أحدى الكرادتين, مريم والشرقية.
ولكل من الكرادتين تاريخ مستقل, وخصائص محلية متميزة رغم وقوعها متقابلتين على ضفاف نهر دجلة. ويترتب على ذلك ضرورة تخصيص كل منهما بدراسة مستقلة وهذا البحث الذي نقدمه لقراء مجلة بغداد قصور على كرادة مريم. وأرجو أن أوفق في وقت لاحق إلى تخصيص شقيقتها الشرقية بدراسة مماثلة.
تمتد كرادة مريم على طول شاطئ دجلة الغربي بين موقع جسر الأحرار الحالي شمالا حتى نهر الخر جنوبا. أما عرضها فمن شاطئ النهر حتى سكة حديد بغداد _البصرة. وكانت تحدها سابقا (سدة المسعودي) وهذه السدة بنيت في العهد العثماني الأخير لحماية بغداد الغربية من فيضان نهر الفرات. وقد زالت من الوجود أخر بقايا هذه السدة منذ حوالي العشرين عاما.
ومن هذا نعلم أن كرادة مريم تتبوأ منبسطا فسيحا من الطرف الجنوبي الغربي لمدينة بغداد. على أن الجزء الأعظم من هذه المساحة كان أما بورا متروكا وأما أرضا مزروعة. أما المنطقة السكنية فكانت تحاذي النهر محصورة في شريط من الأرض لا يزيد عرضه على الكيلو متر الواحد. والبيوت الكرادية تبنى عادة بالرهص _ الطوب_ وتسقف بجذوع النخل. وفي زمن متأخر بنى الموسرون منهم باللبن وسقفوا بالخشب.
وتبنى الدور متلاصقة بحيث تشكل سطوحها مجموعات يكمل بعضها بعضا. ومن طريف ما كان يقع أنهم إذا طاردوا لصــا ربما أستطاع أن يعبر الطرف من أوله إلى أخره فوق سطوح المنازل! ومع ذلك فالكرادة قلما يفلت اللص من أيديهم!. تتألف كرادة مريم من أحياء متميزة عن بعضها يطلق على كل منها اسم (طرف) ومن أشهرها طرف (الثعالبة) ويقع اليوم إلى الشمال من جسر الجمهورية, و (العباسية) وفيها اليوم بناية المجلس الوطني الجديد, والمطيرية _ بتسكين الميم _ و (الكاورية) وكانت متنزها صيفيا لأهل بغداد وقد تردد ذكرها في الأغاني البغدادية القديمة. وهذا الطرف المشهور بكثافة بساتينه وبشاطئه الرملي الذي يؤلف بلاجا طبيعيا يصلح للرياضة والسباحة.. وينقسم الطرف الواحد إلى دروب وشوارع غير منتظمة تعرف باسم (واجهات) جمع (واجهة) وهي تقابل الاصطلاح البغدادي (عكود) جمع عكد.
مستل من فصل طويل في كتاب (الكرادة والكراديون) لاستاذ نوري العبيدي المعد للنشر.