من ذكريات أحمد حامد الصراف في كربلاء

من ذكريات أحمد حامد الصراف في كربلاء

إعداد: ذاكرة عراقية

ولدت في مدينة كربلاء؛ وكربلاء مدينة يحترمها المسلمون كافة، ويشدون الرحال إليها لزيارة الشهداء الكرام من بني هاشم الذين قتلوا في معمعة كربلاء في القرن الأول من الهجرة. وفي هذه المدينة الحزينة الباكية أناس من كل فج عميق إذ ترى فيها الفارسي والهندي، والأفغاني والتركماني،

والاحسائي والبحراني، وغيرهم من المسلمين الذين يؤمونها حبا بمجاورة المزارات المقدسة، وهي كسائر المدن التي فيها مزارات الأئمة العظام كالنجف والكاظمين وسامراء، لا ينقطع منها النواح والبكاء، ولا تكفكف فيها الدموع كما لا تخلو من التعازي والمآتم ومع ما في بساتينها الزاهية المحيطة بها من دواعي الأنس والسرور، وفي شوارعها الطويلة العريضة المستقيمة بواعث الانشراح والرفاهية، ترى فيها الألم سائدا، والحزن مبثوثا في أفئدة سكانها، والبؤس متمثلا في ليلها وضحاها.

في مسقط رأسي هذا شاهدت (الدرويش) لأول مرة إذ في كربلاء عدد عظيم منهم وقد لا تخلو أبدا من درويش يرن صوته رنين الجرس عند انبلاج الفجر أو عند جنوح العصر أو عند حلول الغيب، في الصحن الشريف أو في الأسواق أو في الأزقة - يرن صوته مادحا أو راثيا أو باكيا أو متباكيا ومن ثم داعيا للناس بالخير ومستجديا.

اعتقاد الناس في (الدرويش) اعتقاد حسن ومنهم من يعتقد فيه الخير والصلاح والزهد والعفاف، حتى الكرامات. والنسوة يتفاءلن برؤيته ويتهافتن على الإحسان إليه ويفرحن بدعائه وكلماته وينفحنه مبلغا من المال ليكتب (تمائم وحروزا وأدعية) لبنيهن وبناتهن. والعاقرات منهن يفزعن إليه ليدبر لهن وسيلة للحبل، وغير المتزوجات يهرولن إليه ليخط

لهن دعاء يسرع زواجهن ومنهن من تحمل ابنها الوجع أو ابنتها المريضة ليمر الدرويش يده على رأسه أو رأسها. والخرافيات الجاهلات منهن يعتقدون أن الجن طوع إرادته، ورهين إشارته إلى غير ذلك من الاعتقادات العجيبة المضحكة.

وقد عن لي عام ١٩١٨ أن أعجم عود هؤلاء الدراويش واطلع على معتقداتهم وآرائهم وإن أتفهم (نفسياتهم) واعلم سبب تفضيلهم حياة التسول والاستجداء على العمل والجد فاتصلت بكثيرين وخالطتهم طويلا فعزفت أسرارهم ورموزهم وألقابهم وشاهدت فيهم الفاضل المهذب والعفيف الورع، وشاهدت فيهم الجاهل المغفل والخبيث السفيه. كما فيهم المعتقد بتقمص الأرواح، والمؤمن بالحلول والقائل بالتناسخ، بل فيهم الملحد المتظاهر بالدين كذبا، كما فيهم المعتقد بألوهية علي بن أبي طالب (ع)، ومنهم من يعتقد بنبوته وخيانة (جبريل) لرسالته لأنه بلغ الرسول بالنبوة والرسالة بدلا من علي بن أبي طالب. وقد دونت حياة عشرة دراويش وهي ملأى بالحوادث والوقائع والاعتقادات الغريبة العجيبة.والذي اكتبه الآن هو نتيجة تحقيقي وثمرة بحثي الطويل وهو غير مستند إلى كتب وأسفار، بل استقيته من الدراويش مباشرة وأخذته من أفواههم فالدرويش هذا - ولا ريب عندي - هو من صعاليك فلول المتصوفة.

واقصد بفلول المتصوفة أصحاب تلك الطرائق التي أخذت التعاليم والآداب من السنة والشيعة والإسماعيلية والباطنية والحلولية كالبكتاشية والمولوية والقزلباشية والعلوية والعلي اللاهية. والسبب الذي دعاني إلى أن أعتقد بهذا الشيء هو إنني وجدت عند درسي الدراويش وتدويني تراجم أحوالهم أن بعضهم يعتقد بالحلول وتقمص الأجسام والتناسخ كما أسلفته.

والدرويش كلمة فارسية معناها (المتسول) وهو ذلك الشخص الذي نراه أحيانا في الأسواق والشوارع منشدا شعرا بالفارسية غالبا أو العربية أحيانا في مدح آل البيت ولهذا ولأمثاله أي للدرويش المتسولين - تكية خاصة بهم يلجئون إليها في كل مساء ليتناولوا فيها طعامهم ويتحادثوا في شؤونهم برئاسة (البير) أي الشيخ أو الرئيس، وهذا البير هو الذي يدير شؤون التكية ويعلم المريدين أو المنتسبين إلى الطريقة كيفية الاستجداء والتسول. ولبعضهم

نفوذ عظيم وكلمة مسموعة فيخضع لأمره الدراويش جميعهم ولا يترددون في تسليمه جميع ما حصلوا عليه في يومهم وهو الذي يقسم بينهم الدراهم بالسوية ويهيئ لهم الطعام.

وهؤلاء الدراويش لا يربط بعضهم ببعض رابطة فكرية أو فلسفية ولا يجتمعون على مبدأ واحد بل رابطتهم الوحيدة هي التسول والاستجداء وليس هناك شئ من الرسوم أو العوائد التي يجب أن يراعيها من يريد أن يتدروش (أي يكون درويشا) ويكفي لمن يريد أن ينظم في هذا السلك أن يكون ذا صوت شجي رخيم ويحفظ كثيرا من الشعر الفارسي في مدح آل البيت وشجاعة عند الاستجداء مع قلة حياء.

وهم متفرقون في الأقطار والمدن التي فيها مزارات مقدسة وهم اصبر خلق الله على احتمال المصائب والرزايا فلا يبالون بلفحات الحر ولا بلسعات الشمس المحرقة ولا بصولات برد الشتاء كما لا يستقرون في بلد ولا يسكنون في مدينة، كأنهم مأمورون على ذرع فضاء الله.

للدرويش لباس خاص وبزة غريبة هي أعجوبة من العجائب ومنظر فظيع يستوقف الناظر إليه فيدهشه، فيخيل إلى الرائي إذا نظر إلى الدرويش أنه يرى مخلوقا اقرب إلى الوحش منه إلى الإنسان. يتقوم لباس الدرويش من قلنسوة طويلة من اللبد الأبيض ضاربة إلى صفرة موحشه بآيات قرآنية ومطرزة بأبيات فارسية تتوسطها طرة كتب فيها (بندة) علي) أي (مملوك علي بن أبي طالب وتحت هذه القلنسوة شعر طويل مسترسل كالجدائل على كتفيه فوجه أشعت اغبر قد التصقت في أسفله لحية نتنة هي أشبه شئ بالمخلاة من ثوب خلق فوقه جلد طويل من جلود النمور أو الخراف من جراب فيه أنواع من الحاجيات الصغيرة كالإبرة والخيط والمقص ومن صرة فيها أنواع الحشيش والأفيون من قدوم ذات حدين منقوشة عليها أبيات فارسية وكلمات مأثورة لأكابر المرشدين منهم.

ألقابهم. درجاتهم. رموزهم

وللدراويش ألقاب وكنى ما عدا أسماءهم الأصلية ولكل درويش اسم عادي كقاسم ومحمد وتقي وغير ذلك. واسم آخر هو اسم الدروشة مثل (بندة علي) أي مملوك علي مع لقب خاص جميل لطيف الواقع على السمع مثل (كل) أي ورد و (بهار) أي ربيع و (آزاد) أي حر و (نور خدا) أي نور الله و (خدا داد) أي عطاء الله و (بي بروا) أي غير مبال و (خردمند) أي العاقل و (كل دسته) أي حزمة ورد أو باقة زهر.

لا يجتمع الدراويش لذكر أو تلاوة دعاء أو ورد أو غير ذلك إلا في العشرة الأولى من المحرم فيعقدون مجالس خلال تلك الأيام للعزاء بعد أن يكونوا قد نصبوا خيمة كبيرة

واسعة في صحن المزارات المقدسة وهم يعلقون على الجدران المظللة بالخيمة فدائم وهراوات وطاسات وكشاكيل ويوقدون الشموع في كل ليلة من الليالي العشر الأولى من المحرم ويقرءون المآتم. وفي اليوم العاشر يخرجون جماعة واحدة وقد نشروا شعورهم على أكتافهم وحملوا كشاكيلهم وأبواقهم وهم ينشدون نشيدا واحدا لا يتغير وهو:نادوا عليا عليا يا علي، وبين آونة وأخرى يخرج أحدهم قرنا ينفخ فيه فيتبعه الباقون فينفخون في القرون فتفزع النساء ويهرب الصبية.

إلى القارئ:

دونك مقالا طريا طريفا لم تطالع نظيره في الصحف أو المجلات، وبالأخص لان المستشرقين الذين عالجوا هذا الموضوع لم يقفوا على كل ما فيه من دفائن الأسرار، فجاء كاتبنا أحمد حامد أفندي الصراف ووفى البحث حقه، فنوجه الأنظار إليه.(لغة العرب).

مجلة لغة العرب ــ السنة السادسة ١٩٢٨