د بشرى سكر خيون
تعّد هذه الحادثة تعبيراً عن الشعور الوطني والقومي المتنامي لدى العراقيين ضد الصهيونية ومخاطرها، فقد أدرك العراقيون منذ البداية، وعند صدور وعد بلفور عام 1917، خطر هذا الداء الوبيل، وظهر ذلك بوضوح عندما جاءت زيارة الزعيم الصهيوني الفريد موند للعــراق في 8 شباط عام 1928،
وانطلقت مظاهرات الشجب العفوية التي عبَّرت عن الحماس الطلابي المعارض للصهيونية، والمدافع عن عروبة فلسطين. وكان للاحداث الدامية التي جرت في فلسطين ما بين عامي 1925-1927 صداها العميق بين ابناء الشعب العراقي، فقد عقدت الاجتماعات، وارسلت الاحتجاجات الى السلطة البريطانية ضد هذه الاعمال، وجمعت الإعانات المالية لمساعدة الفلسطينيين. ولاسّيما أنّ شهر شباط من العام المذكور قد شهد تأزماً واضحاً جاء نتيجة لوفاة الشيخ ضاري المحمود أحد زعماء ثورة العشرين، والتظاهرات الصاخبة التي رافقت تشيعيه في الأول من شباط، والتي أَبدت سخطها على النفوذ البريطاني.
وعندما عرف الطلبة بخبر هذه الزيارة، من خلال مجلة (الشرق الادنى) التي تصل العراق من القاهرة، والتي نشرت أنّ السير الفريد موند سيأتي في زيارة إلى العراق، اخذ حسين جميل الذي قرأ الخبر أتصل بزميله عبد القادر اسماعيل، الذي كان معه في الدراسة الثانوية وشارك في الحركتين الطلابيتين السابقتين، وأَعلمه بالخبر، وسأله عن رأيه في التظاهر احتجاجاً على تلك الزيارة وشجباً للحركة الصهيونية، فأيدّ عبد القادر هذه الفكرة، ثم ذهب حسين جميل بعد ذلك إلى الأستاذ يوسف زنيل الذي كان معتمداً لنادي التضامن الذي كان حسين جميل عضواً فيه، وعرض عليه فكرة المظاهرة فأيدّه في ذلك. اتصل بعد ذلك بطلاب كلية الحقوق ودار المعلمين والثانوية المركزية. ثم نشط حسين جميل وزميله عبد القادر في إعداد اللافتات اللازمة لاستنكار الزيارة، لهذا أخذت الشرطة تراقب محلّ الخطّاط الذي أعدّ اللاّفتات المذكورة لمعرفة من سيأتي لتسلُّمِها وربّما لهذا السبب أخذت الحكومة موقفاً مشدّداً ضدهما (حسين جميل وعبد القادر اسماعيل)، وجعلت قرار الطرد من كلية الحقوق طرد نهائياً، دون غيرهما من الطلبة. اتخذت الاستعدادات للتظاهر، وهيَئت مستلزمات المظاهرة، وحدَد موعد انطلاقها، بعد معرفة اليوم الذي سيصل فيه الفريد موند إلى بغداد، و التحضيرات التي تقوم بها مدرسة التقدم اليهودية والطائفة اليهودية لاستقبال الزعيم الصهيوني. وقبل ظهر 8 شباط انطلقت مظاهرة طلابية كبيرة بهدف منع وصول الفريد موند إلى بغداد، اخترقت هذه المظاهرة شارع الرشيد وهي تحمل اعلاماً ولافتات كبيرة كتب عليها (ليسقط وعد بلفور، ولتسقط الصيهونية، ولتحيى الأمة العربية، فليرجع الفريد موند الزعيم الصهيوني)، وعَبَرت هذه المظاهرة إلى جانب الكرخ، فانضمَت اليها جموع كبيرة من الأهالي، حتى تجاوز عدد المتظاهرين عشرين ألف نسمة، أخذ المتظاهرون يوقفون كلَّ سيارة قادمة لأجل التحقَّق من هوية الركاب، وهم يهتفون بشعارات مناهضة للصهيونية، فطلبت الحكومة من الشرطة تفريق المتظاهرين، فاشتبك الطرفان في معركة حامية، جرح فيها الكثير من الطرفين أدركت الحكومة خطورة الوضع، فأرسلت مدير الشرطة حسام الدين جمعة مع قوة مسلّحة لملاقاة موكب موند، والطلب منه تغيير طريق سيره، وفعلاً وصل بغداد عن طريق الكاظمية، وحلَّ ضيفاً في دار المندوب السامي، أماّ حاشيته فقد استضافهم أحد أثرياء اليهود وهو اليعازر خضوري.
انتشرت أخبار هذه المظاهرات في بعض أرجاء العراق والوطن العربي أيضاً عن طريق وكالة رويتر التي نقلت الخبر، الأمر الذي جعل المندوب السامي في موقف حرج، لهذا أرسل نسخة من برقية رويتر إلى الملك، وإلى رئيس الوزراء،و إلى وزيري الداخلية والمعارف، زاعماً أنّ هذه المظاهرات حطَّمت سمعة العراق في أوربا وفي العالم المتمدّن، ومطالباً بضرورة منع حدوث مثل هذه المظاهرات في المستقبل. لذلك بادرت السلطة إلى سلسلة مـن الاجراءات القمعية، وكان في مقدمتها اعتقال أكثر من أربعين شخصاً من الأهالي والطلاب، كما داهمت الشرطة (نادي التضامن) الذي كان ملتقى العناصر الوطنية والمثقفة، وأَبعدت رئيسه يوسف زنيل باعتباره الرأس المدّبر لهذه المظاهرات. كما أَصدر وزير المعارف أَمراً إلى مديري المدارس والمعلمين في بغداد، هدَّد فيه بإطلاق النار على الطلبة لمنع حدوث اضطرابات أخرى في المستقبل. وأَصدرت وزارة المعارف أَمراً بطرد الطلاب الذين أُلقي القبض عليهم طرداً نهائياًومنهم حسين جميل وعبد القادر اسماعيل وكذلك مزاحم ماهر وسعيد عباس السامرائي وصالح عبد الوهاب وعبد الحميد الخالدي وعبد الرزاق قاسم وعبد اللطيف محيي الدين وأدهم مشتاق وغيرهم من المدرسة الثانوية، كما طرد ستة من الطلبة لمدة شهر واحد وطالبانِ لمدة أسبوع واحد. وهكذا واصلت السلطة كبح جماح الحركة الوطنية، وأصدر مجلس الوزراء مرسوماً يخوّل وزير المعارف حقّ جلد الطلبة وطردهم، ومرسوماً آخر يخِّول وزير الداخلية منعَ التظاهرات ووضع الاشخاص تحت الرقابة، وكلا المرسومين يتضمّنُ اثراً رجعياً وتقيداً واضحاً. ونتيجة لذلك هاجمت الأحزاب والصحافة والطلبة الحكومة على إصدارها تلك المراسيم، وعلى إجراءاتها التي اتخذتها بحقّ الطلبة.
وأثارت اجراءات الحكومة القاسية الحركة الوطنية، واجتمع عدد من الأهالي في جامع الحيدر خانة في بغداد في 10 شباط عام 1928، للاحتجاج على سياسة الحكومة ازاء المتظاهرين في 8 شباط، ولإعلان سخطهم الشديد على وعد بلفور القاضي باتخاذ فلسطين العربية وطناً قومياً لليهود، وتعالت الهتافات المدوية بسقوط الصهيونية، وبحياة الأمة العربية، واتخذت الشرطة التدابير الصارمة لمنع توسع هذه الحركة، وقبضت على بعض الخطباء، وفرَّقت المتجمعين بالقوّة والعنف. وقدّم حسين جميل مع الطلبة المفصولين عريضة للحكومة، احتجُّوا فيها على القرارات القاسية بحقهم، في وقت كانوا يدافعون فيه عن قضيتهم القومية، وحصلوا على تأييد نوّاب المعارضة الذين دافعوا عنهم، واتَّهموا الحكومة بمنع الطلبة من التعبير عن شعورهم الوطني، فقرَّرت الحكومة إعادة الطلبة المفصولين إلى مدارسهم لكن في السنة التالية. أَمّا حسين جميل الذي طرد نهائياً من كلية الحقوق، فقد سافر في السنة نفسها إلى دمشق ليواصل دراسته هناك، لذا فإنّه لم يخسر تلك السنة الدراسية، وقد ساعده بعض رجال الحركة الوطنية في سوريا للتسجيل في معهد الحقوق في دمشق. وقد جرى توديع حافل له من قبل زملائه الطلبة. ولابّد من القول إنّ هذه المظاهرة أَكسبت الطلاب تأييداً واسعاً بعد أن نجحوا في تقييد حركة موند في بغداد، وعكست المظاهرة بشكل واضح الشعور والوعي الوطني والقومي للطلبة، واعتزازهم بشعبهم العربي والفلسطيني خاصة.
عن رسالة (حسين جميل ودوره السياسي في العراق حتى عام 1954)