إعداد ذاكرة عراقية
الهزة الأولى
حدثت في حياته وهو طالب في المدرسه العسكريه قصة غريبة هزت كيانه بعنف. فقد كان والده يدفعه الى مواصلة التعليم حتى وصل الى مدرسة كانت معدة لتخرج الضباط والعسكريين وفجأة اخرجه والده من المدرسة قبل ان يكمل دراسته.
وظن ان الاسرة قد لحقت بها خسارة فادحة في التجارة ولكنه وجد الاسرة تعيش في نفس المستوى المادي المعقول كما كانت تعيش من قبل ولم يلاحظ تغييراً في حالة التجارة والقبانة التي يمارسها والده، الا ان الجيش العثماني اخذوا اثنين من اخوته للخدمة العسكرية في الحرب العالمية الاولي (السفر بر ولم يعودا، وافاق الشاب محمد القبانجي من الصدمة المزدوجة صدمة فقده اثنين من اخوته وصدمة اخراجه من المدرسة العسكرية التي كانت ستجعل منه ضابطاً ورويداً رويداً احس بالهدوء وبالسرور حيث أدرك أن المدرسة والخدمة العسكرية كانت ستحول بينه وبين ممارسة هوايته للغناء والموسيقى وبدأ يعمل مع عمه في مهنة القبانة بسوق الجملة للفواكه في (علوة جبر) الواقعة في منطقة الشورجة وبعد أن أصبح (قبانجيا) في خان الشابندر في الشورجة أخذ يتردد على المقاهى فأستهوته مقهى كان صاحبها اسمه قدوري العيشة
هزة المقهى الأول
كان اغلب روادمقهى قدوري العيشة من المغنين والموسيقيين من بينهم قدوري العيشة نفسه وسيد ولي ورشيد القندرجي ومحمود الخياط حيث بدأ القبنجي يجالسهم ويستمع اليهم بشغف وينصت لادائهم وقد توثقت صداقتة مع الاستاذ قدوري العيشة الذي كان في حينها الوحيد الذي يجيد القراءة والكتابة من بين بقية قراء المقام من جيله، وذلك ما جعل حفظه للشعر يزداد وتتسع دائرة معلوماته قياسا بزملائه كان القبانجي يقول عنه (كان العيشة يدندن ويلحن ويغني وانا اقرأ له الشعر من نظمي وكان العيشة يستفيد مني في هذا المجال فيما حفظته من الشعر مما جعلني استزيد من حفظ الشعر قبل الغناء وصولا لتحقيق حلمي في ان اكون مغنيا وقارئا للمقام على اساس جديد). لقد اعجب قدوري العيشة بالشاب محمد القبانجي لسببين وهما (جمال صوته وحفظه مئات الابيات من قصائد الشعر النفيس فقدمه قدوري العيشة لمشاهير المطربين والمغنين من قراء المقام الذين لم يبخلوا عليه بالتدريب وشرح اصول الغناء والموسيقى في مقابل ان يقرأ عليهم القصائد التي يحفظها لكبار الشعراء
يروي لنا الاستاذ (ثامر العامري في صفحة 16 – 21 في كتابه - شخصيات عراقية - محمد القبانجي الذي صدر عن دائرة الشؤون الثقافية العامة في وزارة الثقافة والإعلام - سنة 1987 – بغداد...حيث يقول:
"وفي مقهى قدوري العيشة طُلبَ ذات يوم من الشاب محمد القبانجي أن يغني شيئا مما حفظه من المقامات وكان السائل هو المطرب سيد ولي و قال بالحرف الواحد:" يا محمد أنت لك خمس سنوات متابعة في هذه المقهى ماذا تعرف عن المقام نريد أن نسمعك"
فلبى الطلب وغنى و بعد الإنتهاء قيل له أنك احتفظت بالجوهر و لكن لماذا لم تتبع طريقتنا في الاداء؟ فرد عليهم قدوري العيشة "أنه أحسن منا دعوه يغني حسب طريقته الجديدة وجميل أن يحتفظ بجوهر الغناء".
وعن هذه التساؤلات يعقب الأستاذ محمد القبانجي بقوله" الحقيقة أنا لم أرفض طريقتهم في الغناء لكنني لم أتقيد بهم و كنت ولم أزل مقيماً للمطربين الذين ساروا على الطريقة القديمة للمقام البغدادي أمثال رشيد القندرجي و الحاج نجم الشيخلي و الحاج عباس طمبير و السيد جميل البغدادي" ومن هنا تتوضح لنا أكثر فأكثر أخلاقية القبانجي وأدبه الرفيع الذي حببه إلى قلوب رواد المقهى و جلاسها من القراء و عشاق المقام على حد سواء".
هزة التسجيل الأول
من محاسن الصدف ففي سنة 1925 وصلت الى بغداد بعثة من شركة (هزماستر فويس) البريطانيه كان هدفها تسجيل بعض اغاني مشاهير الفنانين في العراق واستمع خبراء الشركة الى الكثيرين الذين كانوا يكبرون محمد القبانجي سناً ومقاماً وشهرة ولكهم توقفوا مبهورين وهم يسمعون صوت الشاب محمد القبانجي.. وكان في أواسط العشرينات من عمره فسجلت له الشركة مجموعة من الاسطوانات تفوق عدد ما سجلته للمطربين الآخرين ويبدو ان هذه الاسطوانات لاقت رواجاً كثيراً خلال السنوات الثلاث التالية فقد فوجئ محمد القبانجي بدعوة من شركة بيضافون في عام 1928 لتسجيل جميع المقامات العراقية والاغاني التي تسمى بستات في أكثر من سبعين اسطوانة بصوته فقط دوناً عن غيره من المطربين كان في السابعه والعشرين من عمره وكانت هذه الفرصة التي اعدها له القدر مكافأة له على اخلاصه لاسرته ووفائه لاهله فقد انتهت مشاكله المادية وعادت الاسرة لتعيش في مستوى كريم ونجح نجاحاً كبيراً برغم انه لم يكن قد درس الموسيقى والغناء في معهد متخصص او في اي مدرسة وكان هذا الحدث حدثا مهماً ليس في تاريخ محمد القبانجي وانما في تاريخ الموسيقى العربية والعراقية بشكل عام.
هزة المحكمة الاولى
في لقاء مع القبانجي نشرته مجلة (كل شيء) عام 1964 جاء فيه على لسان القبنجي فيقول" اول تعامل لي مع المحاكم بدأت سنه 1926 عندما أثيرت حولي ضجة مفتعلة بسبب أغنية عاطفية قادتني الى سوح العدالة التي برأتني بعد تعيين محكّمين من قبلها افتت بأنني بريء وما قلته كان صادرا عن قلب صاف عاشق معجب بآخرين ". كانت تلك بسبب أغنيته (سودنوني هالنصارى) حيث عندما سجل محمد القبنجي أغنية(النصارى سنه 1925 مع ما سجله من مقامات وأغنيات عديده لحساب شركة هزماستر فويس، تقدم صحفيّ مسيحيّ ببلاغ يتهمه بالطائفية أيام لم يعرف العراق معنى الطائفية هناك اجتمع المسيحيون في (عكد النصارى وكتبوا بلاغاً بأسمائهم وقدّموه إلى المحكمة يعلنون وقوفهم مع القبانجي مما دعاه أن يردّ لهم التحيّة بأحسن منها ويُغنّي لهم (أنا مغرم بالنصارى بنوع من الامتنان والعرفان بالجميل.
هزة مؤتمر الموسيقى العربية
عندما قررت الحكومة العراقية قبول الدعوة للاشتراك في المؤتمر الاول للموسيقى العربيه في القاهرة عام 1932 كان قرارها مشروطا بان يكون ما يقدمه الوفد العراقي خاصا بالعراق وليس مشابها لما تقدمه وفود الدول العربية الاخرى. اي ان يكون ما يقدمه الوفد العراقي مقتصرا على المقام العراقي فقط وقد وقع الاختيار على الاستاذ محمد القبنجي مشاركاً وحيداً في الغناء ليس فقط لاتقانه اداء المقام بل لانه خلافا لغيره من قراء المقام لم يكن يخطيء في القواعد والنحو، فقد كان شاعرا واديبا وعين رئيسا للوفد وهذا دلالة على ثقة الدولة بهذا الفنان الكبير.
وبما ان الاختيار وقع على المقام العراقي فالتخت المرافق عادةً يتكون من الجالغي البغدادي التقليدي والذي يتكون من (الجوزة والسنطور والرق والطبله والنقارة). الا ان الاستاذ القبنجي وفي مؤتمر الموسيقى في القاهرة عمل على أدخال بعض الالات الموسيقيه الحديثه كذلك غّير في الزي الذي يرتديه العازفين حيث ان ملابس عازفي الجالغي البغدادي كانت تقليدية والتي غالباً ما كانوا يرتدونها في حفلات المقام التي تقام في بغداد ولم يكونوا معتادين على ارتداء الملابس الفرنجية الحديثة كما يليق بمن يحضر مؤتمرا دوليا .
وتستمر الهزات القبانجية غير ان الهزة الاخيرة كانت هزة الاعتزال والرحيل وهي
الهزة الأخيرة
واعلن القبانجي اعتزاله الفن وهو في قمة عطاءه في يوم 28/5/69.وكان الاستاذ القبانجي قد عقد العزم لبناء بيت له ولعائلته الا انه غير رأيه وقرر ان ينبي جامع نتيجة رؤيا أتته في المنام المساحة الكلية للمسجد 1010م2 ويستوعب لحوالي 450 مصلِّ وقد خط الأستاذ وليد الاعظمي كافة الآيات في الجامع وفي يوم افتتاح الجامع سنه 1977م كان القبانجي أول من أذن وخطب فيه.
في مستشفى ابن البيطار مساء يوم الاحد الثاني من نيسان عام 1989 أنطفأت تلك الشمعه المتوقده بعد ان خدم المقام أكثر من نصف قرن عن عمر يناهز الثامنه والثمانين عاماً تاركاً خلفه تراثاً موسيقياً لا مثيل له وضعه بلا نقاش على عرش المقام العراقي سيدا دون منازع ودفن في جامعهِ (جامع القبانجي) في منطقة الحارثيه – شارع دمشق - جانب الكرخ من بغداد والذي بناه من ماله الخاص
اعتمد في إعداد هذا العرض على البحث المعد من قبل بحث وأعداد الباحثتين القديرتين الدكتوره نجوى الكوتاني و فاطمة الظاهر.