إسماعيل الشيخلي يجيب على سؤال عن الفن  والحياة العربية

إسماعيل الشيخلي يجيب على سؤال عن الفن والحياة العربية

(عرضت مجلة الأدب عام 1964 السؤال التالي على جماعة من المشتغلين بالفن في مختلف الأقطار العربية وقد أجاب أربعة فنانين منهم الفنان اسماعيل الشيخلي

لقد ظل العالم العربي متخلف ولمدة طويلة عن بقية الأمم في مضمار التقدم العلمي وفي الميدان الاجتماعي والسياسي، ونتيجة حتمية لذلك أنعكس هذا التأخر على الواقع الاجتماعي فأدى إلى تأخر في الفكر والأدب والفن

كان العالم العربي أشبه بالبقعة المنعزلة عن بقية العالم وكان قليلاً ما يتأثر بالتيارات الفكرية التي تضطرب في عصرنا، على أن هناك ما يستحق أن نشير إليه وهو مدرسة بغداد للرسم في عهد الحكم العباسي والتي انتهت بانتهائه.

وقد كان الواسطي من أبرز للرسامين في تلك الحقبة. على أن التجربة التي عاناها العراق وبقية الأقطار العربية خلال الخمسين سنة المنصرمة من حيث اتصاله بالعالم المتحضر وتأثره بما يبدع هذا العالم في ميادين العلم والصناعة والفكر قد أدت إلى لون من (الأخذ) وأشك أن يكون تمثلنا لمختلف التيارات الفكرية والفنية التي اقتبسناها من الغرب عميقاً وصادقاً وذلك لاختلاف واقعنا المتخلف عن واقع الغرب الطبيعي، فلنأخذ المدرسة التكعيبية مثلاً أن ظهور هذه المدرسة في العالم الغربي له ما يبرره لأنها شكل فني نتج عن أشكال فنية سابقة، ونستطيع أن نقول مثل ذلك عن بقية المدارس الفنية هناك، ومعنى هذا أن ظهور اتجاهات تكعيبية في بلادنا لا يمثل واقعاً صادقاً من حيث نوعية الإنتاج فحسب، بل ومن ناحية الظرف التاريخي الذي نجتازه في الوقت نفسه. والحركة الفنية في العراق تبعاً لهذا لم تكتسب حتى الآن صفات معينة وشخصية واضحة في الشكل وفي المضمون. والحق أن الحركة الفنية عندنا لا تمثل إلا بلبلة واضطراباً سببهما تخلف الشخصية العراقية في التعبير عن حالتها وبيئتها وأوضاعها التاريخية.

على أن العراق مقبل على تقدم كبير في حياته الاجتماعية والاقتصادية والثقافية، ولا بد أن يترك هذا التقدم طابعه ألتأثيري في أنتاج الفنانين، ولا بد من جهة أخرى أن يستلهم الفنانون العراقيون هذه الحياة الجديدة وأن يخلعوا عليها طابعهم العراقي الخاص. وفي رأيي أن هناك مرحلة يجب أن يعمل لها الفنان العراقي تتعلق بصلته بالجمهور غايتها تنمية الذوق الفني لدى الجمهور، وذلك لا يتم بغير التقرب من هذا الجمهور من مشاغله، من أحاسيسه، عن طريق التعبير عن موضوعات عامة وخاصة تتصل بحياته اليومية اتصالاً مباشراً بحيث تدنيه – أي الجمهور – من واقعه، على ألا يحمل هذا الإنتاج في الوقت الحاضر أكثر من الغاية التي نتوخاها وهي أنما الذوق الفني والحاسية الجمالية والشعور الفني عنده.

أن العلاقة الطبيعية بين الفنان والجمهور ستؤدي بلا شك إلى التأثير على نوعية الإنتاج الفني وعلى ذوق الجمهور معاً فيؤثر أحدهما على الآخر حتى يأخذ الفن شكلاً أو أشكالاً أصلية معبرة عن حاجات ذلك الجمهور ومدركة من قبله في الوقت نفسه.

دجلة وبغداد ثم البعوث الفنية ترسل إلى أوربا من قبل وزارة المعارف العراقية ومنذ سنة 1930 وبعد دراسة طويلة رجعت إلى الوطن بصيغة جديدة وبطابع أوربي وأخذ هؤلاء الفنانون العراقيون الجدد والمتعاقبون من طلابهم ينظرون إلى أوربا كمصدر للوحي والإلهام في تكوين لوحاتهم الفنية وحتى في مواضيعهم فكانت (ليدا والوزة) و (أزهار) و(منظر طبيعي) الخ.. ناسين محيطهم والبيئة التي يعيشون فيها ألا النزر القليل.

ثم ظهر آخرون يعملون التجارب الفنية على غرار الفنانين الأوربيين الذين ظهروا فيها بين الحربين مع فارق الظروف والأسباب، فأخذوا في رسم لوحاتهم وصورهم على غرار المدارس والطرق التكعيبية والسريالية أو التجريدية بصرف النظر عن الأسباب التي دعت الفنانين الأوربيين للتعبير عن تلك اللوحات وكان شأنهم في ذلك تقليد (بيكاسو) وغيره لكي يكونوا رسامين محدثين. والحق أننا نمر اليوم بمشاكل وأوضاع اجتماعية واقتصادية وسياسية وبتطورات جديدة تختلف كل الاختلاف عن الفنانين الأوربيين.

وقد لاحظنا أن المعرض الفني الهندي الذي أقيم في بغداد منذ ثلاث سنوات كان يحمل طابعاً هندياً ويتجه إلى تكوين مدرسة هندية حديثة ولا شك أن ذلك قد ترك أثراً بالغاً في نفوس الفنانين العراقيين وعند أكثرية الزوار للمعرض المذكور مما جعل الفنان العراقي يفكر في طرق آفاق جديدة للتوصل إلى مدرسة فنية عراقية أو إلى تكوين طابع محلي أو بغدادي. على أن هذا لا يمكن التوصل إليه في يوم أو سنة بل لا بد من تكاتف الكتاب والأدباء والفنانين لإيجاد الحلول والإمكانيات التي بواسطتها يمكن التوصل لطابع محلي مع الاتصال بالحركة الفنية العالمية.

ولقد أخذ الجيل الجديد في العراق اليوم يتذوق الفن بصورة مشجعة للغاية فيجب علينا تقديم المزيد من المعارض الفنية والتوسط لدى وزارة المعارف وعن طريق معهد الفنون الجميلة للاتصال بالدول الأجنبية لجلب معارض فنية سواء التقديم من أشغال مدارسهم وأساتذتهم أو المعارض وأعتقد أن على الفنانين أن يعملوا على إيجاد مجلة فنية وأدبية لجمهرة القراء المتعطشين للفنون والآداب

أن العراق يتمخض اليوم عن حركة عمرانية شاملة وصناعية ولذا وجب على المهندسين المعماريين عندنا أن يفتحوا المجال للرسامين والنحاتين لكي يرسموا صوراً جدارية ومنحوتات نصف مجسمة (الباروليف) على سطوح جدران هذه الأبنية وخاصة الحكومية منها لكي تكون على وجه أكمل، ومن الناحية الأخرى يجب الاهتمام بالفن التجاري لكي يسد حاجة الإنتاج الصناعي في البلد من صور وإعلانات وغيرها، واستخدام الفن في الأغراض الاجتماعية كالخدمات الاجتماعية وغيرها. وأن الساحات والميادين الكبيرة والجديدة التي سوف تحدث عند الانتهاء من تنظيم مدينة بغداد ستكون من أفضل المجالات للنحاتين عندنا لنصب التماثيل التي تصبح كعبة للزوار ومتنزهاً للترفيه عن الشعب وسد أوقات فراغه كما في ميادين روما وباريس ولندن

أن إنتاجنا الفني يجب أن يكون المعبر الحقيقي عن واقعنا الراهن فينبغي أن يعكس آلام الشعب وأفراحه بمواضيع اجتماعية وشعبية، والمجال مفتوح أمام الفنان وهذه المواضيع لم تطرق حتى الآن في السابق. أن الفن يتجه اليوم إلى نوع من الواقعية الجديدة، يمكن فيها تسجيل الحياة اليومية عندنا بلوحات معبرة رائعة •.

] وسيكتب الأستاذ إسماعيل الشيخلي، بعد أربعين سنة. الإشارة التالية. التي حملت عنوان ((الفنانون الرواد)) [ ـ:

كان هدف معظم الفنانين التشكيليين العراقيين العائدين من الدراسة إلى الوطن، بعد الفترة التي أعقبت الحرب العالمية الثانية هو التأكد على الهوية المحلية للفن العراقي، من خلال تحقيق سمات وخواص ورموز وطنية وقومية دون الابتعاد عن الأفكار التي كانت سائدة في العالم أو في أوربا في تلك الفترة أي ما يسمى بـ (الفن المعاصر.

وكان موقف الفنان التشكيلي يتطابق تماماً وينسجم مع الموقف الفكري والاجتماعي والسياسي للشعب العربي والعراقي بصورة خاصة حيث بدأت بوادر التأكيد على الهوية الوطنية والقومية على المستوى الفكري والثقافي العام. كالشعر والأدب والقصة.. وغيرها

وقد تعددت وتنوعت الطروحات لدى التشكيليين لتحقيق هذه الأهداف، فمنهم من أستلهم التاريخ المتمثل بالفن العراقي القديم كالفن السومري أو الآشوري والبابلي، أو الفن الإسلامي. مثل الفنان (جواد سليم) وجماعته – بغداد للفن الحديث – ومنهم من أتجه مباشرة إلى الحياة العامة للشعب العراقي يستلهم أيضاً من تراثه الشعبي ورموزه الفولكلورية، نمط الحياة في المدينة والريف، العناصر الأساسية للفن في أطار من الحداثة والتجديد من حيث الشكل مع الدراسة الجادة للفكر السائد في حينه ((كجماعة الرواد)).

ولم أكن بعيداً عن هذا التيار باعتباري قد عدت توا من فرنسا عام (1952) وكذلك باعتباري أحد مؤسسي جماعة الرواد. كان هاجسي الحقيقي ذاتي أولاً والتأكيد على خصوصيتي في الفن، وذلك باختبار مواضيعي ومضامينها ومعالجتها ((شكلاً)) وفق ما أطلعت عليه من الحركة الفنية في العالم وفي أوربا على وجه الخصوص.

شاهدت كما شاهد معظم الفنانين الشباب من العالم وعلى الأخص فناني العالم الثالث معرضين مهمين كان لهما التأثير العظيم من الناحية الفكرية والسياسية هما معرض ((عموم الهند)) وكانت قد استقلت حديثاً عام 1948 والمعرض الثاني هو معرض (الفن المكسيكي) عام 19950 فكانت حصيلة هذين المعرضين هو التأثير المباشر على الفنانين وظهور الأفكار ذات الطابع الوطني والقومي. لوجود الإمكانات الهائلة لدى تلك الشعوب لتحقيق فنون وطنية أصلية دون التأثير بالتقاليد والطروحات الأوربية المباشرة وعلى الأخص تلك التي حدثت قبيل الحرب العالمية الأولى، وما ظهر بعدها من أساليب وقيم فنية جديدة تنسجم مع ما حدث من ثورة فكرية عميقة في أوربا نتيجة للثورة الصناعية الهائلة والتي غيرت معالم الحياة بصورة جذرية كما تغيرت العلاقات بين شعوب العالم الثالث جراء الهيمنة السياسية والثقافية.

لقد تبنى الفنانين الشباب العائدين هدف تحقيق فن عراقي ينسجم مع واقعه الجغرافي والبيئي وتأريخه الثقافي وفلسفته الخاصة في الحياة في أطار من الحداثة من حيث الشكل دون المساس بالأهداف الحقيقية النبيلة للفن وهو تأكيد أعلى مراتب الجمال والسمو بالإنسان وإنسانيته.