إسماعيل الشيخلي وسؤال التأسيس

إسماعيل الشيخلي وسؤال التأسيس

عبدالرحمن طهمازي

كان آخر معرض فكّر اسماعيل الشيخلي باقامته (شباط 2002 - قاعة حوار - بغداد) مناسبة له لفتح الوثائق، فقد وضع امام المشاهدين أعمالا تعود الى ما بين عامي 1945 - 1954، ووصفها في الكلمة المؤرخة يوم وفاته (24 - 1 - 2002) بأنّها:

"عبارة عن تطبيقات ودراسات وتجارب لمختلف المواضيع والمواد لها قيمتها التاريخية،اذ تعبّر عمّا كان يدور في الوسط الفني في بغداد في فترة الخمسينات في القرن الماضي ".وفي هذا التصريح يحدّد الرسّام – حقّا- صلاحيّة اعماله المعروضة لان تكون شيئا من انواع المراجع الوثائقية اكثر من كونها معروضات متحف. ولكن هل يكفي الاختزال (الذي لا شكّ في تواضعه) ومفهوم "القيمة التاريخيّة" لتفسير الشيخوخة المبكّرة التي تعرّض لها عدد من رسّامي العراق الروّاد لاسباب تبدو اليوم مفهومة على نحو أفضل، مثل: النشاط الاجتماعي أو تغليب التعليم على الممارسة الحرّة أو تقلد بعض المناصب الرسمّية وحتى الاسهام في وضع قواعد المؤسسات النوعية للفن.. وهكذا؟. انّ هذا السؤال يحتاج الى نوع من المسايرة او السرد انطلاقا من اللوحات المعروضة وذكرياتها - والتي سبق أن عُرضت اكثر من مرة -، فهي مؤرّخة في عام تخرجّه من معهد الفنون الجميلة (في الدورة الاولى من قسم الرسم 1945 الذي أسّسه استاذه وزميله في جماعة - الرواد - فائق حسن عام 1939) ثمّ في الاعوام التي تلت تخرّجه من البوزار في فرنسا عام 1951، أي انها مرسومة بعد اكتساب التقنية أكاديميا، لكنها ظلّت تعاني من سيطرة موضوعات الهواة ولقطاتهم للطبيعة كما هي، وللمظاهر المشتركة في الحياة الشعبية لمدينة عراقيّة في النصف الاول من القرن العشرين ولبعض مظاهر الفولكلور التي نجحت في جذب الاجانب لكنها لم تكن مغرية للشعب كي يتفرج على نفسه، أمّا التقنية فلم تكن إلا أمرا خاملا على السطح، اي انه لم يجد حاجة لتوظيف مكتسباته التعليمية أكثر من استجابته البطيئة لطبيعة متوقّعة ولحياة ذات ايقاع مقرّر في العادات اليوميّة للمجتمع آنذاك.ومن الممكن فهم رتابة الرسم العراقيّ في ضوء تطلعات الرسامين الضمْنيّة في ان يتّم الاعتراف بالرسم مثل بقيّة الفنون التي كانت معروفة في المستهلكات المنزلية، أما انْ يتكرّس الرسم لتحريك الذوق ودفع تخومه فقد بدأ على يد أفراد نادرين مثل: حافظ الدروبي ومحمود صبري وجواد سليم وآخرين، حيث سمحوا للتقنيّة ان تعرض اختلافها عن الموضوع على سطح واحد (ستكون لهذه البداية استئنافات وتجاوزات منذ ستينيات القرن الماضي ليس من السهل تعيينها تماما في هذه الملاحظات؛ سنذكر: شاكر آل سعيد، كاظم حيدر، جماعة المجددين، جماعة الرؤيا الجديدة.. لكن محمود صبري ظل مثالا بارزا على صيرورة واعية لدفع تخوم المواضيع نحو سطح تصويري تبعا للمشكلات الداخلية للوحة ومضمونها المفترض - اي غير القطعي ايدلوجيا.

تأثر" اسماعيل الشيخلي " المولود عام 1924 في بغداد، أول الامر بفائق حسن وخاصة فيما يتعلق بتوفير انطباع عن لوحة ذات مساحة كبيرة والوان متضادة، لكنه ظل يحاول انتاج لوحة موحدة، وبعبارة اخرى فقد اعتقد ان البناء هو اساس اللوحة، ولم تظهر قيم استقلال الشكل واضحة في بناء جميع العناصر، بلْ اكتفى بالعمل على جزء من السطح باعتباره منظورا فضائيا او خطيا لا سطحا تصويريا، أما الموضوعات - والتي كثيرا ما كانت شخصيات - فلم يمارس عليها تجربة تجعلها موضوعات غير مطروقة، وهذا ما لم تكن " المعيشة " في المدن العراقية تجيز غيره، لذلك كانت لوحاته من بين اللوحات المطروقة أيضا: ألوانا تبهجها الشمس، سحنات ترابية سمراء، ظلالا من الملابس.. وقد حاول طوال عقد كامل - 1960 - 1971 التدخل في اعادة بناء مظاهر موضوعاته فأنشأ أشخاصا مترابطين ضائعي الملامح في محيط كلّ ما فيه -عدا الاشخاص - واضح تمام الوضوح، ثمّ انصرف عن هذه المحاولة نتيجة الطلب الرسميّ المتزايد على اعمال الفن وانغماسه في تلبية هذا الطلب والتخطيط له، وترك مبادرته تلك ناقصة ولم يطوّر كذلك محاولة قصيرة في التصميم قام بها في بداية الستينيات (ملصقات لفرقة المسرح الحديث عن مسرحيتي: أنا أمّك يا شاكر و اهلا بالحياة). فلم يكن استعداده لرسم تجريدي ميلا او قرارا اصليا (كان ذلك ايضا حال استاذه وزميله فائق حسن)، إلا أنّ الاصليّ هو ما استمرأه في اثناء تزويد الموسسّات والغرف الرسمية بلوحات غير بعيدة عن عقيدة جماعة "الروادّ" في رسم المنظر الطبيعي بالاسلوب الحديث منذ المعرض الاول للجماعة في عام تاسيسها 1950 الى المعرض الاخير (1978) والمعرض الاستعادي (1944).

انّ صورة اسماعيل الشيخليّ ستكون مقبولة ومفهومة لو حاولنا ربطها بالعلاقة بين الهواية والاحتراف، هذه العلاقة التي ظهرت في التشكيلة الاولى لجماعة "الرواد" ولم يرجح الاحتراف فيها، ممّا جعل "جواد سليم" – الذي كان يعاني من تردّد شديد الوقع بين الرسم والنحت –ينفصل عنها بعد المعرض الاوّل ويؤسّس "جماعة بغداد للفن الحديث " 1951. أمّا "محمود صبري " فكانت علاقته بنزعته التعبيريّة اقوى من تصنيف قائم على صفات الرسامين الاجتماعيّة والمهنيّة، ولم يسرف في تقدير وظيفة الجماعة الفنيّة المحلية والمكاسب الرمزية لها. أن نشوء الجماعات الفنية في العراق وانحلالها له طابع التاريخ الفنّي وعلاقاته العامة، واذا أردنا وصف قضيّة محورية كانت مدار نشاطات الجماعات الفنية التي زامنت في نشوئها بواكير اسماعيل الشيخلي (عدا جمعية أصدقاء الفن -1940)- ونضيف الى "الرواد" و"جماعة بغداد للفن الحديث " جماعة الانطباعيين التي اسسها حافظ الدروبي في 1954 – فانّ العلاقة بين الشكل والموضوع هي القضية المركزية المقترحة لذلك، وقد تجلت العلاقة على السطح التصويري بثلاثة انساق عامّة لها نماذجها في عدد من الرسامين: هناك اولا: الشكل المشترك مع الموضوع المشترك (فائق حسن – اسما عيل الشيخلي).

ياتي بعد ذلك: الشكل المستقل نسبيا مع الموضوع المشترك (جواد سليم –شاكر حسن ال سعيد) واخيرا: استقلال الشكل مع موضوع مستقل نسبيا. (حافظ الدروبي – محمود صبري).

وهذه المقترحات يمكن توقيفها او تشغيلها حسب التاريخ الذي يعقب خمسينيات القرن الماضي.

الان تصل الملاحظات الخاصة ب"اسماعيل الشيخلي" من حيث كونه رساما الى الوجه الاخر الذي عايشه هذا الرسام واحاط به، وهو القاعدة التاريخية للرسم في العراق الحديث، فقد كان من اوائل الرسامين الذين أعطوا مؤشرات الاستقلال الذاتي للرسّم العراقي من خلال المعارض الشخصية (1936-المعرض الشخصي الاول لحافظ الدروبي -1952 المعرض الشخصي الاول للشيخلي -1953- المعرض الشخصي الاول لجواد سليم).كما رافق او اسهم في ظهور المؤسسات النوعية للاعتراف بالرسم ضمن الثروات الثقافيّة الوطنية وأحاط وعاصر بدايات تنمية لغة فنية تعليمية تحولت فيما بعد الى لغة نقدية. فقد اسهم في تاسيس جمعية الفنانين العراقيين -1956 (كانت جمعية اصدقاء الفن تمهيدا لذلك في 1941) وكان احد المدرسين في الهيئة الاولى لاعادة انتاج المنتجين (معهد الفنون الجميلة -1952-68) وعاصر ورافق اماكن العرض وصالونات التكريس (1942 المرسم الحر لحافظ الدروبي. في 1950 –النادي الاولمبي- قاعة اصدقاء الشرق الاوسط –قاعة اورزدي باك -1965 –غاليري الواسطي –غاليري آيا) وكان من بين ذوي العلاقة بافراد المؤسسات النوعية كالتجار ومؤرخي الفن والنقاد وجامعي الاعمال، الذين صاروا رموزا ما على ثروة فنية، ووسطاء ومروجين لتنوير بصري والى حد ما تشكيلي. كلّ هذا حقق للرسام العراقي -في القليل –ان لا يقارن فنه بجهد عامل طلاء الجدران (وحدات السطح، وقت العمل، سعر المواد..) وانمّا يتم القياس بلغة فنية متخصصة ذات طابع دقيق لا تلتبس بلسان غيره ممّن يستعملون الموادّ الشبيهة، وكان هذا ايضا من مؤشرات الاستقلال الذاتي للرسامين في مجتمعات المدن العراقية.

ومن هنا يمكن اقتراح نقاط عديدة لبداية الرسم الحديث في العراق، لكن ما يميز هذا الفن هي محاولات استباق المستقبل، لذلك فهي محاولات بقيت جزئية، ترتبط ارتباطا وثيقا جدا بعدد متلازم من الاجواء الثقافية والسياسية.. واحيانا الاجتماعية النخبوية التي رافقت ظروف الحرب العالمية الثانية وجعلت من تلك المحاولات (حتى الستينيات التي لم تتخلص تماما من الطابع الاستباقي - الذي سمي طليعيا -) محاولات انطلاق سيكون البناء معها غير موثوق من تقدمه.