التعليم في الموصل في أيام الإحتلال البريطاني

التعليم في الموصل في أيام الإحتلال البريطاني

سفانة هزاع الطائي

تمكنت القوات البريطانية من احتلال الموصل في 10 تشرين الثاني 1918، وعين الكولونيل ليجمن (G. E. Leachman) حاكماً سياسياً وعسكرياً فيها، اما بالنسبة لسياسة بريطانيا التعليمية في الموصل، فقد اعتبرت التعليم شيئاً ثانوياً،

وكان هدفها الاساسي العمل على ضبط الامن وتحقيق السيطرة التامة لهم على العراق، وعبر عن ذلك ارنولد ولسن (Arnold T. Wilson) بقوله ((ان التعليم يجب ان يؤجل لحين تحقيق اهدافنا العسكرية))، لكن السلطة المحتلة سرعان ما ادركت انها تفتقر افتقاراً شديداً الى موظفين من اهالي البلاد وان حاجتها هذه حتمت عليها الاسراع في تأسيس مدارس واعداد الشبان للعمل في الدو ائر الحكومية

قسمت السلطات البريطانية العراق الى ثلاثة مناطق تعليمية ومنها المنطقة الشمالية ومركزها الموصل، كما عينت الكابتن بيس (E.H.Base) وكيلاً لناظر المعارف في الموصل

وفي مطلع كانون الاول 1918 وصل الكابتن بيس الموصل فقام بجولة تفتيشية في المدينة، فوجد ان فيها (6) مدارس ابتدائية رسمية للبنين وهي الوطن، دار العرفان، جامع خزام، شمس المعارف، دار الادب، رهبر الترقي. كما وجد ثلاث مدارس للبنات وهي مكتب الاناث المركزي، مكتب تدريس نمونة، مكتب هداية العرفان، ومدرسة اعدادية للبنين، ومدرسة للصنائع، ودار للمعلمين، ومدرسة تطبيقات ملحقة بها. كما وجد بضعة مدارس طائفية تعود الى الكلدان والسريان واليعاقبة واليهود.

أنشأ في عهد الاحتلال البريطاني للموصل عدد من المدارس، ففي كانون الثاني عام 1919، تأسست المدرسة القحطانية. كما أنشأت في السنة نفسها ثلاث مدارس ابتدائية وهي (مدرسة الوطن، المدرسة الخضرية، المدرسة الخزرجية) ومدرستان للاناث هما المدرسة الخزامية في منطقة السرجخانة، ومدرسة حديقة المعرفة في محلة الكوازين.

كما فتحت نظارة المعارف (صفاً ثانوياً)، في 15 ايلول عام 1919، وكان عدد طلابه (17) طالباً معظمهم من المسيحيين، وفي عام 1920 استقدمت بعض الاساتذة من لبنان ومصر للتدريس في الثانوية منهم توفيق قشوع وسامي سليم، وعبد الله الحاج ورياض رأفت.

أقدم الكابتن بيس على غلق كل المدارس الابتدائية العثمانية باستثناء مدرسة الوطن، وقرر إلغاء المدرسة الاعدادية وتوزيع طلابها بين مدرسة الوطن والمدرسة الخضرية الابتدائية، وكان من اسباب غلق هذه المدارس اعتقاده بأن تلك المدارس حزبية تعمل لصالح جمعية الاتحاد والترقي، وقرر الاستغناء عن عدد كبير من المعلمين الذين رفضوا التعاون مع سلطات الاحتلال بحجة انهم غير مؤهلين للتعليم ومنهم ياسين العريبي، مصطفى العمري، محمد رؤوف الغلامي، محمد سعيد الجليلي، عبد المجيد شوقي البكري وهم من العاملين في الحركة الوطنية في الموصل.

اما سياسة بريطانيا التعليمية اتجاه مدارس الطوائف الاخرى، فقد جعلتها تحت رعاية نظارة المعارف العامة وقدمت لها مساعدات مالية لأجل ترقيتها في حين تعاملوا مع المدارس الاسلامية عكس ذلك، اذ ألزموا طلابها على دفع أجراً شهرياً، الامر الذي دفع العديد من هؤلاء الطلاب الى ترك مقاعد الدراسة، وعليه فقد تركز اهتمام السلطات البريطانية بمدارس الطوائف ولبوا رغباتهم ولم يتركوا للاكثرية سوى مدرسة الخضرية التي تتألف من (6) صفوف، والمدرسة الخزرجية التي تحوي (4) صفوف وكذلك مدرسة الوطن، حتى لنجد ان عدد الطلاب للصف السادس عام 1919، بلغ (48) طالباً منهم (8) طلاب فقط من المسلمين.

إن هذا العدد القليل من الطلاب المسلمين الذين استمروا في الدراسة حتى الصف السادس دليل قاطع على اهتمام السلطات البريطانية المحتلة بمدارس الطوائف واهمالها لمدارس المسلمين، اذ انها كانت تضع الكثير من العقبات وخاصة الاقتصادية امام الطلاب المسلمين، ولما كان دخل اغلب أسر هؤلاء الطلاب محدوداً، فقد قام أولياء امورهم بأرسالهم لتعلم مهن يحصلون منها على المال بدلاً من ارسالهم الى مدارس تكلفهم الكثير من المال الذي هم بأمس الحاجة اليه. كما ان عدم اهتمام السلطات المحتلة بمدارس المسلمين يؤكد مدى حقدها على المسلمين ومحاولتها طمس حضارتهم وشعورهم الوطني القومي.

واهتمت السلطات البريطانية بمدارس البنات المسيحية واليهودية، ففي الوقت الذي كانت نظارة المعارف العمومية، تعمل ببطء لفتح مدارس للبنات المسلمات، كان هناك عدد كبير من مدارس البنات الخاصة بالطوائف المسيحية والبعثات التبشيرية والاليانس (الاسرائيلية)، وكانت حصة ولاية الموصل من هذه المدارس كبيرة.

وعمد المحتلون فيما يخص المناهج الدراسية على بث روح الاستكانة بين النشئ الجديد والتخلي عن التقاليد القومية عن طريق قطع الصلة بين الناشئة وبين امجاد الامة التاريخية لكي لا يطلعوا على سير ة ابطال العرب وحضارة الامة العربية، لكي لا يغرسوا في نفوسهم العزة القومية فيطالبوا المستعمر يوماً بحقوقهم.

وفضلاً عن ان منهج التعليم الابتدائي كان فيه الكثير من العيوب منها زحمة المواضيع التي يدرسها الطالب فقد كان طلاب الصفين الاولين مكلفون بمعرفة قواعد اللغة العربية، وحفظ قطع من النظم الشعرية والنثرية ومنها غريب الالفاظ وحفظ المصطلحات الجغرافية وبعض الوقائع التاريخية وغيرها من الدروس التي حشرها المستعمر والتي لا تجدي الطالب نفعاً سوى التعب وبذل جهد مضاعف. وكانت الساعات المخصصة لتدريس اللغة الانكليزية اكثر من الوقت المخصص لتدريس اللغة العربية، اذ تتناقص ساعات تدريس اللغة العربية مع تقدم الطالب في الصفوف

ولأجل التصدي للسياسة التعليمية البريطانية، ومن اجل الحفاظ على القيم الدينية والتراث العربية، رأى احرار الموصل ضرورة القيام بأنشاء مدارس تلقى فيها العلوم الدينية والفنون الحديثة، فتم عام 1919 افتتاح ((مدرسة النجاح الابتدائية)) في مدرسة الخياط الدينية بمحلة امام ابراهيم، لتكون بمثابة مركزاً للنهضة الفكرية والوطنية في الموصل. وأدت دوراً كبيراً في تغذية الحماس القومي من خلال الاناشيد الوطنية التي ينشدها الطلاب والمحاضرات التي يلقيها الاساتذة والتي تثير روح الاعتزاز بالعروبة وبأمجاد التاريخ العربي، مما جعل سلطات الاحتلال البريطاني تشدد الرقابة على المدرسة. كما داهمت منازل بعض الاساتذة واعتقلت بعض المدرسين منهم محمد رؤوف الغلامي وأخوه محمد نذير الغلامي.

وبعد انشاء مدرسة النجاح الابتدائية، فكر (مصطفى ذهني حسين آغا الجليلي) بضرورة تأسيس مدرسة اسلامية علمية دينية، فتم فتحها في الجامع الكبير (النوري) أواخر عام 1919 وبسبب نهجها القومي وبثها النزعة العربية بين طلابها أوجست السلطة المحتلة خيفة منها، فحاولت استمالة ادارتها والسيطرة عليها عن طريق المساعدات المالية، لكن المدرسة استمرت بنهجها في تنمية الشعور الوطني والقومي وبث الدعاية للاستقلال بين طلابها، لذلك عملت السلطة المحتلة على إثارة المشكلات امامها، لكن هذا لم يثنها عن نهجها الوطني والقومي والديني والتربوي.

يظهر من خلال السياسة التعليمية البريطانية، انها عملت على بذر بذور الشقاق بين ابناء المجتمع العراقي، بتمييز ابناء الطوائف على ابناء المسلمين وذلك بفتح العديد من المدارس للطوائف المسيحية واليهودية، وتقديم المساعدات المالية لهما، في حين لم تهتم بمدارس المسلمين، كما ألزمت طلابها بدفع مبلغ من المال، وبهذه السياسة (سياسة فرق تسد) تتمكن من اضعاف اواصر الترابط والمحبة في المجتمع العراقي، وتمنعهم من التماسك والتوحد والمطالبة بالاستقلال، وبذلك تتمكن من السيطرة على العراق، وكانت تهدف بهذه السياسة الى جعل ابناء الطوائف يحتلون المراكز العليا في الدولة لاستخدامهم كأداة لتنفيذ سياستها الاستعمارية.

عن رسالة(الموصل في سنوات الانتداب البريطاني)