شكيب كاظم
أتابع ما يكتبه الناثر الشاعر عواد ناصر على صفحات عدد من الجرائد العراقية والمجلات من مقالات مكثفة مركزة، يكتبها بلغة رشيقة أنيقة، تدخل ذائقتك وحواسك من غير استئذان، بسبب كثرة الماء والرواء فيها، بخلاف كتابات مترهلة، ذات لغة صخرية متصحرة، يصك بها عيوننا وأسماعنا بعض الكتاب،
لذا ما إن علمت بأن (دار المدى) قد نشرت كتابه الشعري الموسوم بـ (احاديث المارة) سنة 2013، حتى اقتنيته من معرضها بمنطقة السعدون، ولك أن تتصور كيف يأتي شعره وهو الذي يصب نثره بلغة تقترب من الشعر تركيزاً وألقاً.
أمضيت وقتا ليس بالقصير وأنا اقرأ قصائده، لأنني أقرأ الشعر مهلاً وبتؤدة وتمعن، كي تستذوق مفرداته، وتتشرب صوره وأخيلته، فالشعر لا يعب عباً، واذا كنت حين اقرأ المجموعات القصصية، أقرأ – غالباً – قصة واحدة في جلسة واحدة، كي لا تختلط أجواء هذه القصة بالتي تأتي بعدها، ومن أجل مزيد من الإمتاع والتذوق، فكما لا يستحب الانتقال في الطعام من لون الى آخر، فكذلك لا يستحب الانتقال من قصة الى أخرى خشية التداخل، وهذا ما الزمت به نفسي في قراءة قصائد هذا الكتاب الشعري، ولكن ليس بمعنى قراءة قصيدة واحدة، ولكن لأشير الى التمهل في القراءة والثمل بها.
لقد أوضح لنا الشاعر عواد ناصر في مقدمته للكتاب خوفه من اثنين، كتابة الشعر ومن ثم نشره، ولقد رأيت صدق تقريره من قلة ما ينشره من شعر قياساً بما ينشره من نثر، فجاء هذا الكتاب الشعري سياحة في التاريخ الشعري لعواد ناصر، اذ نجد قصائد تعود لسنة 1976، وهي أقدمها لتنتهي بأحدث ما كتب في سنة 2010، اي ان ما نشره يكاد يغطي، أو بالحري يضيء نحو اربعة عقود من الجهد الشعري لعواد ناصر، كما انه أحسن صنعا اذ قدم لنا الى جانب احدث قصائده، عينات ومختارات من ديوانيه اللذين سبق ان نشرها ومنها مجموعته الشعرية الموسومة بـ(هنا الوردة فلترقص هنا) من منشورات (صحارى) في براغ العاصمة الجيكية سنة 1991، فضلا على مجموعته الاولى التي تولت نشرها دار الفكر الجديد ببيروت سنة 1982 المعنونة (من أجل الفرح أعلن كآبتي)، كي تكون هذه المختارات معينا للدارس والناقد ليتعرف على تطور الكتابة الشعرية لدى عواد ناصر، وهو ما نص عليه الشاعر العراقي المغترب سعدي يوسف، الذي تعرفت اليه شعريا من خلال مجموعته الشعرية التي وسمها بـ (احدى وخمسون قصيدة) صدرت أوائل الستينات وقرأتها في منتصفها، لكن سعديا ما نشرها ثانية، اقول لقد افصح عن رأيه بشعر عواد ناصر قائلا (الشعر عندك يا عواد، تغير ايضا، انا اعلم إنك حيوي الإرادة، لكنك هنا الأكثر حرية! لم يعد للقصيدة الحديثة شكل، إنها مجموعة أشكال).
في المجموعة الشعرية هذه (احاديث المارة) تاريخ للحياة العراقية المضطربة، منذ ذلك اليوم التموزي القائظ، وانك – اذ تقرأ – تشعر بفداحة الخسائر التي عصفت بحياتنا، موت، وسجون ومناف واغتراب، وحصار أودى بالبقية الباقية، ولا ارى ان بقي شيء في حياتنا، بعد ذلك الزلزال المدمر، كما تقرأ فيها إهداءات ملتاعة الى أمه اكثر من مرة:"امرأة في الستين/ تجلس عند الباب/ تخفي في طيات الثوب/ وريقات الإبن الهارب/ شخص يرقبها عبر سياج الجيران/ تطرق مضطربة/ (..) تتعثر كالعادة/ وتصلي من اجل الأبناء/ الأول غادرها، هرباً نحو هواء العالم/ الثاني يندس بزوجته حتى اليوم التالي/ الثالث جندي/ الحرب رغيف من طين/ لم تزل المرأة عند فواجعها الستين/ والأبناء كما كانوا:/ الهارب ملتبسا في الأركان المهجورة/ المتزوج يجلس عند الأقدام/ وعاد الجندي بساق مبتورة(..)/ لم يزل الشخص الواقف عبر سياج الجيران/ يتنصت للنسوان/ ويدوّن تقريراً يوميا عن أحداث البيت".
فضلا على إهداء مولع الى أخته ام حسن حيث تفقد الأسرة فتى من فتيانها اكلته الحرب الضروس، وإهداء الى سلوى.. عزاء وصبرا، بمناسبة رحيل والدتها، والى عبد الله صخي، الأديب المغترب صاحب رواية (خلف السدة) والى تحرير السماوي، الأديبة المترجمة التي سعدت بقراءة كتابها المترجم الموسوم بـ (في تجربة الكتابة) لمؤلفه: س. ر. مارتين وفيه اضاءة لحيوات وابداعات، ارنست همنغوي، واريش ماريا ريمارك، ومارغريت ميتشل وتوماس مان، ورائدة الكتابة عن الزنوج الامريكيين، هارييت بيتشر ستاو، صاحبة الرواية الشهيرة (كوخ العم توم) والفرنسي جورج سيمنون واغاثا كرستي وادغار والاس وفرانسواز ساغان، الاديبة الفرنسية صاحبة رواية (مرحى يا كآبة) ومطلقة الاديب المشاكس شريف الربيعي، الذي كنت أراه في مقهى فاضل بكرادة مريم صحبة الاديب فوزي كريم، منتصف الستينات (1964) يوم كنا نقرأ دروسنا في الثانوية بها، والمتوفى صيف عام 2007، وكريمة الشاعر المعروف كاظم السماوي والمتوفاة في لندن فجر الاحد 18/1/2009، واهداء الى نعمات البحيري الاديبة المصرية فضلا على المبدع الكبير محمد خضير، والباحث الراحل هادي العلوي، وروح الشاعر الاسباني لوركا.
"واخيرا..رحلت أمي/ ما شيعها أحد/ فالأبناءْ/ رحلوا أو قتلوا في حرب بسوس أبدية/ بينا أمي أبسط من جرة ماء تحت هلال ساهر/ وأكثر حزنا من مشحوف يغرق/ لم ترفع علماً غير عباءتها السوداء/ ولم تلهج بشعار غير الصلوات الخمس/ وتعرف أيضاً أن المنفى سيطول على الولد الشارد/ - خذ شيئاً تتغطى، يا ولدي، فالمنفى بارد؛/ لكن امي رحلت كفاً خالية/ تتدلى من تابوت/ وانا، وحدي، في موكبها عبر ملايين القارات/ اختار لها السُوَّرَ العطرات/ (كما يتلوها عبد الباسط)/ وأرد عباءتها السوداء عليها/ ثم اغمض عينيها".
وانا اقرأ قصيدة (خديجة هي السبب) المكتوبة في لندن سنة 1995، علقت على حاشية الكتاب، قصيدة رائعة تصور معاناة الشابات العفيفات اللائي هجرن، هذا الوطن"الذي يضربه الشرطة والاحزاب والفاشست والحصار والقنابل"نحو المغترب اللاهي العابث المنفلت، لكنها تكتم آهاتها التي برت جسدها، كما برى جسد المتنبي العظيم"ما لي اكتم حبا قد برى جسدي، وتدعي حسب سيف الدولة الأمم"وتكتم عذابها وتلوذ بصمتها وعفتها وطهرها، وهذه ضريبة الناس الشرفاء في هذا العالم غير الشريف:
"خديجة التي تسببت بكل هذه القصيدة:/ طير عراقي، بشعر اسود، حط على منارة الكنيسة القريبة/ هنا، بغرب لندن، البنت توطنت/ هنا (هنا) في هذه المدينة البعيدة البعيدة/ (...) لم يزل في ركن بيت ضيعت عنوانه/ ثم مكاتيب غرام من شباب لم يعودوا يعشقون، مثلما كانوا/ لان الحرب غيرت شكل اياديهم/ يبقى الشباب الشقر في أرصفة المدينة البعيدة/ يرون في خديجة/ صيف فلكلور عراقي يلوح فوق قبة الكنيسة القريبة/(..) انتهى الدوام والزميلات ذهبن (كل مع زميل او صديق او حبيب)/ نحو حانة او مرقص في عطلة الاسبوع/ وهي تعود تارة الى غروب الذاكرة/ وتارة الى مشاريع حقوق خاسرة/ تنسل تحت جودلية/ (...)/ تسلم ذاك الجسد الممعن بالنعناع والخذلان".
بعد هذه السياحة الممتعة والجميلة بين أشعار هذا الكتاب (احاديث المارة) ارى انه لم يبق ما يستدعي خوف الشاعر عواد ناصر من كتابة الشعر ونشره، واذا كان دليله على خوفه هذا هو امتناعه عن طبع شعره في كتاب منذ عام 1991، كما نوه بذلك في مقدمة كتابه الشعري هذا، فان دليلي الثابت والمقنع ان لم يبق ما يقتضي خشيته من نشره شعره، هو شعره المنشور بين دفتي كتابه (احاديث المارة) ولأن"الشعر عندك يا عواد قد تغير وتطور".