حوار: هادي الحسيني
الشعر العراقي وخارطته المترامية الاطراف هو منجم كبير لرفد الشعرية العربية بالعديد من الشعراء، ولعل أغلب الثورات الشعرية في التجديد والتطور اللغوي كان العراقيون من يفجرها في محاولة لتغيير الذائقة عند المتلقي وبروز مدارس شعرية من شأنها عكس التطورات الإيجابية على مستوى الشعر داخل الوطن العربي ككل.
العراق بلد الشعر ومهده الاول حين كُتبت فيه أول قصيدة في التاريخ عبر ملحمة جلجامش ملك اور، ثم توالت عصور وحقب كثيرة تطور فيها الشعر وتطور أسلوبه حتى وقت قريب لتنقلب الذائقة الشعرية من خلال ثورة الشعر العربي الحديث وتؤسس لمبادئ جديدة وكتابة مغايرة وأسلوب مختلف بعيدا عن القصيدة الكلاسيكية التي ختم الجواهري الكبير كتابتها قبل سنوات.
هذه المقدمة البسيطة ندخل من خلالها الى عوالم شاعر عراقي أخلص للشعر أيما اخلاص طوال مسيرته الشعرية التي تخللتها الكثير من المآسي والآلام والنضال والهروب والخوف والقمع والهجرة وكتابة الشعر. انه الشاعر عواد ناصر الذي غادر العراق في أواخر سبعينات القرن الماضي بعد سلسلة طويلة عريضة من القمع الذي تعرض له على يد السلطات الحاكمة آنذاك، لمجرد انه كان يحلم احلاما تجعل من الانسان ان يعيش بسلام، احلاما مشروعة وبسيطة لشاعر همه الاوحد الارتقاء بالجمال والحب والاخلاص، لكن الظروف السياسية وتقلباتها كانت تسير عكس الاتجاه حتى أضطر الشاعر لمغادرة وطنه مرغما! اقام في سوريا وبيروت لسنوات وعمل في الصحافة الثقافية وكتب الكثير من القصائد الجميلة التي أهلته لان يكون اسما لامعا في سماء الشعر العربي وليس العراقي حسب.
عواد ناصر لا يخاف احدا، لكن أكثر ما يخيفه هو كتابة الشعر ونشره، وهو المتمكن من أدواته الشعرية واللغوية، لكنه يعتقد أن الشعر مسؤولية كبيرة وخطيرة جدا! وهو كذلك، فالشعر مسؤولية مهمة تقع على عاتق الشاعر في انصاف الفقراء والمظلومين في الارض واظهار الجانب الجمالي المشع للانسان بعيدا عن الحقد والقبح في هذه الارض، الشعر كائن خفيّ لا يفهمه ولا يعرف معناه سوى الشاعر وحده، الشعر علو وسمو على كل الاشياء دون مسميات، وعادة ما يكون الشاعر هو المنتصر دائما رغم ما يتعرض له من اذى وموت فلم يبق سوى صوت الشاعر وشعره. عواد ناصر شاعر عرف الحياة وخبرها بقساوتها ومراراتها وصعوباتها ومآسيها وآلامها ولوعاتها ودمارها وغربته الطويلة عن الوطن الأم إلا انه ظل يحمل في قلبه الحب والاخلاص لوطنه ولاهله وناسه ولتلك الارض التي انجبته.
ان الاخلاص للشعر هو في الواقع من سمات الشاعر الحقيقي، الشاعر الذي اختار الطريق الصعب المملوء بالاشواك والطرق الموحلة، لكن في قرارة نفسه هو من يمتلك مفاتيح السعادة لوحده، كان من الممكن ان يكون عواد ناصر مهندسا او معلما اوعاملا أو اية مهنة أخرى ويحيا حياته كسائر البشر إلا ان القدر اختار له طريق الشعر وما أصعبه! في هذا الحوار المطول نسبيا يبوح ناصر باشياء كثيرة عن الشعر واجياله ومدارسه القديمة والحديثة وتطوراته المستمرة، كذلك يتحدث عن الخطاب النقدي العربي الذي يشوبه التراجع المستمر في ظل المحاباة في نقد النصوص الادبية، اما الوطن وآلامه فقد تحدث عنهما بكل صراحة لا ينقصها الحب ولا تنقصها الطروحات والمعالجات للازمات المتلاحقة التي يرزح تحتها الوطن العراق منذ عقود وما زال، تحدث عن المشهد الثقافي العربي برمته سواء بنجاحاته او انتكاساته. وعن الحداثة ومتطلبات العصر الحديث التي تؤسس لأوطان جديدة وحياة أخرى بعيدا عن الدكتاتوريين والانظمة الشمولية.
ولد الشاعر عواد ناصر في محافظة ميسان جنوب العراق عام 1950، وفي السنة الثالثة من عمره انتقل مع أبويه الى العاصمة بغداد ليواصل دراسته ويتخرج من معهد إعداد المعلمين، وفي بداية العقد السبعيني نشر قصائده الاولى في الصحافة الثقافية في بغداد وعمل في بيروت ودمشق، كاتباً ومحرراً، ثم في العديد من الصفحات الثقافية في كبريات الصحف العربية التي تصدر في لندن وما زال حيث يقيم منذ عام 1992 داخل العاصمة البريطانية. وعن تجربتة الشعرية والمحور الادبي العربي والعراقي وكذلك المنفى الذي قضى فيه نصف عمره كان معه هذا الحوار…
* من خلال قراءة التاريخ يصح القول أن تطورات الأمم تعكس تطوراتها الفكرية والفنية وترقى بذائقتها في الفنون والآداب الى مستويات غاية في الجمال والرقة، وخلال التطور الانساني عبر حضارات اليونان وبلاد الرافدين ومصر والصين وحضارة أوروبا الحديثة، كانت المعادلة صحيحة والسؤال هنا: هل الامة العربية الآن في بدايات القرن الحادي والعشرين في نهوض شامل أم تراجع شامل، وإذا كانت الحالة سلبية فكيف تفسرون الدعوات المستمرة للحداثة والتجريب في قصيدة النثر والرواية أو ما وراء الرواية؟
– السؤال صعب ومركب ومعقد.. أشكرك.. التعقيد ينشأ من خلال الانقطاعات الحضارية للشعوب التي ذكرتها. مصر، مثلاً، لا علاقة لها اليوم، بالحضارة الفرعونية، وكذلك اليونان وبلاد الرافدين، وسواها، فإذا سألت مصرياً، اليوم، عن أجداده الفراعنة لن يعرف إيزيس، أو كليوبوترا (ربما سيعرفها من أغنية محمد عبدالوهاب فقط) وإذا سألت عراقياً من الأهوار عن أجداده السومريين سيضحك منك. بالمقابل: سار التطور العلمي والفني في أوروبا بلا انقطاعات منذ عصر النهضة وصولاً إلى فصل الدين عن الدولة مروراً بالمنجزات الكبرى للعلم والتكنولوجيا لدى شعوب راكمت منتوجاتها العلمية والفنية والأدبية، في سياق معرفي يقوم على سؤال الفلسفة أولاً، ثم على أسئلة جوهرية بشأن الوجود والكون والحياة.وجوهر ذلك كله هو الحرية، وما تنتظمه من حقوق مكفولة بما فيها حق البحث والكلام والحلم، وهي حقوق غائبة في عالمنا العربي. أمتنا العربية، برأيي، لم تشتغل على منجزها الأساس لتنتقل به إلى مفاهيم معاصرة على وفق سياقات الحاضر باتجاه المستقبل. ولأنني شاعر ولست باحثاً أو ناقداً، فالمدخل إلى العصر (الجاهلي)، مثلاُ، يكشف لنا أن الحضارة الجاهلية كانت أكثر انفتاحاً على إعمال العقل والخيال.
إن المعلقات السبع أو التسع، أو مهما كان عددها، أعمال فنية عظيمة اكتنزت تجربة عصرها روحياً وعقلياً وخيالياً (باستثناء معلقة عمرو بن كلثوم) وفي سياقها أمية بن أبي الصلت الذي سبق النبي بادعاء النبوة لا بسبب ديني او تجاري أو آيديولوجي، بل بسبب ما كان يتعاطاه خيالياَ مع الأشباح والملائكة وسكنة الكهوف.
بعد كل هذا الموجز أعود لأقول: إن أمتنا، اليوم، في تراجع مريع، بل ليس ثمة نقطة ما في تراجعها لتتراجع نحوها، ولا آتي بجديد، إنما أقترح عليك أن ترى مجهودات العلم وثورة المعلومات والتقدم الطبي والعمراني والفني والأدبي في العالم (حتى في الشرق طبعاً) لتبلغ نقطة الصفر التي عليها عالمنا العربي، العالم الاستهلاكي، الطفيلي، السكوني، الثابت، بينما العالم متحول. ليست، ثمة دعوات للحداثة والتجريب في قصيدة النثر والرواية وما وراءها. من دعا إلى هذا؟ الأمر باختصار لا يعدو تأثراً بترجمات مبتسرة وتنطعاً نقدياً وانقياداً خارجياً خلف الموضة الأدبية. من قرأ من شعراء قصيدة النثر الشبان في أصولها التأسيسية: لوتريامون ورامبو وبودلير (مثلاً). إنها تنويع على تنويع، مع الأسف، بعد رواج مجلة (شعر) اللبنانية التي كان أفضل شعرائها محمد الماغوط. وهنا أود أن أطرح أنا السؤال: هل لك أن تذكرني بشاعر عربي مهم، مؤثر وليس نجماً متداولاً، غير صلاح عبدالصبور وبعده، بسنوات، محمود درويش الذي قال: "كن عراقياً لتصبح شاعراً".. أعني أن الحداثة الشعرية العربية بدأت عراقية ولكنها لم تنته كذلك. لماذا؟ لأن الإبداع والتجديد يحتاجان مكاناً وزماناً إبداعيين، حيث الفن لا ينطلق من العتمة أنما من الضوء، ونحن نعيش في بحر الظلمات، مع الأسف.
* هل تعني أن الحداثة حاجة ملحة ووجه آخر من وجوه متغيرات الأمة؟ أم هي ترف فكري شكلي لا علاقة له بما يحدث في النسيج العربي من تمزقات هائلة على مستوى حريات الانسان وأنظمة الحكم الدكتاتورية الشاملة وضياع المواهب وأندثارها؟
– سؤالك يتضمن شيء من الإجابة. الحداثة ليست حاجة ملحة. إنها واقع ماثل على صعيد العالم. لكن الأمة (حسب تعبيرك) خارج الحداثة. الحداثة كما أفهمها هي انتقال الحياة من حال قديمة، ساكنة، إلى حال حديثة، متفاعلة، متطورة.. يعني الانتماء إلى العصر بكل مكوناته العلمية والفنية والاجتماعية، بل حتى على صعيد العلاقات العاطفية بين البشر.. الأزياء أيضا تغيرت حداثوياً. الحداثة، كما فهمت من سؤالك، لا تتعلق بالفن والشعر، حسب، إنما هي نتاج تراكم كمي يؤدي إلى تغير نوعي على مستويات متعددة تشكل حياة أمة من الأمم، ولا أرى أن أمتنا سوى مستهلكة لمنجزات الحداثة وليست مساهمة بأدنى المقاييس في هذه الحداثة. أمتنا خارج الحداثة إلا في مستوى الاستهلاك = من يملك المال حداثوي ومن لا يملكه يقيم في الفقر والجوع والانقطاع عن المعرفة. مرة أخرى أكرر: الأمة العربية طفيلي حداثوي: يستهلك منتجات الحداثة ولا ينتجها على مستوى صناعة إبرة خياطة..
* الاغتراب الذي يتمثل في المنفى، كان قاب قوسين أو ادنى منك نهاية السبعينات، غادرت العراق نتيجة للعصف السياسي والانكسار الثقافي والاجتماعي ولانك كنت معترضا على ما يدور داخل العراق آنذاك وخاصة سلوك السلطة، قررت اللحاق بعربة الاغتراب او المنفى، ما هي العلاقة بين الاغتراب والمنجز الادبي، وهل كان الاغتراب مفهوما تجريبيا او عرفانيا أو كخط فلسفي، وهل تحول الاغتراب او ما يماثله من منفى الى سلم مهترئ بعد التحول الدراماتيكي في العراق عام 2003؟
– هناك فرق بين الاغتراب والمنفى، فلسفياً ومكانياً، الاغتراب يتنوع حتى سيكولوجياً (اغتراب العامل عن الآلة – كارل ماركس) اغتراب الانسان في وطنه عندما يفترق الفكر والوطن، وقد تساهم الأحلام المفرطة في الانشقاق عن المكان. المنفى موقف قد يبدو اختياريا، بينما هو اضطراري.
كتبت مرة: الوطن ستر والمنفى فضيحة.
المنفى، في معنى من المعاني، حرية اصطناعية. لأن المكان لا يحرر الإنسان قدر ما تحرره أفكاره وإدراكه لضرورات وجوده.. حريته الداخلية.
كانت الهجمة الفاشية على اليسار والديمقراطيين والمستقلين على غاية الشراسة، فقررت، مثل مئات الشخصيات الثقافية والفنية والسياسية، مغادرة العراق والالتحاق بالثورة الفلسطينية عام 1979 ببيروت، ابان الحرب الأهلية اللبنانية. كانت تجربة فريدة للحرية، إذ كان هناك منفيون عرب من كل البلدان العربية تقريباً.
واصلت عملي في الصحافة الفلسطينية ونشرت الكثير من نصوصي في الصحافة اللبنانية ووجد المكان الجديد أثره الواضح على تهذيب عراقيتي الخشنة ولغتي الشعرية حتى، وطبعت هناك أول مجموعة شعرية بعنوان (من أجل الفرح أعلن كآبتي) التي لم توزع بشكل طبيعي بسبب التباسات النشر وسوء التوزيع حيث توترات الحرب الأهلية واضطراب الحياة العامة هناك.
أتاح لي منفاي، عموماً، مجاراة فضاءات ثقافية واجتماعية متنوعة وجديدة، واكتشفت مكتبات لبنانية ممتازة حصلت منها على خيرة الأعمال الأدبية، العربية والمترجمة إلى العربية، وكانت صالات السينما اللبنانية تعرض أحدث الأشرطة السينمائية، مما أغنى ثقافتي وأمدني بجدوى التنوع الثقافي واختلاف مصادر الفن.
لنقفز قليلاً – سيرة طويلة ومعقدة – لنصل إلى لندن، عاصمة منفاي الأخيرة، ومنها تجحفلت جيوش صاحبة الجلالة لتحتل بغداد.
كنت أتابع الحرب، دقيقة بدقيقة، حتى ملت مني زوجتي وابنتاي.. وبما إنني لا أملك أي وسيلة لوقف الحرب أو تغيير مسارها، كان سقوط نظام صدام حسين الوجه الآخر للحرب بعد أن عجز الجميع، داخل العراق وخارجه عن إحداث التغيير المطلوب.
لم أتوقع أن مثل هذا التغيير سيكون في صالحي، وصالح من يشبهونني، لأن من يقف وراء الحرب لا يلقم أسلحته بحمامات السلام التي ستطير في سماء بغدادية زرقاء.. وهكذا انا، هذه المرة أيضاً خارج حساب العائدين إلى السلطة الجديدة ومستشاري الأمريكان من العراقيين، وهذا أمر طبيعي، عندما بقي سلم المنفى قائما، ولم يهترئ، كما قلت أنت، لأن ستراتيج المثقف المستقل لا يتغير بتكتيكات السياسي.
وما جرى ويجري في العراق بعد الاحتلال حول مقولتي السابقة لتصبح: المنفى ستر والوطن فضيحة.
* كيف تنظر الى الحركة الشعرية في العراق والعالم العربي بوصفها حركة ادبية وفنية متنوعة في الاشكال والمضامين والحركات الايقاعية والموسيقية والوزنية، من خلال متابعتك للمشهد، خاصة كنت تشرف على صفحات ثقافية يومية لصحف عربية مهمة حيث تقيم في لندن؟
– الحركة الثقافية في كل بلد هي سوق. لكن ثمة باعة يغشون مشتريهم وآخرون يصدقونهم فلا يقدمون لهم بضاعة مغشوشة.
ولأن الثقافة سوق فالذهب نادر وغال في كل زمان ومكان.
أمران عبثا بالحركة الثقافية هما السياسة والجهل.
ما زال كثيرون لا يفرقون بين شخصية الشاعر ومواقفه الآيديولوجية ونصه، بينما حسمها أحد أجدادنا القدماء منذ مئات السنين وهو عبد القادر الجرجاني بقوله: الإيمان لا يرفع قصيدة والكفر لا يخفض القصيدة.
الحركة الثقافية عموماً، والشعر منها، لم تتحرر من سطوة السياسة التي تتلبسها عبر أكثر من طريق: الارتباط بالنظام السياسي الحاكم طلباً للحماية أو الوجاهة أو الغنيمة، أو من طريق الآيديولوجيا التي يركبها بعض الشعراء، لا كلهم، معتقدين بأن القضية النبيلة كافية لجعل النص إبداعياً، في حين هناك أعمال خالدة، عبر العالم، كتبها قساوسة أو يمينيون (الساعة الخامسة والعشرون) رواية الروماني كوستنتان جورجيو وأعمال الأمريكي البريطاني ت. س. إليوت، (مثلاً).
عدم الاستقرار السياسي يولد اللااستقرار على جميع الجبهات. الانقلابات العسكرية والحروب والقمع في العراق، مثلاً آخر، ضربت الحراك الثقافي والإبداعي في القلب، لنرى إلى تلك الانقطاعات الخطيرة والانبتارات المؤلمة في جميع مشاريعنا الإبداعية التي لم تكتمل، لأنها لم تنمُ نمواً طبيعياً في أجواء سياسية اقتصادية أخلاقية طبيعية.
من خلال متابعتي للشعر العربي، والعراقي منه، لا أستطيع أن أقول فيه رأياً متوازناً لأنه مشهد غير متوازن، بل إنه متذبذب حتى في تجربة الشاعر الواحد.
لكن ثمة تجارب رائعة لشعراء نادرين.. ندرة الذهب لأننا في سوق تعرض الأصيل والمغشوش.
الجهل مرض يفتك بثقافتنا ليحولها إلى تنويعات على أصول مهمة، حتى أن بعض الكتاب والشعراء يكتبون أكثر مما يقرأون!
كثيراً ما سألت نفسي: لماذا تكتب، أو تنشر كتابك، لجمهور يعاني أغلبه الأمية؟
وفي البلدان العربية فقط يدفع الشاعر مالاً ليطبع مجوعته الشعرية!
في الغرب قد يحول كتاب واحد كاتبه من متسول إلى مليونير.
طبعاً، ثمة شعراء لا يزيدون على أصابع اليد نجحوا في الانتشار وحققوا جماهيرية عظيمة، لكن هذا يقع في باب (لكل قاعدة شواذ).
يفوق عدد الشعراء العرب عدد نقادهم بنسبة مهولة… من يقيّم إذن، ومن يميّز لنا الذهب من التراب؟
الكلام متشعب، ويدعوا للألم عندما نأتي على ذكر دور الصفحات الثقافية والمنافع المتبادلة بين الإعلام والفن، ولعبة الإخوانيات والارتياحات الشخصية والانقسامات السياسية والطائفية (اليوم(.
* من خلال جوابك السابق حول المشهد الشعري العراقي والعربي يبدو لي انك منزعج من حركة النقد الادبي داخل الوطن العربي والتي هي في تراجع مستمر ولم تستطع السيطرة على المشهد الادبي ومواكبة تطوراته! ترى أين يكمن الخلل في هذا التراجع النقدي الذي هو المكمل والموجه للنص الادبي ذات القيمة الابداعية العالية؟
– الكل يريدون أن يصبحوا شعراء!! ولا أدري لماذا؟ لكن إشارتي العابرة حول النقاد لا تعني أنني منزعج أبداً، إنها توصيف لظاهرة حقيقية.. لأن الشعر (كما يعتقد الكثيرون) أسهل من النقد! وأنا أرى أن الناقد يحتاج معرفة كبيرة وقراءة واسعة وأن يتوفر إلى أدوات نقدية ملزمة، عدا الذائقة الشخصية والإحساس بجمالية الكلمة والقدرة على التأويل والغور تحت سطح النص، وهذه عناصر ضرورية لأي ناقد، وبتعبير آخر: كلاهما صعب في ميدان اشتغاله، لكن اتساع ظاهرة كتابة الشعر لا ينم بالضرورة عن اتساع فسحة الجمال.
تراجع النقد جزء أساس من تراجع منظومة القيم الثقافية/ المعرفية في المجتمع. المجتمعات المتخلفة لا تسمح بظهور نقاد مهمين. الحركة النقدية وليدة حراك معرفي واجتماعي سليم يقوم على حرية التعبير والتخلص من العقد المرضية والتقدم الصناعي والاقتصادي، أي أن النقد، مثله مثل أي إبداع آخر، يحتاج إلى أرض خصبة وهواء نقي وحياة اجتماعية تتيح له التنفس الطبيعي ككائن حي والاسترخاء الكافي للتأمل للقراءة والكتابة والإنتاج. كيف يولد الإبداع في بلد مكمم الأفواه لعقود طويلة ومحكوم بالحروب والقمع ومصادرة الحريات والأمية والفقر والجوع والمرض، كما هو حال شعوبنا العربية.
* الشعرُ طاقة وعناصر تلك الطاقة قد دارت حول مدارات متباينة ومتناسبة ومتوازية ومتوازنة بل جرت معها نبوءات وايحاءات مكنت موضوعة الجذب بالنسبة الى التجربة الشعرية من أن تكون تجريبية في الشعر، حيث التجريب منفذ ذاتي لفن الشعر. هل بُنيت هذه الموضوعة في تجربتك الشعرية خاصة منذ مطلع السبعينيات، حيث قصيدة النثر والشعر الحر والتفعيلة ذات الوقت؟
– الشاعر الجيد كائن تجريبي على مدار الساعة. إذا اتفقنا على أن الشاعر يواصل كتابة الشعر ليكتب قصيدة مختلفة عما سبقتها، فإنه يفجر طاقة التجريب لديه وصولاً إلى نص مختلف. من ناحيتي لم أدخل حلبة سباق مع آخرين، إنما كنت أواصل تحدياً ذاتياً لأكون أحسن مني، حسب، حيال الوقوف عند كل قصيدة جديدة، لأن كل قصيدة جديدة هي تجربة جديدة من حيث البنية والفكرة والأداء اللغوي.
لابد أن تدخل في تجربتي مكونات خارجية، منذ أمرئ القيس حتى يومنا هذا، ومنذ بداياتي في أوائل سبعينات القرن الماضي، تمثلت جميع عصور الشعر العربي وتوقفت عند نماذج تجديدية فيه، حسب رؤيتي النقدية الشخصية، وقرأت أغلب تجارب الشعر وأشكاله في قصيدة التفعيلة والنثر (والمشترك فيها بين النثر والشعر) ولم أفضل شكلاً شعرياً على آخر إلا بما يمدني بحساسية شعرية تنفذ إلى وعيي ولاوعيي، في الوقت نفسه، لتكون ضمن ذخري الخفي، في مكان ما من أرشيفي الروحي.
طاقة قصيدتي تستمد حركتها وفعلها من جميع التجارب الشعرية التي تسنى لي الإطلاع عليها، ولا أتردد في القول: إنني ابن الشعر الإنساني كله، من جميع الأجيال والمدارس والتجارب، بمن في ذلك أبناء جيلي نفسه والأجيال التي تلت أيضاَ.
· عن مجلة نزوى