د. حيدر عطية السوداني
في سنة 1943 ظهرت واحدة من أهم أحياء الصرائف في مدينة بغداد ألا وهي منطقة "العاصمة" الواقعة شرق سدة ناظم باشا وتحديداً في المنطقة التي يشغلها مستشفى الجملة العصبية(حالياً) وجنوبه حتى بغداد الجديدة والتي تقدر مساحتها بـ15كم2
وكان بناؤها العشوائي وغير المنظم لا يختلف عن بقية أحياء الصرائف الأخرى، وكان جل سكان هذه المنطقة هم من العاملين في معامل الطابوق الواقعة شرق تلك المنطقة في مكان ليس بعيداً عن قناة الجيش الحالية. ومما يجدر ذكره هنا، إن موظفي الدوائر الرسمية أطلقوا على منطقة العاصمة أسم "خلف السدة"،وكانت تتصل بالرصافة من ثلاث جهات رئيسية، جهة باب الشيخ، وجهة ساحة الطيران، فضلاً عن جهة القصر الأبيض. وغدت هذه المنطقة بعد اكتضاضها بالمهاجرين خلال سنوات الحرب العالمية الثانية وما تلاها محلات متلاصقة بعضها مع البعض، كل محلة سكنها أبناء عشيرة واحدة تقريبا، لكن مع ذلك علينا أن نسجل هنا، أن أولئك المهاجرين ولئن تحرروا نسبياً من بعض القيود العشائرية، فإنهم أقاموا علاقاتهم مع بعضهم ومع العشائر الأخرى على أساس النظم والتقاليد العشائرية. إن الحديث عن صرائف منطقة "العاصمة" لا يتكمل إلا بالحديث عن "شطيط" (النزيزة) وهو عبارة عن نهير صغير لا يتجاوز عرضه المترين، كان يحاذي أسفل الجانب الشرقي من السدة مباشرة، ليمتد حتى مصب نهر ديالى، وكانت صرائف "العاصمة" واقعة على الضفة الشرقية لذلك النهير، الذي وجد أساساً لتخفيف الضغط على السدة في أوقات الفيضانات، وتحول مع مرور الأيام إلى نهر تصرف إليه المياه الثقيلة لأحياء باب الشيخ والبتاوين وبقية أحياء الرصافة، وكان عبارة عن مستنقع دائم للمياه الآسنة، وزاده سوءاً اتخاذه بعض أبناء تلك الصرائف مرتعاً لجاموسهم. ولم نبالغ إذا ما قلنا إن البعض من أطفال تلك المنطقة اتخذه "مسبحاً". إلى شمال منطقة "العاصمة" ظهر تجمع آخر وكبير للصرائف والذي عرف بمنطقة "الميزرة" الواقعة شرق مجزرة الشيخ معروف، وقد بلغت مساحة هذه المنطقة، التي تشغلها حالياً كراجات ساحة النهضة والتي كانت بالأساس مقابر لليهود، بحوالي 10كم2. ربما يكفي القول، إن اختيار المهاجرين إلى أراضي بغداد الواقعة شرق السدة، مكاناً لبناء صرائفهم كان بتأثير عدة عوامل وظروف، أهمها، إن إمكانية امتداد العمران إليها معدومة تقريباً، لتعرضها للغرق بفعل الفيضانات بين الفينة والأخرى فضلاً عن ذلك فان تلك الأراضي إما زراعية أو موقوفة أو مهملة، ولا أحد يطلب منهم "المهاجرين" إيجاراً عندما يسكنوا فيها، كما لم يلعب وقوع الأراضي موضوع البحث بالقرب من أحياء بغداد الفقيرة دوراً قليلاً باتخاذها مكاناً لسكنهم. ولا ننسى أن نضيف هنا أن منطقة شرق السدة كانت مكتظة بالمعامل والمصانع والكراجات التي كانت تربط بغداد بالألوية الجنوبية، كما كانت فيها محطة قطار بغداد-كركوك، وعلاوي الخضروات والفواكه في بغداد. خلاصة القول، إن الصرائف قد انتشرت في معظم أرجاء وأحياء العاصمة بغداد، إذ اتخذ الفارون من ظلم الإقطاع الفراغات بين الأحياء، والمساحات المنتشرة هنا وهناك مكاناً لسكنهم، بعد أن بنوا مساكنهم "الصرائف" التي لا يقدرون على سواها، ولا يعرفون غيرها. كان من الصعب جداً أن ترى حياً بغدادياً سواء أكان ذلك في الكرخ أم في الرصافة بلا صرائف. إن الضرورة الموضوعية العلمية تدعونا إلى القول وبكل تأكيد إن فضاعة ظلم إقطاعيي لواء العمارة وجورهم على الفلاحين، وجعلهم يعيشون في إملاق دائم هو الذي جعل العمارة، المعين الأول لسيل الهجرة إلى بغداد خاصة، حتى أن نسبة المهاجرين وصلت إلى أكثر من 70%، ولم يكن مجرد صدفة أن يطلق بعض سكان بغداد عليهم "الشروك". بقي علينا أن نذكر عدد الصرائف التي كانت تضمها مدينة بغداد. فطبقاً لإحصاء 1947، كان عدد صرائف مدينة بغداد هو 12594 صريفة، وكانت نسبتها إلى مجموع الوحدات السكنية في مدينة بغداد أكثر من 25%. قفز هذا العدد إلى 15510 صريفة بعد أقل من خمس سنوات أي في سنة 1952. ضمت أكثر من 60 ألف نسمة حسبما تذكر بعثة البنك الدولي. ويشير إحصاء 1956، للمساكن وهو أول إحصاء للمساكن إلى أن عدد الصرائف في بغداد وصل إلى 16413صريفة، كان مجموع ساكنيها حوالي 92 ألف نسمة، أما العين عبد المهدي المنتفكي وهو الأقرب إلى الموضوع، فإنه ذكر في إحدى خطبه أمام مجلس الأعيان بأن عدد المهاجرين قد بلغ حوالي 300 ألف مهاجر. وعلى أية حال، تذكر إحدى الدراسات الأكاديمية بأن مجموع سكان الصرائف في بغداد وصل في سنة 1958 إلى حوالي 180 ألف نسمة أي بنسبة 18% من مجموع سكان مدينة بغداد. استكمالا لرسم صورة متكاملة عن مجتمع الصرائف في بغداد، نقف أمام أوضاعهم الاقتصادية والمعيشية والصحية. وقبل ذلك يجب علينا أن نعرّف بالصرائف، نعتقد أننا نتجاوز كثيراً إذ ما قلنا إنها "مساكن" مكونة من الحصران المصنوعة من القصب المسنود أو المثبت بالطين، عديمة النوافذ، فإذا ما وجدت فإنها صغيرة جداً، مظلمة في أغلب الأوقات، وبسبب ذلك فإنها تفوح بالروائح الكريهة. لم تكن الصريفة مأوى لرب العائلة وأولاده فقط، فأحياناً لدواجنه وحيواناته ووقوده، كما تؤكد جريدة "صوت الأهالي"، من جانبه أكد الدكتور أ. كريتشلي (A. Gritchly) أستاذ الكلية الطبية هذه الحقيقة بعد زيارته الميدانية لمناطق الصرائف في سنة 1952، بأن الصرائف سيئة التهوئة ومزدحمة، ليس فيها ما هو خاص، وكثير ما كانت تؤوي الحيوانات المنزلية إلى جانب العائلة، والأهم من هذا أن الدكتور المذكور وهو الأقرب إلى الموضوع الذي نحن بصدد بحثه، إذ لاحظ، أن كل لقمة طعام يتناولها هؤلاء الناس كانت ملوثة. لذلك لم يستغرب أن تكون نسبة وفيات الأطفال في تلك المناطق 341 وفاة لكل ألف طفل. من المفيد جداً أن نذكر هنا، أن تردي أحوال أصحاب الصرائف، الصحية والاقتصادية، سببه الفيضانات التي كانت تجرفهم في كل عام تقريباً كما تذكر أحد الوثائق الرسمية، وفي هذا الصدد يذكر نائب ديالى حسام الدين جمعة ما نصه: "جاورت أصحاب الصرائف منذ مدة، وتفقدت حالهم وسكناهم شخصياً مرات عديدة، والذي رأيته أن المستنقعات منتشرة هنا وهناك، والأوساخ والأتربة والأطيان محاطة بدورهم وحتى بداخلها، فلا الموظف الصحي يصلهم ولا الموظف البلدي يمر بهم، باعتبار أن تلك المنطقة خارجة عن حدود البلديات". ومضى يتحدث عن مياه الشرب في تلك المنطقة فقال:"أما عن مياه الشرب فحدث عنها ولا حرج حيث توجد حنيفتان قرب السدة وهاتان الحنفيتان لا تكفيان إلا لعدد محدود من هؤلاء. أما باقي السكان فأن اطفالهم يحملون الأواني على رؤوسهم ويطرقون الأبواب للحصول على الماء، هكذا يعيش هؤلاء البؤساء الذين أصابتهم هذه المصيبة، فجعلتهم ينتشرون بين الأزقة والطرقات وهم على حالهم من البؤس. وهذه الحال تتكرر على رؤوسهم خاصة في مواسم الفيضانات".بعد ذلك ناشد النائب المذكور الوزير المعني بأن لا يكتفي بإيجاد قطعة أرض لهم. من المناسب أن نتركه برسم أبعاد الصورة عندما قال:"فالذي أراه أن لا يكتفي معالي الوزير بإيجاد قطعة الأرض ويقسمها للعمل، بل ينشئ عليها بعض الدور البسيطة التي تتوفر فيها الشروط الصحية ويؤجرها لهم بإيجار بخس، أما ترك العرصات بإيديهم فإنهم سيعيدون الحالة الماضية التي ذكرتها الآن".
عن كتاب (عبد الـكـريـم قـاسـم و سـكـان الـصـرائـف فـي بـغـداد،)