نبذة تاريخية عن بدايات ظهور فن السينما في مدينة بغداد

نبذة تاريخية عن بدايات ظهور فن السينما في مدينة بغداد

د كمال رشيد العكيلي

لغرض الوقوف على بدايات ظهور النشاط الفني السينمائي وعطاءاته في العراق ومنهُ مدينة بغداد بالذات لابد من العودة إلى الماضي حيثُ تمتد جذور هذا النشاط الإبداعي الفني الذي يُعد شكلاً من أشكال التعبير عن الواقع الأجتماعي فقد كانت الحكايات الشعبية هي وسيلة التسلية الوحيدة أحياناً حتى جاء الراديو ليزاحمها وأقبلت السينما لتكتسحها

ولأن المقاهي كانت الاماكن التي يهدر فيها الوقت فقد كان بعضها يُحيي حفلات الغناء لهواة المقام وقرائه وبسبب انتشار الأمية في المجتمع أصبحت القصص سلواهم لذا كانت بعض المقاهي القديمة تعقد جلسات الرواية في أُمسيات معينة حيثُ يروي (القصخون) *فصولاً من قصص المغامرات الخيالية والبطولات الوهمية فقد كان أهل بغداد يجتمعون بعد صلاة العشاء في المقاهي للاس حيثُ كانت في بغداد مقاهي عديدة يجتمع فيها الناس حول قاصهم المفضل منها مقاهي محلات الجوبة والفضل وباب الشيخ والدهانة في جانب الرصافة ومقاهي محلات الفحامة وسوق العجمي والست نفيسة والشيخ صندل في جانب الكرخ لذلك كان (للقصخون) مكانة مرموقة في المقاهي لأن السواد الأعظم لم يكن لديه مايلهو به كالملاهي ودور السينما وغيرها فكانت تسليتهم بسماع القصص والأساطير يتلوها عليهم أحد القصاصين لذا كان رواد (القصخون) يحرصون بمثابرة ملحوظة على حضور جلسات الرواية ومتابعة فصولها في الوقت الذي أتخذ فيه أصحاب المقاهي التعاقد مع القصاصين سبيلاً لزيادة رواد مقاهيهم

ولطالما شاهد البغداديون في بداية القرن العشرين القصخون (ملا فرج) في مقهى حوري بمحلة خان لاوند وعلى رأسه جراوية وبيده سيف خشبي ومثلهُ كان القصخون (نصيف العزاوي) وقد كان لشقاوات بغداد ولع أي ولع بالإصغاء إلى ماينشدهُ القصخون من أخبار تلك المعارك وما يصورهُ من أشكال تلك البطولات لأبي زيد الهلالي وعنترة بن شداد أو غيرهما من أبطال الملاحم

فيما كانت تعرض مقهى عزاوي في محلة الميدان ألاعيب (خيال الظل) في ليالي شهر رمضان بينما (مقهى سبع) التي تقع على مقربة من مقهى عزاوي كان بها ملعب (القرقوز) في حين كان مقهى التبانة بمحلة الفضل يعرض ليلاً أشبه بتمثيليات هزلية لاتخلو من النكات المضحكة على جمهرة من المتفرجين ونتيجة للتطور العلمي والتقني الذي رافقهُ حدوث تغيرات في الحياة الاجتماعية في مدينة بغداد فقد ودعت مقاهي بغداد مجالس القصخون وعوضت جلاسها بالكرامفون (الحاكي) أولاً ثم الراديو فعند ظهور جهاز الحاكي كان بعض أصحاب المقاهي يضعونهُ في مكان بارز من المقهى ومعهُ عدد من الاسطوانات لإسماع جُلساء المقهى بعض الأسطوانات المحتوية على الأغاني والمقامات العراقية والبستات حيثُ تم استبدال الراديو في أواسط الثلاثينيات من القرن العشرين بدل الحاكي في بعض مقاهي بغداد وأصبحت من الحاجات التي ينبغي تزويد المقهى بها مع بروز وازدياد ظاهرة قراءة الصحف اليومية في المقاهي بمدينة بغداد

أما عبدالكريم العلاف فيشير إلى الملاهي وجوق الإخباري بقوله (وبعد أن شعر أصحاب الملاهي أنّ أهل بغداد سئموا ذلك الرقص الخليع وتلك الأغاني الرخيصة وأن سير الملاهي أخذ بالتقهقر الشنيع مما يؤدي إلى الخسارة المادية ضموا إلى جوق الرقص جوق تمثيلي هزلي مؤلف من عدة أشخاص يقومون بدوره آخر الليل ويسمى هذا الجوق إخباري). ولم يكن جوق الإخباري هذا حديث العهد فهو على غرار الفصول الهزلية التي كان يقوم بها الهزلي البغدادي المشهور (إبن الحجامة) وزميله الفكه (منصور) في بعض مقاهي بغداد أوائل القرن العشرين غير أنهُ منظم بملابس مزركشة فضلاً عن إظهار الخناجر والسيوف ومشاركة النساء في هذا العرض والبغدادي المرح بطبيعته يطرب لكل شيء ينعش خاطرهُ. ومن الممثلين المعروفين في ذلك (جعفر لقلق زادة) الذي كان ممثلاً إنتقادياً بارعاً إضافة إلى كونه مؤلفاً ومدرباً

وهنالك عدة أجواق للتمثيل الخلاعي كانت مقتصرة على بعض الفنادق أهمها جوق (سليمة مراد) وقد وصف هذا النوع من التمثيل بأنهُ قاتل للحشمة

إهتم البغداديون بمشاهدة الصور المكبرة في فترة سبقت ظهور أول صورة متحركة صامتة فوق شاشة سينما أما السينما توكراف فقد شاهدها أهالي مدينة بغداد للمرة الاولى وذلك في ليلة الاحد 26/ تموز1909، حيثُ عُرض أول هذه الافلام في دار الشفاء الواقع في الجانب الغربي (الكرخ) من بغداد وقد انبهرت تلك الجمهرة التي حضرت العرض مما شاهدت من (الالعاب الخيالية) كما دُعيت في ذلك الوقت ويظهر أن مدينة بغداد سبقت غيرها من العواصم المجاورة من خلال أول عرض سينمائي جرى في عام 1909.

ويبدو أنّ هذا الفن الوافد قد راق لبعض تجار ذلك الزمان فقرروا اختيار مكان مناسب عام يرتادهُ الأهالي بموجب تذاكر وقد وفق هؤلاء إلى تشييد أول دار للعرض السينمائي في عام 1911 وسط البستان الملاصق للعبخانة وتقع هذه المنطقة حالياً في منتصف شارع الرشيد ببغداد وفعلاً جرى حفل العرض السينمائي الاول في 5/ أيلول /1911 فكان لهذا الحدث غير الاعتيادي أصداء واسعة في الاوساط الاجتماعية والثقافية وظهرت عنهُ مقالات وتعليقات(23) وقد ضم العرض الذي حضرهُ الوالي العثماني (جمال باشا) ثمانية أشرطة قصيرة

وتشير الجريدة البغدادية (صدى بابل) الصادرة في أيلول ـ 1911 الى (يبتدىء أول تمثيل بالسينما توغراف في يوم الثلاثاء منذُ الساعة الواحدة والنصف في البستان الملاصق للعبخانة وهذا التمثيل الأولي يكون بالاشكال اللطيفة التهذيبية المبهجة) الآتية ـ

1ـ صيد الفهد 2ـ الرجل الصناعي3ـ بحر هائج4ـ التفتيش عن اللؤلؤة السوداء.5ـ سباق مناطيد6ـ طيور مفترسة في أوكارها7ـ خطوط حية (متحركة)8ـ تشييع جنازة ادوارد السابع ـ ملك إنكلترا

كان هذا أول إعلان ينشر في الصحافة العراقية عن عروض سينمائية تقدم في دار للعرض بموجب تذاكر ـ وفيه إشارة لعناوين الافلام المعروضة وقد حضر هذا العرض السينمائي ماينيف على 200 شخص يمثلون علية القوم من موظفي الحكومة ووجهاء المدينة صاحب العرض عزف الموسيقى العسكرية ويذكر أنّ ذلك المكان (البستان) الذي عُرضت فيه تلك الافلام هو نفسه الذي دُعي فيما بعد بـ (سينما بلوكي) نسبة إلى تاجر مسيحي مستورد للمكائن كان معروفاً في العراق وبذلك تكون هذه السينما ـ أي بلوكي ـ هي أول دار عرض سينمائي تُفتتح في مدينة بغداد عام 1911

ولم يكن ذلك البستان بالعبخانة المكان الوحيد الذي عُرضت فيه الصور المتحركة ففي المسرح المركزي بحديقة الاهالي خصصت سينما للأهالي عُرضت العديد من الأشرطة القصيرة من أهمها ـ

1ـ جريدة باتة2ـ العاب بدنية3ـ صورتان هزليتان4ـ طعام الملوك5ـ بالاضافة إلى شريط من خمسة أجزاء اسمهُ (مناظر الحرب)

وكانت عروض السينما توغراف تقدم عادةً في المناسبات المهمة والاحتفالات العامة كما حدث في التياترو الجديد بالبساتين العمومية عند الاحتفال بيوم الامبراطورية في 24/ أيار / 1918، فالى جانب العرض التمثيلي الذي قدمتهُ فرقة الممثل البريطاني (بول فريمن) عُرض شريط سينمائي يحمل اسم (معارك هذه الحرب) سجل مآسي الحرب العالمية الاولى كذلك عُرضت الصور الجديدة التي التقطت في شوارع بغداد واسواقها