في حي الوزيرية وكلية الآداب

في حي الوزيرية وكلية الآداب

بلقيس شرارة

انتقلنا بعد أن أمضينا بضعة أشهر في شقة شارع الأمين إلى دار في حي الوزيرية الهادئ، بحديقة واسعة، تظلل شوارعه أشجار الكالبيتوس الباسقة، فتقي المارة من حرارة الشمس المحرقة في الصيف. تفاقمت المشكلة التي عانيت منها في مرحلة الدراسة الثانوية، فالانتقال إلى الدراسة في كلية الآداب المختلطة عرضتني إلى المزيد من ملاحقة «الخّطابة»، و ازداد من جانبي الإصرار على الرفض. مما أشعرني كما لو أنني في سجن، و تحت رقابة مشددة تحدق بي العيون ترصد كل حركة أو التفاتة تبدر مني.

كما شعرتُ أن والدتي لم تكن مرتاحة من موقفي الرافض لكل من يتقدم لطلب يدي، و اعتبرته نوع من غرور الشباب و عجرفة الصبا! لم تستطع والدتي فهم مشاعري أو موقفي من المستقبل، فلم تسنح لها الفرصة في حياتها أن تختار الفستان الذي ترتديه عندما كانت شابة بعمري، فكيف تستطيع استيعاب شروط اختيار الشاب المناسب لي؟ فالسؤال أو الرفض هما فقرتان لا وجود لهما في قاموس حياتها، كل شيء مسّير بالنسبة لها حسب نظام فرضته العائلة عليها، و عليها الطاعة، رغم ان ذلك يعني تجريدها من إرادتها، دون أن تتوقف عنده أو تشعر به، بل اعتبرتها سلوكاً طبيعياً في إطار المنظومة الاجتماعية القائمة التي تتحكم حياتها.

كنت أسير مشياً أحياناً من الكلية إلى دارنا في منطقة الوزيرية، أو أركب الباص، فأعبر الشارع إلى محطة الباص بخط مستقيم، لا ألتفت يميناً أو يساراً، أجلس في المقعد الأمامي القريب من السائق، مرفوعة الرأس، أتطلع إلى الشارع. يصعد طلبة الكلية في نفس الباص المتجه إلى الوزيرية. حين اتأهب للنزول من الباص، ترصدني العيون و تراقبني عن كثب، أقفز بسرعة عندما يقف الباص أمام المحطة القريبة من دارنا، أسير بخطوات واثقة حتى أصل الدار. كنت أشعر لأكثر من مرة بحركة غريبة خلفي، وقع خطوات على مبعدة أمتار مني. مما يحفزني على تسريع الخطى، ثم أعود للسير ببطئ فيخفف وقع الخطوات ورائي. كنت أواصل السير، و أنا أتابع حفر الرصيف، لا ألتفت خلفي، حتى عندما أصل الدار. ظل وقع تلك الخطوات يثير قلقي، أذهب في اليوم التالي إلى الكلية، و تلاحقني كظلي، بصوتها الرتيب على قارعة الرصيف حتى وصولي داري.

حاولت التغلب على هذه الملاحقة، فقامرت بترك الدرس الأخير، لكن باءت محاولتي بالفشل، لأنها تواصلت يوماً بعد يوم، و أسبوعاً بعد أسبوع، أحس بالخطوات تقترب أحياناً، متداخلة مع خطواتي، فأسرع عندئذ، و أحس بغضب في أعماقي من تلك الأشباح التي تلاحقني. يغالبني الشعور أنني مطاردة. و أنا في حيرة من أمري، لا أجد حلاً مناسباً لتلك المشكلة التي أقضت مضجعي! و هو ما يسببه الحرمان الجنسي عند الشباب، و الذهنية الذكورية المهيمنة على المجتمع آنذاك.

لم أفاتح والدي أو والدتي بالموضوع أو أبحثه مع شقيقتي مريم. إلا إنني صممت على تجاهلها! مع شعوري في معظم الأوقات أن حريتي كانت محاصرة. و لكن نجحت بعد عدة أشهر، فتلاشت الخطوات التي كانت تتبعني تدريجياً، حتى اختفت تماماً، لا اسمع إلا خطواتي! أصبحت لي الجرأة أن التفت ورائي، لأطمئن أن ليس هناك من يتبعني، و اختفت الأشباح التي ظلت تتعقبي.

كنت لا أجلس في نادي الكلية إلا بصحبة رفيقاتي، ذهبت ذات يوم أفتش عنهن في النادي، كان شعري الأسود منسدل على كتفي، فاشرأبت الأعناق فجأة و تسّمرت عيون الطلبة محدقة بي، ارتبكت و شعرت بتدفق الدم يسري في عروقي، و أحسست بطول الدرج الذي قطعته و كأن عدد درجاته قد تضاعفت. وصلت الصف، كان خالياً من الطلبة، فرفعت شعري بدبوسين، محاولة إعادة ترتيبه كما كنت أمشطه في السابق. كانت هي المرة الأولى و الأخيرة التي أغير فيها موضة شعري. أصبحت تلك الحادثة درساً لي و علمتني ألا أتركه يتدلى ثانية على كتفي. و لكن أصبحت الشرائط التي كنت أربط بها شعري، موضوع حديث و تعليقات من قبل الطلبة و شملت حتى بعض الأساتذة العرب. كنت أتجاهل ما يدور حولي من تعليقات التي اعتادت أذني على سماعها، مثل « اليوم الشريط الأبيض، و اليوم مقطّع، و اليوم ملّون»! مما أشعرني أن حريتي كانت مقيدة.

* * *

كان اتحاد الطلبة، الذي تأسس في شهر نيسان عام 1948، تحت قيادة الشيوعيين و اليساريين، فالطلبة الشيوعيون هم المنظمين الرئيسيين للإضرابات و الاحتجاجات و المشرفين على المظاهرات.

كنتُ محسوبة على اليساريين عندما بدأت الدراسة في كلية الآداب، و لكن لم أنتمي بصورة رسمية إلى اتحاد الطلبة، فلم أحضر الاجتماعات الدورية للاتحاد، لكنني كنت أتبرع مالياً للاتحاد و لا أقوم بجمع التبرعات.

كانت تقام في الكلية نشاطات ثقافية، من بينها اجتماع أسبوعي يعقد كل يوم اثنين في الساعة العاشرة صباحاً. فيجتمع طلبة الكلية و الأساتذة في القاعة الكبيرة المعدة لهذا الغرض. سارت الأمور على طبيعتها في البداية، فلم يتدخل العميد فيما يتعلق في الاجتماع الأسبوعي، حتى ألقى الشاعر مظفر النواب. قصيدته الشعبية في فرّاش الكلية «مروكي» فامتلأت القاعة بالطلبة، و لم تكفي مقاعدها للحضور فاضطر جمهور الطلبة الوقوف على جانبيها. علا التصفيق بحماس لمظفر بعد أن انتهى من إلقاء القصيدة، و كان لها صدى واسعاً بين أوساط الطلبة، و أصبح الفراش «مَروكي» فجأة نجماً من نجوم الكلية. و اشتهر مظفر بشعره الشعبي في الكلية، و جرى تداول قصيدته على أوساط واسعة يحفظها و يرددها عدد من طلبة الكلية.

على أثر ذلك قرر العميد عبد العزيز الدوري بشكل مفاجئ أن يلغي هذه الساعة، مما خلف في نفوس الطلبة إحساساً بعدم استعداد الإدارة تقبل أي نوع من أنواع الانفتاح، بالرغم من إن العميد كان من خريجي جامعة لندن و عاش في جو ليبرالي لبضعة أعوام في إنكلترا، لكنه كما يبدو كان أسير إملاأت من وزير المعارف خليل كنة عليه الإلتزام بها و تطبيقها.

كنا مخيرين بين موضوعين، الفلسفة أو اللغة الفرنسية، و اختار معظم الطلبة درس اللغة الفرنسية حباً بالمدرسة الفرنسية التي كانت فتاة شابة، نحيفة القد و القوام. جميلة الوجه، ذات عينين واسعتين داكنة الزرقة، تطوقها أهداب طويلة سوداء، و شفتين رقيقتين قرمزيتين، و شعر أسود قصير. كانت تبذل قصارى جهدها في تلقيننا اللغة الفرنسية تلقيناً صحيحاً. كانت لغة جديدة علينا، تختلف تماماً عن الإنكليزية التي اعتدنا على تلفظها في المدارس الابتدائية. تميزت بجديتها في التدريس، تنتقل من طالب إلى آخر للتأكيد على صحة لفظ الكلمة بالإعادة و التكرار مرات عديدة، حريصة على آلا تترك الطالب أو الطالبة حتى تتأكد من اللفظ الصحيح. فتعيد الكلمات و الجمل كآلة تسجيل حية. يتحايل بعض الطلبة في إعادة اللفظ بصورة غير صحيحة، بالرغم من الجهد الذي كانت تبذله معهم، تعود ثانية لتنحني على الطالب عن قرب، حيث لا تبقى إلا مسافة قصيرة تفصل بينهما! كان الطلبة من الشباب يتلذذون بهذه الحيلة، وهم يحدقون بعينيها الواسعتين، الداكنة الزرقة، و شفتيها الرقيقتين، المصبوغتين بالحمرة. كنت أحس بما تحس به من التعب، تبلع ريقها أحياناً، من الإعادة و التكرار، اشعر بنوع من التعدي على هذه المرأة الأوربية، في مجتمع محروم من الجنس! و لكن بالرغم من هذا الحرمان الذي كانوا يعانون منه، فقد كانوا مؤدبين بتصرفهم وسلوكهم تجاه زميلاتهم في الكلية.

أما الأستاذ دزمند ستيوارتDesmond Stewart فكان على عاتقه تدريس مسرحيات شكسبير، و كانت مسرحية يوليوس قيصرJulius Caesar إحدى المسرحيات في منهج الدراسة. كان معجباً بشخصية يوليوس قيصر، فعّلمنا القراءة الصحيحة للمسرحية. و كان يدمج في كثير من الأحيان ساعتين من دون فاصل، و نحصل بذلك على الفاصل بين الدرسين في نهاية الحصتين. كان يجلس بيننا، يوجه لنا أسئلة سياسية، مستقصياً أراء الطلبة، و يسمح لنا أن نوجه له الأسئلة عن القضايا الآنية في السياسية.

عن كتاب (هكذا مرت الأيام) الصادر عن مؤسسة المدى