باستوس: حروب الآخرين على أرض الشعوب المخدوعة

باستوس: حروب الآخرين على أرض الشعوب المخدوعة

إبراهيم العريس

" إن جزءاً من عنف وقسوة هذه الرواية يظهر من خلال وصف مؤلفها المدهش للجنود السائرين مهزومين ضائعين من الذين لم يبق لديهم في أجسادهم قطرة ماء يمكن أن تتحول الى دمعة". بمثل هذه العبارة تحدث المفكر الأميركي اللاتيني ادواردو غاليانو في كتابه "ذاكرة النار"، عن واحدة من أقسى الحروب وأكثرها مجانية في العصور الحديثة،

وذلك من خلال حديثه عن رواية "أبناء الإنسان" للكاتب اوغوستو روا باستوس. هذه الرواية التي اعتبرت منذ صدورها للمرة الأولى في العام 1960، عملاً ممهداً لظهور الروايات الأميركية اللاتينية التاريخية الكبرى، بل حتى لظهور الرواية في تلك المنطقة من العالم في شكل عام. إذ قبل "أبناء الإنسان"، كان من السهل العثور على أشعار وفنون من إنتاج مبدعي القارة اللاتينية، ولكن ليس روايات، إلا في استثناءات قليلة. بعد ذلك كانت الفورة. ومن هنا، فإن رواية روا باستوس هذه تمتلك نوعاً من الريادة، تماماً كما تمتلك قوتها كإبداع أدبي، ناهيك بقوتها الأخلاقية - الفكرية، بفضل كونها تتحدث أساساً عن حروب كانت، بالأحرى، وكما كلّ الحروب على اية حال، مجازر عبثية. وإذا كانت الرواية تبدأ بحرب العام 1870، التي خاضتها الباراغواي ضد ثلاث من الدول المجاورة لها، فإنها تتحدث أيضاً وخصوصاً عن حرب الشاكو، التي اندلعت بين الباراغواي وبوليفيا خلال الفترة بين 1932 و 1935، وكانت بدورها حرباً قاتلة، أسقطت مئات ألوف القتلى من الجانبين. ومع هذا، فإن هذه الحرب الأخيرة ستبدو "هزيلة" إن نحن قارنّاها بالحرب الأولى، الحرب الكبرى وفق وصف أهل الباراغواي أنفسهم والتي أفقدت هذا البلد نحو 80 في المئة من سكانه.

تلك الحرب الكبرى، التي تبدأ بها الرواية، اذاً، حدثت خلال العقد السابع من القرن التاسع عشر (1865 - 1870). أما سببها المباشر فكان مزاج ديكتاتور الباراغواي الدموي في ذلك الحين سولانو لوبيث، الذي يخيل اليه ذات لحظة شعور بالعظمة، ان لديه من القوة ما يمكّنه من الانتصار، فيجابه ثلاثاً من أقوى الدول مجتمعة: البرازيل والأرجنتين والأورغواي. ولنا أن نتصور كيف كانت النتيجة. مهما يكن، فإن روا باستوس لا يحدثنا عن ذلك التاريخ المدمّى في شكل مباشر، بل من خلال السكان البسطاء في قرية نائية تقع في اقليم فيلاريكا... هؤلاء الناس نلتقيهم العام 1910، وذاكرتهم لا تزال حافلة بحكايات كارثة تلك الحرب الكبرى... يتندرون بها، يتذكرون من خلالها أحباباً لهم سقطوا فيها، يتواعدون على أن الحروب لن تعرف طريقها إليهم بعد الآن، ثم يستقبلون غرباء إثر غرباء يتدفقون الى المكان. وفي كل مرة يأتي فيها غريب، تُحكى الحكاية من جديد. ثم ما إن يمضي عامان، حتى تحل الانتفاضة الفلاحية الكبرى التي بدأت العام 1912. وهنا تنتقل رواية "أبناء الإنسان" من العام الى الخاص، حيث نجدنا في قرية سيبوكاي، التي تتشكل فيها جماعة من المتمردين دُرّب أفرادها للتوجه الى العاصمة وإثارة المشاكل فيها. ولكن فيما تكون القافلة في طريقها الى العاصمة، تؤدي خيانة ما، الى معرفة الحكومة بما يحدث، فترسل الى المكان حافلة قاطرة محمّلة بمئات القنابل. وتنفجر القاطرة في المتمردين مخلّفة ثغرة دائرية كبيرة تشهد على ما حدث، وتتسع لجثث ألوف المتمردين وغيرهم من أهالي القرى الغاضبين الذين كانوا أتوا من أجل تشجيع الثوار على صراخ "الأرض والحرية".

طبعاً، لم يقتل يومها كل الناس، بل بقي منهم ناجون كثر... ولم يكن أمام هؤلاء الناجين، كي يفلتوا من القمع الحكومي، إلا أن يلجأوا الى عمل أو الى سيد من أي نوع كان. وهكذا نجد الناجيين كاسيانو جارا، وزوجته ناتيفيداد، يعملان لدى شركة "انتدوستريال" التي تتولى زراعة مادة "الماتي" وتصنيعها وتعبئتها ("المتة" المعروفة في لبنان والتي تعتبر "شاي" تلك المنطقة من العالم). غير ان نظام العمل نفسه، لن يبدو بالنسبة الى الزوجين جنة الله على أرضه، بل انه عمل يحولهما، ويحول ألوفاً غيرهما، الى عبيد حقيقيين، يعيشون يومهم في فاقة وجوع، وليلهم في التفكير في طرق التخلص من الديون التي تتراكم عليهم يومياً. بيد أن كاسيانو وزوجته يتمكنان ببعض الحيلة وببعض الحظ من جعل مصيرهما أفضل قليلاً من مصير الباقين. وهكذا يكوّنان عائلة ويتفاديان المشاكل وينجبان. غير ان ابنهما كريستوبال، لن يكون محظوظاً مثلهما، ذلك انه سيعيش، مرغماً الى حد كبير، جحيماً جديداً هو جحيم حرب الشاكو. وكريستوبال لن يكون وحده في معمعة ذلك الجحيم... سيكون هناك آخرون ومن بينهم ضابط اعتقل وسجن لأنه كان قد جنّد فلاحين ثواراً وأوصل اليهم أسلحة.

انطلاقاً من هنا يكرس روا باستوس الجزء الأكبر من الصفحات المتبقية من روايته، للحديث عن حرب الشاكو، بحيث إن الكتاب يصبح هنا أشبه بمدونات عن تلك الحرب، ولو منظوراً اليها بعيني كريستوبال وعيني الضابط المعتقل في الوقت نفسه. ولعل أهم ما تشي به صفحات روا باستوس هنا، هو أن الجنود المشاركين في الحرب هذه المرة، ليسوا أبداً بغافلين عن حقيقتها وعما يتوخونه منها، حتى وإن كان عدد لا بأس به منهم لا يزالون مؤمنين بأنهم انما يقاتلون في سبيل الوطن ويضحون بأنفسهم قرابين على مذبح الطاعة والامتثال: الحقيقة أن كثراً من الجنود يدركون انهم هذه المرة انما يقاتلون من أجل المنافع الخاصة، ولسان حالهم يقول: "اننا سنقاتل من أجل امتلاك الأسهم في العزبات وفي شركات النفط، سنقاتل من أجل المكسب... الى درجة ان نزعتنا الوطنية ستطلع منها رائحة النفط قوة عاتية".

لكن الحرب، وطنية كانت أو من أجل مصالح الآخرين، ليست نزهة. وهذا ما يقوله لنا روا باستوس في الفصول الأخيرة من "أبناء الإنسان"، حين يصف مسيرة الجنود والمرارة، الهزائم والأمراض المتلاحقة، المعارك والجوع والعطش... انه جحيم سيبدو جحيم دانتي لعبة أطفال مقارنة به. ماذا؟ انها الحرب الحقيقية. هكذا هي هذه الحرب، وهكذا هي كل الحروب، ولا نخدعن أنفسنا، يقول الجنود في هذه الرواية بعد أن يكتشفوا الخديعة "وكل حرب هي خديعة" يقول واحد منهم "لكننا عميان لا نبصر نؤخذ بالكلام الديماغوجي وبالعبارات والشعارات الرنانة"، يقول آخر. المهم ان الهزيمة تكون في المرصاد. هزيمة الجميع؟ أبداً... طالما ان شركة "ستاندرد أويل" هي التي تجابهت في الحرب مع "رويال دوتش"، من طريق البوليفيين الذين خاضوا حرباً واحدة من الشركتين والباراغويين الذين خاضوا حرباً أخرى.

تلك هي الحقيقة التي لم يتنبه اليها المتحاربون أول الأمر - وهل ثمة متحاربون يتنبهون الى الحقائق إلا بعد المجازر والهزيمة؟ يتساءل جندي -. لكن الرواية لا تريد لنفسها أن تبدو وعظية، لذا نجدها هنا، بعد أن تعرض أطروحتها، تعود الى كريستوبال الذي يقود وحدة انتحارية مكلفة بإيصال ماء ومؤن الى جنود محاصرين، لكن الحملة تتحول الى مجزرة. في البداية تهاجمها طائرة ترش الجنود بالرصاص... ثم يهجم على من تبقى من هؤلاء، أعداء وأصدقاء في الوقت نفسه، لأن الكل جائع والكل عطش. وأمام الجوع والعطش لا يعود ثمة عدو أو صديق.

على هذه السوداوية ينهي أوغستو روا باستوس (كاتب الباراغواي الكبير المولود العام 1917 في آسوتسيون والذي شارك بنفسه شاباً في حرب الشاكو) هذه الرواية الصاخبة اليائسة والغنية. الرواية التي تعتبر في بلد روا باستوس العمل التاريخي الأكبر الذي يذكّرهم بماض يقولون دائماً إنه لا يجدر بهم نسيانه، لأن النسيان يسهل تكراره. وروا باستوس بدأ حياته صحافياً، لكنه بعد انقلاب عسكري يميني حصل في بلاده، نفى نفسه الى الأرجنتين حيث عاش أكثر من ثلاثين سنة توجّه بعدها ليعيش في فرنسا، وهو بين المنفيين كتب أهم رواياته ومنها، إضافة الى "أبناء الإنسان"، "أنا الأعلى"، التي حكى فيها عن خوسيه غاسبار فرانسيا، الديكتاتور الذي حكم الباراغواي بين 1814 و 1840، ويعتبر صانع استقلالها.

*****

رواية "أنا الأعلى" للكاتب الباراغويّ آوغوستو روا باستوس. في شكل عام لا تختلف هذه الرواية كثيراً، في مضمونها على الأقل، عن اكثر من دزينة من روايات اميركية لاتينية تتناول موضوع الديكتاتور. اما الاختلاف – بل التميّز بالنسبة الى كثر من المؤرخين والنقاد – فيكمن في مجالات أخرى. ولعل ابرز هذه المجالات ان الراوي هنا هو الديكتاتور نفسه. ومن الفوارق الأساسية ايضاً انه اذا كان معظم الكتّاب قد جعلوا لديكتاتورهم اسماً مستعاراً، فإن روا باستوس سمّاه باسمه التاريخي الحقيقي، اي الدكتور فرانسيا – ولعل في الإمكان هنا المقارنة مع تسمية غابريال غارسيا ماركيز لديكتاتوره سيمون بوليفار باسمه الحقيقي في "الجنرال في متاهته" بيد ان ماركيز اكثر مما كان يكتب رواية بالمعنى التخييلي للكلمة، كان بالفعل يؤرّخ لحياة بوليفار محرّر أميركا اللاتينية، بأسلوبه الروائي الشيّق -. ومع هذا سنسارع هنا الى تأكيد أمر شديد الطرافة والدلالة معاً: حين جعل روا باستوس بطله ديكتاتورا من الماضي يملي على سكرتيره الخاص تفاصيل حياته وإرادته خلال أيامه الأخيرة، فإنه – اي الكاتب إنما استخدم ديكتاتور الماضي الحقيقي قناعاً للحديث عن ديكتاتور كان يحكم الباراغواي، وطن الكاتب، في الزمن نفسه الذي كان يكتب الرواية فيه. ومن هنا تبدو الرواية كلّها لعبة مرايا وتأرجح سرّي بين الماضي والحاضر، يلعب فيها القناع الآتي من الماضي الحقيقي دور الكاشف عن ممارسات ديكتاتور الزمن الحاضر.

* وديكتاتور الزمن الحاضر هو هنا – في خلفية الصورة – الجنرال الفريدو ستروسنر، ديكتاتور الباراغواي، الذي عرف بقسوة حكمه وبأنه كان من اكثر ديكتاتوريي اميركا اللاتينية تعسفاً وظلماً للشعب، كما كان من اطول الديكتاتوريين حكماً. ومن هنا لعل المأخذ الأساس الذي أخذه المؤرخون على رواية روا باستوس كمُن في فوارق عدة بين الحاكمين. ومن الناحية التاريخية تلعب الفوارق لمصلحة الديكتاتور المعاصر، إذ يقول لنا التاريخ ان دكتور فرانسيا لم يكن ابداً على السوء الذي كان عليه ستروسنر. اما روا باستوس فإنه لم يدافع عن روايته إزاء هذه المآخذ، بل تركها تتحدث عن نفسها حتى من دون ان يؤكد او ينفي ان فرانسيا الرواية انما هو قناع لديكتاتور الواقع.

* كما اشرنا، ان الدكتور فرانسيا هو الذي يروي الحكاية وبالتحديد يمليها. ومن هنا تأتي العبارة التي جعلها الكاتب عنواناً للرواية "انا الأعلى" إذ هي العبارة التي تفتتح الرواية نفسها حيث، إذ يشرع الديكتاتور في إملاء النصّ وسكرتيره جالس يتلهف لسماع اولى كلماته هنا كي يدوّنها فرانسيا: "انا الأعلى، ديكتاتور الجمهورية آمر أن يصار حين موتي الى انتزاع رأسي من جسدي ووضعه فوق عمود مرتفع وسط ساحة الجمهورية طوال ثلاثة ايام حيث يدعى الشعب الى الحضور عبر دقّ متواصل لكلّ الأجراس في البلاد…". هكذا اذا تفتتح الرواية لتتواصل في ما يرويه هذا الحاكم الذي حكم الباراغواي بالفعل بين 1811 وعام وفاته 1840. وقد تسلم فرانسيا حكم الباراغواي بعدما كانت له اليد الطولى في تحريرها من الاستعمار الإسباني. وهذا ما جعله – وسط توافق عام بين العسكريين والشعب – يعتبر صاحب الحق في تسنّم المركز الأعلى في البلاد. غير ان الدكتور فرانسيا لم يكن ديكتاتوراً بطبعه. بل على العكس من هذا، كان رجل فكر ومن انصار حركة التنوير التي كانت في خلفية الثورة الفرنسية… ومن الواضح خلال النص – كما خلال الواقع التاريخي – ان ما حرّك فرانسيا للعمل على تحرير وطنه انما كان الثورة الفرنسية نفسها. غير ان المرء يتغيّر تماماً تحت وابل السلطة. وهذا طبعاً ما يقوله روا باستوس وتقوله الرواية ولكن على لسان صاحب العلاقة. وصاحب العلاقة هذا اذ يروي مسار حياته ومسار حكمه يفعل ذلك من دون ان يشعرنا بأنه يعي حقاً كنه التغيّر الذي أحدثته السلطة لديه… ان لديه من البراءة ما يجعله مندهشاً في كل مرة وجد من يعارض فكرة له، او يأخذ عليه خرق اصلاح ما. مشكلته ان الناس لا تفهمه. ولأن الأمر كذلك ينبغي ان يعاقب الناس. انه في الرواية الانزلاق التدريجي نحو الهاوية والسخف وربما الجنون ايضاً… لكن الأمر لدى الدكتور فرانسيا هو غير ذلك: ان المحكومين هم المجانين اذ لا يقبلون افكاره الاصلاحية التنويرية. اما الحكم في الأمر فهو القارئ نفسه. ولأن آوغوستو روا باستوس يريد من قارئه ان يفهم بالتناقض ما يكمن خلف النصّ الذي يمليه الدكتور فرانسيا، كان لا بد له قبل اي امر آخر ان يشتغل على اللغة. ومن هنا نفهم اولئك النقاد ومؤرّخي الأدب الذين اعتبروا تميّز روا باستوس في هذه الرواية تميّزا لغوياً… وكذلك في مجال استخدام اللغة – لغة الدكتور فرانسيا في إملائه النص – لبناء اسطورة الذات. ولعل اللافت في البعد اللغوي هنا انه عبّر بكل قوة ولؤم عن قسط كبير من براءة لدى الدكتور فرانسيا في تعامله مع حكايته وإيمانه بأنه قد امضى حياته في "خدمة الشعب والوطن".

· من ارشيف جريدة الحياة اللندنية عام 2014