حوار: قاسم حسن
المسرحيون العراقيون الذين تحملوا وعانوا وحملوا على أكتافهم وفي ضمائرهم عذابات شعبهم ووطنهم واختاروا ان يكونوا الى جانب الفقراء والبسطاء من ابنائه ، ومصالح وطنهم بأصعب الظروف قساوة من أجل ان يقولوا كلمتهم في الحقيقة وتعرية كذب السلطة ودجلها ، متصدون ببطولة لفضح مناوراتها وألاعيبها المفضوحة والمكشوفة للتسلط على رقاب شعبنا ، هؤلاء الذين لم يرضخوا لأبتزاز السلطة ، رغم الترهيب والترغيب
المسرحيون العراقيون الذين لا يسٌخِرون مسرحهم وافكارهم وعطاءهم على المسرح ويجيروه الى سلطة او يطبلون لها متطوعين ، ولم يعتادوا بيع ضمائرهم، مهما كانت درجة محاباتهم وسكوتهم عن مايتعرض له شعبهم ووطنهم من اضطهاد وغبن في حريتهم وتطلعاتهم الى مستقبل يكون فيه الانسان هو الهدف ، هؤلاء هم القلة...
إن الحديث عن الفنانة وداد سالم له شقان لايمكن الفصل بينهما ، فني وإبداعي كونها من جيل الرواد الذين وضعوا اﻷسس العميقة ، والراسخة ،والأصيلة لمسرحنا العراقي التي تجذرت ونمت مع الاجيال الاخرى الشق الثاني ، النضالي ودورها في منظمات المجتمع المدني الى جانب شعبها ومع مصالح وطنها ، ومااعطته من شبابها ، وفي حياتها، من اجل الحرية والديمقراطية ، ضد الاستبداد والتسلط .
وأريد أن اتوقف كثيرا عند هذا الجانب ، لاعتبارات كثيرة منها ان الولوج في هذا الجانب سيبعدنا عن منجزها الأبداعي والفني ، وتميزها في فترة عصيبة على الفن والفنانين وهذا لايخلو طبعا من من نضال وجهد ومثابرة ،حيث مادام الفن الى جانب الشعب هو سياسة ايضا ، مادمت قريبا من معاناة شعبك تدخل في منطقة قد تكون محرمة بنظر السلطة وجلاوزتها الذين زُرِعوا قصدا في جسد الأسرة الفنية المسالمة مخترقين إنسانيتها، من هذا المنطلق ارى من الضروري ، والضروري جدا ، تسليط الاضواء على تجربتها وعطاءها وابداعها في هذا المجال ، الأبداعي والنضالي في آن واحد ، المسرح والتلفزيون والسينما ، كونها غابت وغُيٌبت ،قصرا،لأكثرمن ثلاثة عقود ، ولكنها لم تغب ابدا ، حيث حملت ، العراق ، ومسرحه وفنه في عقلها وضميرها ، تقتنص الفرصة تلو الأخرى والمناسبة ان تدلي بدلوها ، من خلال المنابر الثقافية والأعلامية والمهرجانات والمؤتمرات وغيرها من النشاكات والفعاليات التي لاتبخل ابدا في المساهمة فيها مناصرة قضية شعبها وهمومهم في النضال ضد اعتى الديكتاتوريات وأكثرها قساوة وظلما وقهرا وإضطهادا .
منذ خروجها من العراق اواخر السبعينات من القرن الماضي ، وهي المعارضة العنيدة والمقاومة بكل ماتمتلكه من قوة ، وباشكال مختلفة وفي اي موقع تكون فيه ، لنظام وسلطة تعجز الكلمات في وصفه ، لايهدأ لها بال ، ولايُسر الحال ، وبالتالي هي انسانة أيضا عليها ان تحافظ على وضعها ، كأم وكزوجة ، وكطالبة للعلم والمعرفة في فترة ما من حياتها .
تقول الفنانة وداد سالم عن نشأتها :
أنها نشأت وترعرت في حي من احياء بغداد (منطقة قنبر علي) وبالضبط في محلة (فضوة قره شعبان) لعائلة محافظة كسائر العوائل في هذه المنطقة التي تعج بالمناضلين والوطنيين شانها شأن المناطق المجاورة الأخرى حيث يسودها الغليان والحقد ضد السلطة الملكية العميلة ، وعيت وفتحت عيناي على تذمر الناس ، ومظاهراتهم ، وإضراباتهم ، والتي تشترك النسوة فيها الى جانب الرجال ، حيث لايمر يوم يخلو من الاعتقالات ، والمداهمات لبيوت المناضلين وملاحقات طالت حتى النساء والأطفال والشباب ..كان الجميع يفخر ويعتز بهم ويسير على دربهم في النضال المتواصل والدؤوب من أجل الحرية والكرامة ، ولقمة العيش ، وكان لأستشهاد أحد المناضلين (المناضل الشيوعي نعمان محمد صالح) عام 1952 وقع خاص ومؤثر في حياتي كونه شابا مناضلا ومن اقربائنا ايضا ، كان يوم تشييعه الذي شاركت فيه ، مظاهرة كبيرة ومناسبة للاحتجاج مع آلالاف من المواطنين ، نساءا ورجالا، ومنذ ذلك التاريخ تكونت لي وجهة نظر في النظام وسياساته وبطشه بالناس البسطاء والفقراء .. فحقدت حقدا كبيرا ، مشاركة أبناء المنطقة، في اغلب المظاهرات والاحتجاجات التي كانت الجماهير تقودها ضد هذا النظام الذي قتل(نعمان) وامثاله من الناس الطيبين والبسطاء ، وحينها عرفت ايضا ان هذا النظام مناهض لكل ماهو جميل وعزيز ، مناهض للحياة نفسها ، فزاد غضبي ، وهكذا بدأت ادرك السياسة واتجاهها الصحيح واين يجب ان اقف وأكون ، ولذلك كنت مع الناس الأوائل الذين عملوا في المنظمات الديمقراطية العراقية التي بدات تتشكل وتظهر الى العلن . بعد ثورة الرابع عشر من تموز عام 58 وكانت خطواتي الأولى في رابطة المرأة العراقية واتحاد الشبيبة الديمقراطي واتحاد الطلبة العام في الجمهورية العراقية .. وفي هذه المنظمات بدأت حياتي تتنظم وتتبلور ، وايضا وجدت فيها متنفسا لتحقيق رغباتي الفنية حيث عملت من خلالها أعمالا مسرحية ، قد تكون بسيطة في شكلها ، ولكن لها مغزا وأهدافا كبيرة وعميقة ، ومن هنا كانت خطواتي الأولى على طريق الفن والمسرح ، الذي كنت احلم به منذ طفولتي ، والذي تعمق عندي وفي داخلي بشكل أشد ، حين كنت أتابع أخي الفنان (طه سالم) وأعماله المسرحية في معهد الفنون الجميلة وهو لازال طالبا فيه خاصة مسرحية (شهرزاد) لتوفيق الحكيم التي اخرجها الفنان الكبير حقي الشبلي لطلبة المعهد قبل عامين من هذا التاريخ ، والتي لعب ادوارها خيرة الممثلين ، والذين اصبحوا فيما بعد من أهم الفنانين المسرحيين في العراق .
أدهشتني تلك المسرحية ، وإنطبعت في ذاكرتي ، وخلقت لدي الرغبة الكبيرة في ان اكون ممثلة لأجسد شخصيات عظيمة على خشبة المسرح ، وهذه هي ليست الحافز الوحيد ، وانما يعود الفضل في ذلك ، الى البيئة التي ولدت وترعرعت فيها ، وناسها وتأثيراتهم علينا ، ومن قبلي أخي الفنان طه سالم ، حيث كانت تلك المنطقة ليست منبعا للمناضلين فحسب بل للفنانين والمثقفين ايضا ، والذين إرتبطت حياتهم بالفن والمسرح وإيمانهم برسالته، وكان لهم التأثير المباشر في تكويني ،ومنهم الفنانين شهاب القصب و فوزي الأمين ، عبد الله العزاوي ، وحامد الأطرقجي وغيرهم ويبقى الأهم تشجيع وتاثير أخي وصديقي الفنان طه سالم.
اول عمل مسرحي لها وبفرقة (محترفة) هي فرقة الشعلة التي تأسست في العام (1959) و كانت تحمل اسم(نجوم المسرح) بمسرحيتين هادفتين ، اعدهما الفنان ابراهيم الخطيب ، واخرجهما ، ايضا وكان من اعضاءها خيرة نجوم المسرح في تلك الفترة .. بعدها انتقلت الى فرقة (المسرح الفني الحديث) من اهم الفرق المسرحية في العراق ، والتي تضم مجموعة مهمة من الفنانين ، المحترفين ، والكبار بمنجزهم الابداعي في فن التمثيل .. مشاركة في اول عمل مسرحي لها ، مع هذه الفرقة، بمسرحية (الخال فانيا) من مؤلفات إنطوان تشيخوف ومن اخراج عبد الواحد طه .
في عام 1961 كان ظهورها الأول في التلفزيون ، بتمثيلية من اخراج الفنان خليل شوقي الى جانب الفنان آزادوهي صاموئيل والفنان سعدي يونس بالتزامن مع عملها في المسرح ، متنقلة بين عدة فرق مسرحية منها من تشكلت حديثا ومنها من كانت قائمة .. تساهم وفقا لما تراه مناسبا ومتلائما مع أفكارها وتوجهاتها الى أن تأسست الفرقة التي تتوافق مع افكارواهداف ، مجموعة خيرة من ابناء المسرح الهادف (فرقة مسرح بغداد) التي أجيزت بعد عناء وجهود كبيرة والتي هي (الفنانة وداد سالم) من ضمنهم الى جانب الفنانين جعفر علي وقاسم حول وسعدون العبيدي وطه سالم وعادل كاظم ومكي البدري وعبد القادر شكور وسيفي العباسي وعيسى البيرمي وصبحي الطائي وبسام الوردي وعادل التميمي وغيرهم.
التمثيلية التفزيونية الأولى من انتاج هذه الفرقة (منو أبو باجر) التي ذاع صيتها بين اوساط الجماهير العراقية في تلك الفترة لما لهذه التمثيلية التلفزيونية من أهداف الى جانب فقراء الشعب العراقي وأوجاعهم .. والتي كانت من تاليف أخيها الفنان طه سالم، التي لعبت دورا بطوليا الى جانبه والتي اخرجها الفنان خالد عباس امين .. وتتالت الاعمال التلفزيونية مع هذه المجموعة (في ذلك الوقت كانت التمثيلية التلفزيونية هي السائدة لاوجود للمسلسلات) حيث يتناوب الجميع على الاخراج تارة والتاليف تارة اخرى اضافة الى لعب ادوارها التمثيلية والتقنية ، وقدمت هذه الفرقة الكثير من اﻷعمال المسرحية والتلفزيونية منها (الحبيبة) التي اعدها عادل كاظم عن مؤلفها تشيخوف و(الحجي ميفيد) والمسلسل الاذاعي (الكندي) وغيرها اذاعيا وتلفزيونيا ومسرحيا التي راجت ولاقت نجاحا كبيرا وقبولا واسعا واهتماما وترحاب واسعين من قبل اﻷوساط الثقافية والفنية والاعلامية إضافة الى اﻷقبال الجماهيري الواسع أيضا مما اثار غضب السلطة وجلاوزتها الى مداهمة الفرقة وتفريقها .. وغلقها ومطاردة أعضائها من الفنانين والكتاب والعاملين فيها ومنهم من أعتقل ومنهم طالته الملاحقات وكان من نصيبها أن تتخفى وتنتقل الى مدينة الناصرية بعد اعتقال أخيها الفنان طه سالم...
كان عام 1963 عاما اسودا كئيبا مظلما ،على الثقافة والمثقفين حيث أغلقت أغلب المسارح وتوقف الانتاج التلفزيوني وعاش غالبية الفنانين ، بين الملاحقة والتخفي ، او السجون والمعتقلات ولكن إرادة وقدرة وصمود المبدعين ، تغلبت على الجلاد وأجهضت أفعال الظلام والظلاميين ، واصرار الفرقة ومبدعيها على التواصل كان اﻷقدر على تخطي العقبات وإرادتهم هي الأقوى دائما .
في مجال السينما كان لها دورا مهما في تاريخها الفني وسيرتها الأبداعية ، وخاصة إن السينما في العراق كانت تحبو وقليلة الانتاج ، اضافة الى الصعوبات الفنية واللوجستيه وعدم وجود الدعم لهذا الفن إلا ماندر ومن منتجين أغلبهم لايجازفون كثيرا في هذا المجال ، إلا ماندر.
في تلك الفترة خاضت تجربتين مهمتين ، الأولى في فيلم (أبو هيلة) وهي التجربة الاولى لها كممثلة في السينما الى جانب الفنانين يوسف العاني وخليل شوقي وزكية خليفة وهناء عبد القادر وغيرهم من الفنانين المخضرمين ، وكان الفيلم من اخراج محمد شكري جميل ويوسف جرجيس حمد وانتاج شركة الافلام الحديثة عام 1961.
وتجربتها الثانية في فيلم (اوراق الخريف) الذي انتجه ستوديو هاماز للافلام ، الى جانب الفنانين سليم البصري وسعدون العبيدي وحامد الاطرقجي وغيرهم ومن اخراج الفنان حكمت لبيب عام 1962.
شهدت مرحلة منتصف الستينات من القرن الماضي نضوجا وتطورا في الحركة الفنية ، وهذه لم تأت من فراغ بل بجهود مضنية ونضال لايخلو من القهر والاضطهاد ، عانى فيه العاملين في هذا النجال الأمرٌين ، خاصة تلك الفترة المظلمة عام 1963 .
عام 1964 صدر قانون الفرق المسرحية والتمثيلية وعلى ضوئها أجيزت عدة فرق ومجموعات مسرحية منها الجديدة ومنها التي كانت تعمل بغطاء آخر ، كفرقة (سميراميس) التي تتبع (الفرقة الشعبية للتمثيل) وكذلك (فرقة المسرح الفني الحديث) .. حيث انتعشت الحركة المسرحية وامتدت الى الدراما التلفزيونية علىشكل تمثيليات تقدمها الفرق المسرحية وكذلك المسلسلات والبرامج الاذاعية .. مستفيدة من مساحة الحرية في قوانين الدولة آنذاك ... كانت الفنانة وداد سالم في قلب الأحداث الفنية وذروة نشاطها الابداعي حيث كانت تتوزع مهامها ، بين الاذاعة والتلفزيون والمسرح ، اضافة الى السينما بالرغم من قلة الانتاج ... كان برنامجها اليومي بين الاذاعة والتلفزيون والمسرح.. وبالرغم من صعوبة الحياة الاجتماعية والمعيشية والظروف المحيطة بها سياسيا ايضا...
شهدت هذه المرحلة من عمر الفنانة وداد سالم، نشاطا مكثفا وكبيرا ....
في الاذاعة كانت في قسم التمثيليات والبرامج ، مساهمة في تنفيذ البرامج تارة واخرى كمذيعة ، ولابد من الأشارة الى مشاركتها في اهم وأشهر البرامج التي يترقبها الناس ،(من حياتي) وهو برنامج اجتماعي تمثيلي و(أين الحل) ومسلسل(ابو القاسم الطنبوري) اضافة الى نشاطها في التلفزيون بين فترة واخرى .
في المسرح مع الفرقة الأشهر والأهم (فرقة المسرح الفني الحديث) ومسرحية (في القصر) لمخرجها الفنان محسن السعدون الى جانب مجموعة من خيرة مبدعي المسرح ..ومسرحية (فوانيس) لمؤلفها الفنان والكاتب طه سالم ومخرجها الفنان ابراهيم جلال... ومسرحية (مدرسة القشبة) لمخرجها الفنان سامي عبد الحميد ، لصالح الجمعية البغدادية وغيرها.
في السينما خاضت تجربتين مهمتين بفلمين لازالت أحداثهما وصداهما راسخة في أذهان الناس ، فيلم (الجابي) لمخرجه الفنان جعفر علي ، وهو فيلم روائي تدور أحداثه في باص عام لنقل الركاب في بغداد والمفارقات التي تقع في رحلة مزدحمة على خط سير الباص ، مع نخبة من الممثلين المبدعين ، والفيلم الآخر هو (شايف خير) لمخرجه الفنان محمد شكري جميل وبنفس النخبة من الفنانين تقريبا .
والحرية هي العنوان العريض للقدرة الإنسانية على إزالة المعوقات وإنجاز أسباب وعوامل النهوض والتقدم. لذلك فإن المفردات الأساسية التي تنبع من قيمة الحرية، ألا نتعامل معها وفق عقلية ظرفية، آنية، وإنما نتعامل معها باعتبارها جزءا من منظومتنا الثقافية.
دور المسرح في إنعاش حرية الرأي لدى المجتمع
تميزت تلك المرحلة (النصف الثاني من الستينات)، والتي امتدت الى اواسط السبعينات بالانتعاش الثقافي بمختلف المجالات ومنها ، الفن بكافة اشكاله وأنواعه ، ويعتبر اكثر المراحل نضجا وحركة دؤوب ، حيث تعددت الفرق المسرحية العاملة على الساحة الثقافية ، والانفتاح والحرية النسبية التي توفرت ، وعودة الكفاءات الفنية التي اكملت دراساتها الأكاديمية في خارج العراق ، واقبال الشباب على دراسة الفنون في معاهد وكليات الفنون الجميلة ، لما كان للفن والفنانين دورا مهما في الحياة الاجتماعية والسياسية ، وتغير وجهة نظر الناس تجاه العمل في الوسط الفني بعد ان كانت النظرة الى هذا المضمار سيئة وسمعة غير طيبة ، حيث اصبح الفنان عكس ذلك وينظر له بالاحترام والتقدير والتقديس احيانا ، والاحتكاك المباشر وغير المباشر مع الحركات الفنية في خارج العراق والعلاقات الثقافية مع الدول التقدمية التي تحترم الفن والفنانين وتعتبره من الثوابت الأساسية في توعية البشر ومن صلب التنمية البشرية .. إضافة ، وهذا من العوامل المهمة والكبيرة جدا ، صدور بعض الصحف التقدمية التي لعبت دورا هاما في دفع الحركة الفنية وتطورها وإغناءها في النقد والتحليل والمتابعة المكثفة ، فكانت جريدة طريق الشعب اليومية ، وجريدة الفكر الجديد الأسبوعية ، ومجلة الثقافة الجديدة الشهرية ايضا ، اضافة الى جريدة التآخي اليومية وغيرها من الصحف والمجلات كالجمهورية ومجلة الاذاعة والتلفزيون المختصة بمتابعة نشاطات وفعاليات الفن والفنانين ، وكذلك البرامج التلفزيونية والاذاعية التي كان يعدها ويديرها خبراء من الوسط الفني لهم باع كبير في هذا الاختصاص ...كل هذه العوامل وغيرها ساهمت في نهضة فنية عالية الجودة ، وذات مستوى راقي ومرموق .
علاوة على ذلك، اهتمت المؤسسات التربوية، ممثلة في دوائر الأنشطة التربوية بوزارة التربية والتعليم بالمسرح، بتنظيم المسابقات التي تعنى بالمسرح المدرسي. كما تكللت تلك الجهود بإشراف المختصين من الذين تخرجوا من المعاهد الفنية والمعلمين ،ومن جانب آخر، هناك عروض مسرحية متخصصة قدمها خريجو قسم الفنون المسرحية في المعهد والأكاديمية في مجالات الفنون كافة ، بالإضافة إلى الأسابيع الثقافية للكليات التربوية التابعة لوزارات التربية والتعليم العالي ووزارة الثقافة في إثراء الحركة المسرحية من خلال إقامة الملتقيات المسرحية لمسارح الشباب، وكذلك إقامة مهرجانات المسرح بين فترة وأخرى، وتنظيم العديد من الفعاليات المسرحية كالندوات والحلقات التدريبية والدراسية
تقول الفنانة وداد سالم عن هذه المرحلة :
بعدما أجيزت (فرقة مسرح اليوم) عام 1969 دُعيت أنا وزوجي الفنان أديب القليه جي الى الانضمام الى الفرقة التي تضم في حينها، كوكبة من الفنانين المبدعين في المسرح كــ نور الدين فارس وقاسم حول ونجيب عربو وعلي فوزي وجعفر علي ومنير عبد الامير وبسام الوردي وفاروق أوهان ومكي البدري وغيرهم ... وبدأنا بالتحضير لعمل مسرحية (الغريب) من تاليف الكاتب نور الدين فارس واخراج الفنان جعفر علي... اعجبتني فكرة العمل ومضمونه ، التي تتوافق مع مبادىْ وتوجهات المجموعة كلها ، وتتماشى مع الظروف التي نحن فيها في تلك الفترة ... لتنصف الأنسان البسيط والساذج أمام سيطرة القوي والظالم .. وعرضت المسرحية على خشبة المسرح القومي ، وأثارت ردود أفعال كبيرة وكثيرة بين اوساط المجتمع والمثقفين والنقاد وكذلك في الصحافة والاعلام .. كونها سجلت للتلفزيون وبُثت من خلاله .. وكذلك أثارت جدلا واسعا بين الاوساط السياسية ايضا ، ولابد من الاشارة الى ان الكثير من المغريات ، تُقدم ، بأستمرار لهذه الفرقة في عرض اعمالها بشرط ان يحذف مشهد هنا ومشهد هناك لكن اصرار الفرقة وأعضائها على نهجهم التقدمي والناضج ، رفضت كل هذه المغريات وإستمرت الفرقة وتتالت أعمالها في هذه المرحلة والتي امتازت بالانتاج الغزير والنوعي والمشترك ، بالرغم من الظروف المحيطة بها ، وصنعت جمهورا نوعيا ومميزا كان السند الكبير في استمرارها ، كانت الاعمال (وهنا لابد أن اشير الى أنني أسرد هذه المعلومات والنشاطات المسرحية وعروض الفرقة ربما بشكل غير متسلسل وربما يسقط تاريخ هنا او اسم هناك ... لكن المهم ان نتذكر تلك الأعمال ونفتخر بها).
تتزامن اعمالي ونشاطي في هذه الفرقة مع اعمال اخرى للتلفزيون والاذاعة وغالبا مااكون مع نفس المجموعة الخيرة من هؤلاء المبدعين ، فكانت التمثيلية التلفزيونية (رغبة فراشة) لمؤلفها نور الدين فارس ومخرجها جعفر علي ، الى جانب الفنانين منذر حلمي وعلي رفيق واديب القليه جي ، و تمثيلية(الأبرة واللهب) التي تتحدث عن ثورة العشرين ، وتمثيلية (عندما تكون الزوجة ربة بيت) من تأليف وجدي العاني وهي تمثيلية كوميدية لاقت نجاحا باهرا ومنقطع النظير ، خاصة وإنها تحاكي العائلة في المجتمع وتناقضاتها .
التضامن مع الشعوب كان من أهدافنا ايضا ، وتضامنا مع الشعب الفلسطيني وقضيته العادلة قدمت الفرقة (فرقة مسرح اليوم) عملها التلفزيوني (حادث ليلي) الذي يتحدث عن العمل الفدائي في تلك المرحلة عمل توليفي من اشعار المقاومة الفلسطينية ، عُرض هذا العمل تلفزيونيا من خلال تلفزيون بغداد واداره فنيا الفنان عبد الوهاب الدايني بإخراج الفنان جعفر علي .
منذ تلك الفترة أصبح التقليد السنوي لدى المسرحيين العراقيين ، أن يحيوا يوما مهما للمسرحيين في العالم ، وكان لايمر هذا اليوم دون الأحتفاء والاحتفال به ، حيث تجري الاستعدادات مبكرا ، وتتبارى فيه الفرق المسرحية والفنانين المسرحيين العراقيين في تقديم أفضل مالديهم من مسرحيات عالمية وعربية ومحلية ، لايمر هكذا يوم دون أن يكون للفنانة وداد سالم مساهمة فيه ، سواء كان ذلك مع (فرقة مسرح اليوم) أو مع (فرقة مسرح الصداقة) وعلى خشبات مسارح عدة في بغداد ...
تجربتها مع (فرقة مسرح الصداقة) لايمكن أن لانتوقف عندها ، لما لهذه الفرقة من ميزة خاصة تعتز بمشاركاتها فيها ، خاصة وان تلك الفرقة تهتم في الأعمال النوعية والتقدمية كان دورها مميزا في حركة المسرح العراقي ،والأنكى من هذا ان الفرقة واعضاؤها من(المغضوب عليهم) بنظر السلطة الثقافية وجلاوزتها في تلك المرحلة ، والعمل فيها او المشاركة في اعمالها يعتبر تحديا صارخا للسلطة والنظام وحزبه القائد ، وطالما تعرض اعضاؤها والمشاركون في اعمالها الى المساءلة والملاحقة والتضييق ، وحتى الاعتقال والسجن ، داعيك عن التهديد بالطرد من الوظيفة او محاربتهم في قطع ارزاقهم ، الى غير ذلك ... لكن اصرار الفرقة واعضائها على مواصلة اعمالهم ونشاطهم ورصيدهم الجماهيري كان قوة عظمى لإندفاعهم وانتاجهم النوعي والمهم ، قدمت الفنانة مع هذه الفرقة أجمل الأعمال .... نذكر منها مسرحية (الخطوبة) لمؤلفها (تشيخوف)واخرجها الفنان اديب القليه جي ومسرحية (سيزيف والموت) والمسرحية التي أثارت جدلا واسعا وارتياحا كبيرا لدى الاوساط الثقافية والفنية والاعلام والصحافة الا وهي مسرحية (أجراس الكرملين) من اخراج الفنان اديب ايضا والتي لعب الدور الرئيس فيها الكاتب نور الدين فارس بشخصية (لينين) قائد الثورة البلشفية في الاتحاد السوفيتي السابق وكانت السبق الفني في ظهور هكذا شخصية على المسرح على مستوى الوطن العربي عامة خاصة لما لهذه الشخصية من مكانة أممية وعالمية ومؤثرة ومثيرة للجدل ،ويتبع الأفكار التي تضمنتها نظريته ، المغيرة للنظام العالمي، والتي اعتنقها وسار على هداها نصف العام وعاداها النصف الآخر.
(خلال عقد السبعينات مثٌلتُ أو إشتركٌت في تمثيل مئات التمثيليات التلفزيونية وعشرات المسلسلات التي يصعب حصرها وعدْهــا مع أغلب الفنانين نجوم تلك المرحلة ، ومن أجيال مختلفة في التجربة والخبرة والحضور الأبداعي ، ومنها على سبيل المثال لاالحصر (فارس بن حمدان) اخراج الفنان (ع – ن – ر) و(كنز السلطان) اخراج خليل شوقي و(الحالمون)اخراج حسين التكريتي و(الانسان والارض) اخراج سمير الصائغ و(المتمردون) اخراج المصري ابراهيم عبد الجليل و(الحارس) اخراج المصري ابراهيم الصحن وغيرها الكثير الكثير .. أغلب هذه الاعمال ، بل جميعها ،عُرَضت على التلفزيون الوحيد للدولة ، اضافة الى تقديمي بعض البرامج التلفزيونية منها مثلا برنامج (جولة في عالم الفن) .
من التجارب المهمة في حياة الفنانة وداد سالم منتصف السبعينات من القرن الماضي هي مساهمتها الى جانب زملاء لها في تنشيط وتفعيل ، بل وإحياء ، الفرقة العريقة في بغداد (فرقة المسرح الشعبي) والتي كان جُل اعضائها وهيأتها الادارية من خيرة فناني ومبدعي المسرح ومن التقدميين في أفكارهم، والمحترمين لفنهم ،والأنقياء في ممارساتهم ، أضَافَت لحماسهم حماساً ، ليعملواجميعا وبحماسٍ وعزيمةٍ الى إعادة بناءِ هذه الفرقة من خلال التفكير بحلول للكثير من المعضلات التي تواجه المسرح العراقي والمسرحيين ، معروفة، فكان التفكير جماعيا ، بالمكان وطريقة العرض المسرحي ، نظرا لوجود أزمة كبيرة في قلة المسارح وعدم وجود الدعم المادي لمثل هذه الفرق ، إضافة الى نوعية اصحاب المشروع (أعضاء الفرقة) في مناهضتهم لمشروع السلطة ونهجها الشوفيني في الثقافة والفن خاصة ، من هنا جاءت فكرة بناء مسرح صغير في بناية وسط بغداد ، بجمع شقتين متجاورتين في الطابق الثالث منها ، وبناؤه وتأسيسه وتحويره وتأثيثه ليكون مسرحا بستين كرسي وخشبة تستوعب حركة الممثلين ، والعمل على انتاج مسرحيات تتناسب مع هذا المكان الصغير.... من هنا كانت فكرة (مسرح الستين كرسي).
إشتهر هذا المكان (المسرح) وذاع صيته بين الاوساط المسرحية والثقافية والفنية وجماهير المسرح ومحبيه،وقدمت على خشبته اجمل الاعمال لفنانين مرموقين ومن أجيال مختلفة ، من هم من الرواد والشباب ،ومابينهما ، تعددت النشاطات والفعاليات والعروض وحظيت بنجاح ساحق ، مما أغضب السلطة الخانقة للحريات والتي لايعجبهاهذا الحِراك والنشاط الثقافي والتمدد والتوسع في جماهيرية هذا النوع من الفنون المؤثرة والمعبرة عن قضايا المجتمع والناس .
(أنتخبتُ عضوا في هيأتها الإدارية الأولى عام 1974 في هذه الفرقة العزيزة على قلبي إشتغلت أعمالا جميلة ومهمة منها نسرحية (بهلوان آخر زمان) التي أخرجها عبد الوهاب الدايني حيث أن المسرحية تكشف المستغِلين والمتسلقين والمتلاعبين بقوت الشعب ، وما أكثرهم في تلك الفترة ، وكانت تلامس رموز النظام وجلاوزته والمتملقين له، ولعب ادوار هذه المسرحية الى جانبي الفنان منذر حلمي وثامر الزيدي وشهاب احمد وعدنان الحداد وغيرهم ، ومسرحية (شيخ المنافقين) التي أخرجها الفنان جعفر السعدي وكذلك مسرحية (حكايات للناس) التي اخرجها الفنان ثامر الزيدي ولعب أدوارها معي الفنان هادي الخزاعي وعرفان عبدي ونضال عبد الكريم وغيرهم ، ومسرحية (الغضب) التي وقفت فيها على مسرح الستين كرسي والتي اخرجها الفنان أديب القليه جي والتي مثٌل ادوارها الى جانبي الفنانة الراحلة سهام حسين والفنان هادي الخزاعي ايضا وعدنان الحداد والفنان صبحي الخزعلي وعُرضت المسرحية في شباط عام 1978) وغيرها من الفعاليات والعروض المسرحية ضمن إطار هذه الفرقة ....
يقول الفنان عرفان عبدي(مسرحنا الرائع " مسرح الستين كرسي" وفرقة المسرح الشعبي، التي اخافت البعثيين من خلال اعمالنا " مهنة جذّابة" من اعداد واخراج الرائع فلاح هاشم وبطولة الطاقة المبدعة نماء الورد والرائعين غانم بابان واسعد راشد، وآخرون، من بينهم انا، ثم جاءت " حكايات للناس" التي اخرجها ثامر الزيدي، واسهم الراحل الكبير عوني كرّومي في تدريبنا، ولهذه المسرحية قصة غريبة، آمل ان يكشف زميلي الرائع علي حسّون يوماً خباياها، فقد كانت المسرحية من بطولته، وانسحب منها بيوم واحد قبل ليل العرض، ولولا أنني كنت احفظ المسرحية بكاملها، لما تمكٌنا من تجاوز تلك المحنة، فقد دخلت بدلاْ عنه وانقذنا العرض جميعنا معاً.. عرضنا المسرحية 47 ليلة وكان مسرح بغداد يُكتظ كل ليلة بالجمهور القادم من بغداد ومن جميع المحافظات، ولولا التزامات فرقة المسرح الحديث وانشغال مسرح بغداد لكان العرض استمر اسابيع اخرى كثيرة.. يا لها من ايام.. خطيئة اندثارها تقع على كاهل صدام حسين وحكمه، وعلى الذين تولٌوا الحكم في العراق).
هذه الفرقة ونشاط الفنانة فيها ربما هي آخر اعمالها داخل الوطن ... إشتدت الأزمة السياسية في البلد وإشتد معها التضييق على الحريات واستعرت الهجمة الشرسة على المناهضين للسلطة ، والذين لايؤمنون بافكارها ولاينتمون الى حزبها الحاكم ، هجمة طالت المثقفين والسياسيين والمبدعين من الفنانين والشعراء والكتاب والصحفيين وغيرهم من الناس البسطاء ، وكان من نصيب أغلب أعضاء هذه الفرقة المتوهجة وفي ذروة عطائها ، كان نصيبهم الملاحقة والمراقبة والاعتقالات والسجون فنجا منهم من تخفى ، أو ترك العمل فيها او ترك الوطن باعجوبة ليضمن حياته وحياة اصدقائه واهله وزملائه وحتى جيرانه ، ومن هنا بدأت رحلة المنفى لأغلب الفنانين العاملين في هذه الفرقة وكانت الفنانة وداد سالم وزوجها الفنان اديب القليه جي وباقي افراد عائلتها ، من شملهم هذا التضييق والتهديد والملاحقة ،وان تبدأ رحلة المنفى القاهرةِ والقاسية.