سميح القاسم.. الأيقونة النادرة

سميح القاسم.. الأيقونة النادرة

محمد الديهاجي

ارتبط اسم سميح القاسم أساسا بشعر المقاومة، لدرجة أن عيون النقد الأدبي ما فتئت تنظر إليه من خلال هذا المنظار. فكثيرة هي التوصيفات والنعوت التي ألحقت بهذا الشاعر المتشامخ والمتشاكس كـ«هوميروس الصحراء»، و«شاعر العروبة»، و«الشاعر القديس»، و«سيد الأبجدية»…

إلا أن التوصيف الذي خصت به سلمى الخضراء الجيوسي هذه الأيقونة، أرى فيه إنصافا حقيقيا للجانب الفني والجمالي عند هذا الشاعر، الذي طالما طمرته القضية الفلسطينية كقضية أساسية في منجزه الشعري، مثلما كان الحال مع الشاعر محمود درويش، حتى أصبح يردد قولته المدوية التي أصبحت مأثورة «أنقذونا من هذا الحب القاسي». لقد قالت سلمى الجيوسي إن سميح القاسم هو الشاعر الوحيد الذي تظهر في أعماله ملامح ما بعد الحداثة في الشعر العربي.

والحق أن الكثير من الدارسين ينظرون إلى تجربة هذا الشاعر انطلاقا من مرحلتين فنيتين أساسيتين. ارتبط شعر القاسم في المرحلة الأولى بقضيته الأساس، ألا وهي القضية الفلسطينية. وحتى لا نقلل من القيمة الجمالية لهذه المرحلة، كما فعله البعض بدعوى أنها مرحلة انتصرت للكلمة ومحمولها المنطوي على مضامين ثورية مُقاومة للاحتلال الصهيوني، الذي أقدم على حذف بعضها تارة، أو اعتقال الشاعر تارة أخرى، إذ تم ذلك على حساب القيم الجمالية التي تجعل النص الشعري يكتسب هويته كإبداع، قلت حتى لا نقلل من قيمة هذه المرحلة، فإنه ينبغي علينا كدارسين أن ننظر إليها في صيرورتها الزمنية وفي سياقها السوسيو- ثقافي الذي أنتجها وأنتج غيرها من التجارب الشعرية الأخرى، على الأقل في فلسطين كتجربة محمود درويش، وعز الدين المناصرة، ومريد البرغوثي وغيرهم كثير.

لقد كان الشعر بالنسبة للفلسطينيين، في هذه الفترة، سلاحا في وجه العدو، ومن ثم لم يكن بإمكان شعراء المرحلة أن يكتبوا شعرا غير ذاك الشعر. وفي الوقت الذي أحس فيه الشاعر سميح القاسم بتصدُّع المعركة الوطنية وتراجعها، أعلن، على عجل، عن ميلاد مرحلة فنية جديدة في تجربته الشعرية. مرحلة ديدنها الانتصار للقيم الجمالية من خلال نزوع الشاعر إلى الذات بتصدعاتها وتشققاتها، الشيء الذي جعل شعر هذه المرحلة ينماز بالغموض الفني الأصيل لا الغموض المفتعل، ذاك الناتج عن التوظيف الفج للأساطير، أو الناتج عن الارتباك اللغوي والضعف والإسفاف، تحت يافطة التفجير اللغوي (نعتذر هنا للشاعر المتشامخ أدونيس على هذا التوظيف لعبارته التي جاءت في سياق نبيل).

والشاعر سميح القاسم، نفسه، أكد في غير ما مرة، على أن منجزه الشعري في المرحلة الثانية، قد تميز بخفوت الصوت وتسرب شعاع الشك إلى يقينياته المطلقة، تلك التي ميزت المرحلة الأولى. الشك هذا ما كان له أن يتحقق لولا التراكم المعرفي الذي تحصل لهذا الشاعر من خلال اطلاعه العميق على خبايا الفلسفة المعاصرة. هذا الأمر جعله يُعيد طرح السؤال الأنطولوجي من جديد، مثلما حفزه لإعادة النظر في قيمه الجمالية، وبذلك استطاع سميح القاسم أن يؤسس حداثته الخاصة، نقصد حداثة الابتداع لا حداثة الإتباع. والشاعر لم ينتبه إلى هذا الأمر إلا بعدما قرأ دراسة للناقدة الأمريكية تيري دي يونك المعنونة بـ»سميح القاسم وتحديث الجناس». يقول شاعرنا في إحدى حواراته عن هذا الأمر: «وبهذا لفتت [دي يونك] نظري إلى مسألة كنت أعيشها من دون أن أنتبه إليها، وهي مسألة المحاولة المستمرة لتكوين حداثة على أسس تراثية أصيلة، حداثة لا تتنكّرُ للماضي، ولا تتقزّم أمام حداثة الآخر الغربي أو الأجنبي».

والحاصل أنه في شعر سميح القاسم لهذه المرحلة تبدّيات فكرية وجمالية ما بعد حداثية، تعكس بحق مدى وعي هذا الشاعر باشتراطات الكتابة الحداثية وما بعدها بالقدر الذي يجعله جديرا بالانتساب إليها. لذا تجد في منجزه الشعري تحولا جماليا مائزا وماتعا، وتجددا فنيا دائما، بما يضمن له ما يمكن وسمه بالصيرورة الهيرقليطية، تفاديا لكل تنميط أو تحنيط. طبعا تحقق هذا من داخل رؤية واضحة ومقصودة استلهمت من التراث الإنساني ما قد يغذي إيمانه الراسخ بالإنسان في علاقته بأرضه وأمته. لقد كان سميح القاسم الصوت الأخير، من جيل شعر المقاومة، بتعبير أحدهم، كما أصبح يعدّ من الأيقونات النادرة التي استطاعت بقدراتها الفنية والتزامها بقضيتها أن تمتشق من خام رؤياها وشيجة يتواشج فيها الإيديولوجي بالشرط الجمالي، الشيء الذي جعله جديرا بالانتساب إلى كل الحساسيات الشعرية الرصينة. لقد كان سميح شاعرا استثنائيا في تضاريس الشعر العربي الحديث. والسر في ذلك كونه كان يفكّر بالمطرقة ويكتب برجليه.

كاتب من المغرب