القصيدة كسلاح

القصيدة كسلاح

أمير تاج السر

أول مرة سمعت باسم سميح القاسم، كان ذلك في منتصف السبعينيات من القرن الماضي، حين بدأت أتلمس طريقي في سكة القراءة الحقيقية، معتمدا على نفسي في ذلك بعيدا عن تلك الكتب التي كانت تنتقيها الأسرة وتوفرها لنا. كنت طالبا صغيرا، لكن يتملكني شغف القراءة بشدة. وكانت ثمة أسماء براقة مكتوبة على كل أغلفة الكتب التي كانت تنشرها دار العودة بيروت، تحت عنوان: هؤلاء تفخر الدار بوقوفهم على عتبتها الصغيرة الخضراء.

كان من أولئك: الطيب صالح ومحمود درويش، وعز الدين المناصرة، وأمل جراح، وسميـح القاسـم، كما أذكر، وهكذا قرأت ما تيسر من نتاج أولئك الواقفين على العتبة الصغيرة الخضراء. منذ أول كتاب قرأته للراحل الكبير سميح القاسم وهو ديوان قصائد سميح القاسم، كما أذكر، التمست حماسة تفتقد في أشعار كثيرين من شعراء تلك الفترة. كان سميح يكتب المقاومة شعرا، يتحدى شعرا، وينزف في ساحة النضال شعرا، وأي قصيدة من قصائده تعادل طلقة يطلقها جندي، وشخصيا كنت أتخيله في كثير من الأحيان جنديا يخوض الحرب وقد كان بالفعل مخلصا لقضيته ووطنه الجريح ومن الذين علموا الأجيال معنى أن تحب الوطن بصدق، ولذلك جاء بقاؤه في وطنه برغم كل الصعوبات، برهانا حقيقيا على ذلك الحب.

حقيقة تابعـت ما كتبـه سميـح فترة، وتابعـت ما كتبه العـظيم مـحمود درويش أيضا، وأرى أنهما كانا شاعرين حقيقـيين، كل يحـمل سلاحه الشعري، فقط يكمن الفارق في أي نوع من السلاح يحمله كل واحد منهما، وفي الوقت الذي اتسمت فيه قصيدة درويش بالزخرفة وكثرة الصور، والخيال المكثف، اتسمت قصيدة سميح بوضوحها، وانسيابيتها الخاصة، وتغلغلها في آفاق كل الفئات التي تقرأها أو تستمع إليها.

لقد كانت وفاة درويش من قبل صدمة كبيرة، واليوم أحس أن وفاة سميح القاسم صدمة أيضا، وخسارة كبيرة للشعر الفلسطيني والعربي، كلاهما كان ضلعا من ضلوع المقاومة الفلسطينية الهامة، بل كلاهما كان رئة تتنفس عبرها المقاومة، وطبعا نردد ما نعتقده صدقا، وهو أن الإبداع الجاد والراقي، يظل هكذا موجودا دائما، والمبدع الحقيقي لا يموت بل يظل حيا ما دامت الحياة لا تزال.

يوم كنّا نقرأ للشعراء الفلسطينيين، وعلى رأسهم محمود درويش، كنّا نحسب أنّ سميح القاسم كان أصغر عمرا من محمود. وأنّ الثاني كان يتلمّس طريقه الى النجومية بنشر مجموعاته الشعرية في بيروت، وكان لا يزال معتصما بأرضه فلسطين. ويوم شرعنا في التمييز الدقيق بين الشعراء هؤلاء، ونمضي في إثر نتاجهم الشعري، بعد استشهادهم (كمال عدوان، على سبيل المثال)، صرنا قادرين على التمييز بين كتابة محمود درويش الشعرية، التي تسعى إلى بناء نماذج ومثالات خارج ما درج عليه الأدب الملتزم والمنتمي الى اليسار من إرث بشري وعالمي، متوكّئا على ذاتّية تستوعب الثراء القادم اليها، وبين كتابة سميح القاسم التي حسبنا، ذات يوم ـ من أيام ضيقنا بالإرث الأدبي الملتزم ـ أنها صنو البيان السياسي الشيوعي، لفرط تطابق المثالات والنماذج التي أخرجها الشاعر، ولا سيما في بداياته (مواكب الشمس، أغاني الدروب، دمي على كفّي..) مع المضامين السياسية والإيديولوجية التي يحملها انتماؤه، هو الشاعر المناضل في سبيل تحرير شعب فلسطين من المحتل، ومن مستغلّيه الطبقيين بلغة اليسار الملتزم. ولكن هذا التصوّر الخاطئ والمبتسر عن الشاعر سميح القاسم وكتابته الشعرية ما لبث أن تعدّل، الى أن تكوّن لدينا الانطباع بأنّ القاسم هو القامة الشعرية الفلسطينية التي جعلت الأرض (فلسطين) الهاجس والمحور الأوحد الذي تتكوكب حوله كلّ الأساطير الذاتية والتراثية، في وجدانية غنائية تستمدّ طاقتها الدرامية، لا من ذاتية ممزّقة الوجدان والانتماءات والخيارات، كما هي الحال مع درويش، وإنّما من إعادة صوغ لآلام الجماعة الفلسطينية التي ينطق الشاعر عنها بلسانه هو. بل إنّ الذاتية البارزة في أعمال القاسم، والغنائية الصارخة فيه، إنما هما صنيعتا ذوبان الأنا، أنا الشاعر الكائن الملتزم الموجود والناطق بلسان الآخر والآخرين المقهورين، وتصعيدٌ للغة الشعرية المتوتّرة دوما، في سبيل حرية فلسطين وشعبها وكرامتهما.

لم تكن أشعار القاسم لتتقدّم الانتفاضة الأولى (تقدّموا) عبثا، ولن تكون قصائده، المضمّخة بنبرة مأساوية تحاكي الجلجلة الفظيعة التي لا يزال الشعب الفلسطيني، والانسان الفلسطيني يمضي في شعابها، لن تعود هذه القصائد، بعد مواراة شاعرها الثّرى في ترابها العزيز، أسيرة اليدين والعينين وحزن القلب.

عن صحيفة الاخبار