في ذكرى حركة مايس 1941 .. أسرار رشيد عالي الكيلاني في ألمانيا

في ذكرى حركة مايس 1941 .. أسرار رشيد عالي الكيلاني في ألمانيا

د. حمدي الخياط

ارى ان نسلم انفسنا للقيادة الروسية المحتلة!" بهذه العبارة كلمني المرحوم رشيد عالي الكيلاني مرة اخرى، وذلك بعد مضي عدة ايام، وهو ضيف في داري في مدينة براغ، مختفيا عن الحلفاء الذين كانوا قد وضعوا لمن يأتي به، 30 الف دينارا، لقد كان الخطر يهدد جميعنا، وكنا في حالة نفسية متوترة الى ابعد الحدود.. اما جوابي للمرحوم لقد كان ما معناه: "ولكن فات عليكم انكم كنتم تنادون ضد الاستعمار والصهيونية وضد الشيوعية، والروس هم السيوعيون،

وكنتم في شتى اذاعات الرايخ الالماني تنددون بكل هؤلاء.". ثم تابعت: " ان روسيا لا تزال حليفة البريطانيين والامريكيين والفرنسيين، وارى ان تمكث في مدينة براغ ننتظر ما قد يمكن ان يحدث..".

وفعلا، وبعد مضي عدة ايام – وكنت اراقب الاخبار والانباء الاذاعية من مختلف محطاتها العربية والالمانية والانجليزية – عرفت بان الخلاف المستطير قد دب بين الروس حاملي الثورة العالمية من ناحية وبين الحلفاء الغربيين حاملي رفعة الاستعمار.

وفي يوم من الايام التالية: وكانت احوال المرحوم قد تضعضعت اكثر من ذي قبل، لم يستعمروا بلدا عربيا.. ولكن كيف يمكن ان نحقق مأربا مثل هذا، وقد كان هو وسماحة المرحوم الحاج امين الحسيني مفتي فلسطين ينددون بكل الحلفاء في اذاعاتهم ومنشوراتهم وهم ضيوف الرايخ الالماني، بعد انتهاء الحرب العراقية واحتلال البريطانيين للعراق. ان اقتراحه امر كان قد حير عقلي، فلم ادرك له معنى عمليا او منطقيا. ولكن هذه الفكرة بقيت راسخة في ذاكرته حتى ما بعد عدة ايام. وكان المرحوم يشاور من وقت لآخر الاخوين العربيين اللذين كانا في ضيافتي في الدار ايضا.

لقد كنا نحن معشر العراقيين تحت الحماية السويسرية في المانيا النازية، منذ ان قطع العراق علاقاته الدبلوماسية بامر البريطانيين في الاسابيع الاولى من اندلاع الحرب العالمية الثانية. ولما احتل الحلفاء تشيكوسلوفاكيا وعلى راسهم الروس، تحولت تلك الحماية صوب السلطات البريطانية وافتتحت في براغ – حيث قدمت اطروحتي حول اهمية نفط العراق في الاقتصاد العالمي في جامعتها – قنصلية بريطانية عامة.

وفي ذات يوم جاء قراري على زيارة القنصلية البريطانية، وهناك عرضت على القنصل جواز سفري العراقي الذي كان يقدم اصداره، يعود الى ما قبيل الحرب العالمية الثانية واصبح غير نافذ المفعول، وذكرت له انني قصدت برلين قبل الحرب العالمية الثانية للدراسة والتخصص، ولكنه لم يعلق على اقوالي شيئا، فاخذ الجواز وامر بتسليمي ورقة تؤيد عراقيتي وحمايتي البريطانية. وقد كان هذا سموحا بالفعل. وهكذا اخذت ورقة التأييد لاحملها معي وعلقت نسخة منها على باب الدار.. كعراقي تحت الحماية البريطانية، ويمكن اعتبار هذه الوثيقة بمثابة امان لمواطن من الحلفاء – ولكن الروس لم يعترفوا باي حق مثل هذا – ووعد القنصل العام ان يكتب الى الحكومة العراقية للحصول على جواز سفر عراقي.

ثم رجعت الى الدار واخبرت المرحوم الكيلاني بما حدث. وكان ابتهاجي كبيرا بذلك،’ لكي لا يصيبنا كلنا اي ضرر.

ولم يكن لدى المرحوم ما يمكنه من السفر، فليس في وسعه ذلك، وهو يحمل جوازا قديما باسمه. وقد اعادته سويسرا عندما هم يتخطي الحدود صوبها، فهو من مجرمي الحرب بنظر الحلفاء، سواء من الانجليز ومن غير الانجليز.

وهنا لابد لي من الاشارة، بانني – عندما كنت اسكن في برلين وعندما ازداد قصف الطائرات التي كانت تحلق بالمئات فوق برلين وتدمر الالاف من المباني وتقتل الالاف من السكان – اقول بانني كنت قد عرضت عليه في احد الايام ان يكون لديه جواز اسباني، ولم يكن ذلك على حكومة الرايخ الالمانية بالمستحيل، فقد قلد خبراؤها الجنيه الانجليزي احسن تقليد، ولكنه رفض ذلك، محمدا على السلاح الجديد الذي سيقود المانيا الى النصر، كما قال لي، وكان الالمان قد اندحروا في كل من العلمين وفي ستالين – جراد، واخذوا في التقهقر في جميع الجبهات. اما السلاح الجديد فكانت القنبلة الذرية التي لم يتم صنعها حتى ذلك الحين، وكان الالمان يجدون في انتاجها، ولكن الامريكان يبقونهم في هذا المضمار كما هو معلوم، ونافسوهم في صنعها، ولعبت الجاسوسية دورها الفائق في هذا السبيل.

وفي ذات يوم، وبعد ان كنت قد رجعت الى الدار وقد ابتضعت لنا المواد الغذائية من الاسواق – وانت زوجتي الالمانية تقوم بمهمة الطبخ وهي في شهرها التاسع – وبعد صلاة العصر، صارحني المرحوم الكيلاني بما يخالج نفسه وقلبه، وكنت انا الوحيد معه في تلك الساعة حيث قال لي: "الا ترى ان نترك مدينة براغ.!؟" ثم تابع قائلا: "لقد صارحت الاخوين بذلك، فوافقاني.. فما قولك..؟!". "الرأي السديد والصائب لدى حضرتكم، ان استطعنا جميعا الى ذلك سبيلا!" كان هذا جوابي.

انها فكرة صائبة والحق يقال، اذ ان البقاء في محيط موبوء بنتائج الحرب والثورات على الالمان في مدينة براغ، هو الخطر بعينه، وكان في الواقع خطرا محيقا بنا جميعا، وخاصة فهو معنا في الدار.

ولكن كيف يمكن ان يترك البلاد – وكان الهدف فرنسا – وهو لا يملك وثيقة شخصية بغير اسمه وصفته.. ولم يكن الامر عسيرا، وقر القرار النهائي على وضع الخطة والاستعداد لذلك على اي وجه من الوجوه. وكانت زوجتي قد قاربت وضع وليدها.. فكان ان قررت انا البقاء وتيسير السفر للمرحوم مع الاخوين القاطنين عندي، ليرافقاه. وخطر الخاطر المفاجيء، وقد اعرناه الكثير من الاهتمام لعدة ساعات.

وفي صباح اليوم التالي، حلق الاخوان شعر راسه، كما ازيلت شوارب ولحية المرحوم بصورة تامة، فاصبح وكانه من احد العمال البسطاء.. وليس باستطاعة احدهم ان يتعرف على انه هو المرحوم بام عينه. ثم اخذت صورة فوتوغرافية له. اما الهوية، فقد هدانا الله تعالى الى دفتر النفوس العراقي العائد لي، وبحيل كثيرة خط اسم مجهول عليها ولصقت الصورة وختمت بختم وهمي صنع خصيصا بدائرة ووضعت الصورة فاصبحت الهوية وكأنها اصيلة المنشأ.

ومن باب الاحتياط، انتقل المرحوم والاخوان الى بيت في وسط المدينة. وبعد عدة ايام سافر الثلاثة صوب فرنسا (باريس) مع ثلة من العمال، وكأنهم من العملة الذين جيء بهم قسرا الى المانيا من البدان المتاخمة للعمل في المصانع. اما انا فقد بقيت مع زوجتي في براغ، حيث كانت قد وضعت ابنتنا، وكانت مقيمة في المستشفى القريب من دارنا.

وكانت رغبة المرحوم الكيلاني الاتصال بالدكتور رشاد فرعون سفير المملكة العربية السعودية في باريس ليطلب مع مرافقيه اللجوء الى السعودية. ووعدني المرحوم ان يرسل وثيقة باسمي من باريس او الرياض بدل وثيقتي المزورة له ولأجله، لأتمكن من السفر حين حصولي عليها. اما زوجتي فكانت لا تزال تحمل الجنسية الالمانية يومذاك.

عن مجلة (بريد الشرق) الصادرة في المانيا سنة 1983