نص نادر.. المدرسة المستنصرية

نص نادر.. المدرسة المستنصرية

يعقوب نعوم سركيس

هي تلك المدرسة الرصينة البناء، المطلة على دجلة، التي شرع في تشييدها في بغداد على جانبها الشرقي، المستنصر باللْه العباسي، في سنة ٦٢٥هـ (١٢٢٧م) وأتمها في سنة ٦٣١هـ (١٢٣٣م)، فجاءت أية بين مآثره الجلية،

وسجلت له تقديره للعلم، وحبه لرفعه، وقد مدح الشعراء منشئتها، وراحت الركبان تتغنى بها في الآفاق، وكانت موردا صافيا للطلاب ومرتشفي العلوم: ثم دالت عليها الأيام بالبؤس، وانقلبت عليها بالشقاء، فرأى الرحالة نيبهر - ويا للأسف - مطبخها في سنة ١٧٦٦م (١١٨٠هـ) دارا لضرائب سماها أي ضريبة المرور وأظن إنه أراد بذلك الكمرك. وقال عن قسم كبير منها إنه خان يسمى (اوت ميداني خان) أي خان ميدان الحشيش، وإن الكل خراب بباب. ولا شك في أن في قوله عن خرابها كلها تطرفا ومغالاة، فإنه قال ببقاء بعضها، ويدلنا واقع الحال على أن الخراب الذي قاله صاحب الرحلة هو عن مرافقها التي اندثرت، ودخلت في خبر كان، وعن الإهمال الذي صارت إليه. وهي لا تزال اليوم تنازع البقاء قوية عليه، إلى أمد قد يكون بعيدا.

والذي نعرفه عن هذا المعهد الجليل أن القسم القائم الآن وهو المدرسة بنفسها كان يسمى في القرن الماضي (خان المواصلة أو المصالوة) على لغة بعض العوام.

والظن الغالب على سبب هذه التسمية أن الموصليين كانوا قد اعتادوا أن ينزلوه إذا قدموا إلى بغداد ثم أمسى بعد ذلك مخزنا لألبسة الجيش ثم دارا للكمرك وهي الضريبة المعروفة التي كان يقال لها (رسومات) أيضاً وهكذا كانت المستنصرية عند الاحتلال فلا تزال كذلك دارا للكمرك.

وقبل نحو خمسة وعشرين عاما ابتدأ الكتاب باستخراج نبذ من مطاوي الكتب عن هذه المدرسة الرفيعة الشأن ودبجوا فيها مقالات ونقلوا عنها أبحاثا أتحفوا بها مجلات المشرق (٥ (١٩٠٢): ١٦٤ و٩٦١ و١٠ (١٩٠٧): ٨٠ و٣٩٠) ومجلة المجمع العلمي بدمشق (٤ (١٣٤٢ - ١٩٢٤): ٤١) واليقين (٣ (١٣٤٤ - ١٩٢٥): ٤٨٣) والزهراء (٣ (١٣٤٥ - ١٩٢٦): ٢٥٤) وهذه المجلة (٥ (١٩٢٧): ٣٤١ و٥٠٥ وغيرهما) وملحق جريدة العراق المؤرخ في ١٥ تموز سنة ١٩٢١ ولعل غير ذلك مما لا يحضرني أو أجهله. وحكى عنها بإيجاز كتاب(تنزه العباد في مدينة بغداد للمعلم ثم الطبيب) نابليون الماريني)وخلاصة تاريخ العراق للعلامة شقيقه صاحب هذه المجلة ومختصر تاريخ بغداد للفاضل على ظريف الأعظمي. وآخر ما ورد عنها ما رواه كتاب تاريخ مساجد بغداد وآثارها المطبوع وفيه قول الصفدي الذي أظنه منقولا من مجلة المجمع العلمي التي قالت إنه نقل عن الصفدي عن ابن الساعي. وكانت وفاة ابن الساعي في سنة ٧٤هـ (١٢٧٥م).

ومن الذين كتبوا عن هذه المدرسة من المستشرقين في أيامنا لسترنج وهوار وماسنيون وفيوله وهرتسفلد وذكرها سعادة المستر انكرك في كتابه الإنكليزي الذي ضمنه تاريخ العراق في القرون الأربعة الأخيرة، ولقد اقتبس هؤلاء الكتاب من عرب وأوربيين ما اقتبسوه وأضاف على ذلك بعضهم شيئا عن الوقت الذي كتبوا فيه ومنهم من نقل الكتابات المنقوشة على جدران هذه المدرسة ومع هذا فإنه بقي من تاريخها شيء في تضاعيف الكتب. ولم يأتونا عنها بشيء عن الحقبة الممتدة بين استيلاء هولاكو على بغداد في سنة ٦٥٦هـ (١٢٥٨م) وبين دخول هذه المدينة في قبضة العثمانيين في سنة ٩٤١هـ (١٥٣٤م) إلا ما اقتطفوه من رحلة ابن بطوطة وكلمة نقلوها عن نزهة القلوب بالفارسية لحمد الله المستوفي وهما من رجال القرن الثامن للهجرة.

وقد اكتفى كتاب المساجد المطبوع (ص ٩٧) عن ذلك الزمن بالأسطر التالية:

(ولم تزل هذه المدرسة على ما كانت عليه في زمن منشئها إلى أن حدثت حادثة التتار... فجميع ما كان في هذه المدرسة من كتب وفرش ومرافق قد نهبه جند العدو المخذول بل من الكتب ما رموا به إلى دجلة قهرا لأهل العلم والدين. وبعد أن تولى بغداد من تولى عاد شمل المدرسة وأهلها إلى ما كان عليه ولم تزل تجمع الأفاضل والفضائل إلى أن دخل العراق في حوزة الدولة العثمانية...) أهـ.

وهذا كلام موجز عن ست وعشرين سنة مرت من فتح المدرسة إلى استيلاء هولاكو على بغداد ومر بين ذلك وبين دخولها في يد العثمانيين نحو ثلاثمائة سنة وفي ما نقله الكتبة لم نقف على خبر عنها عن تلك الأيام إلا ما سبقت الإشارة إليه. ولا نعرف في كل ما جاء آنفا من جمع على الأقل تراجم بعض مدرسيها إلا أن نبذة في مجلة المشرق (١٩٠٢):جاء في صدرها: أن الأب انستاس استلها من كتاب مساجد بغداد ومدارسها للشيخ محمود شكري أفندي الالوسي قالت أن في تاريخ ابن النجار وغيره تفصيل تراجم مدرسي المستنصرية مع من تخرج فيها من الأساتذة والأئمة والأعلام. وإذ كان هذا الخبر قولا مجملا وكان تاريخ ابن النجار غير متداول في الأيدي فقد سدل على معرفة هؤلاء الشيوخ الأفاضل. ولعل شيئا نزرا من تراجمهم في مختصر هذا التاريخ لابن ايبك الحسامي المعروف بالدمياطي. وهب تاريخ ابن النجار نفسه بأيدينا فإنه لا يحوي إلا تراجم مدرسي بضع من السنين لا غيرها لأن المؤلف توفي في سنة ٤٣هـ (١٢٤٥م) أي في السنة الثالثة عشرة من فتح المدرسة. ولا يبعد أن يكون في (غيره) خبايا ولعلنا نجد لم شعث من ذلك المطلوب. في المخطوط الذي ذكره تاريخ المساجد (ص ٤٧ و٤٨) وقال عنه إنه مختصر ذيل تاريخ ابن النجار وانه من مخطوطات الخزانة النعمانية بجامع مرجان في بغداد ويا ليت الناشر عرفنا باسم الكتاب ومؤلفه أن أمكن ذلك ويا حبذا لو وصفه. ونظرا إلى ما جاء فقي هذا المختصر عن ذكر سنة وفاة العاقولي كما ورد في كتاب المساجد ص ٤٧) وهو المتوفى في سنة ٧٢٨هـ (١٣٢٧م) فمؤلفه هو من رجال القرن الثامن للهجرة أو بعد ذلك فله متسع لإيراد تراجم كثيرين من مدرسي هذه المدرسة.

مجلة لغة العرب في 1مايس 1928