رياضة الزورخانة في ذكريات أشهر مصارعيها عباس الديك يتذكر

رياضة الزورخانة في ذكريات أشهر مصارعيها عباس الديك يتذكر

كان جدي الرابع عضوا في مجلس ادارة ولاية بغداد وقد جاء من بشره في غرفة الوالي بان زوجه قد ولدت تواما فدعاهما "فالح" و"فليح" وبعد عدة سنوات سأل الوالي عنهما واراد ان يراهما وحينما حضرا مجلسه وكانا صبيين حرضهما على المصارعة وكان الوالي يردد عليهما "يا هو الجاجة او ياهو الديج" فصرع فالح فليحا فقال له الوالي "انت الديك" وقد بقى اللقب منذئذ الى يومنا هذا.. اما والدي فاسمه عبد الله.

اما دخولي مضمار الزورخانة فاقول لان الزورخانة كما هو واضح من اسمها ايرانية المنشأ وهي تعني "محل القوة" وقد سمعت قبل خمس واربعين سنة من معمرين بغداديين ناهز بعضهم المائة عام. ان الزوار الايرانيين كانوا يفدون الى العراق ويطلبون مصارعة العراقيين وكان الايرانيون يتدربون في بلادهم على جميع فنون المصارعة وعلى الرغم من ذلك فقد كان نصيبهم الفشل ازاء القوة الجسمية التي يتمتع بها العراقيون وعند مجيء "ناصر الدين شاه" قبل 130 سنة احضر معه بطل ايران في المصارعة وطلب منازلة المصارعين العراقيين.. وكان البطل يلبس كسوة طويلة من الجلد وقد وضع على كل ركبة من ركبتيه مرآة وزعم ان كل من يستطيع ان يرميه ارضا ويكسر المرآتين يكون قد تغلب عليه. كان مخيم ناصر الدين شاه في مكان المستشفى الجمهوري عند باب المعظم – المجيدية سابقا – وقد هيأ له احد العرب العراقيين ويقال انه كان يصارع فحل الجاموس الهائج فيرميه على الارض ودخل حلبة المصارعة مع البطل الايراني.. بدأ الاخير يصول ويجول في الحلبة وقام ببعض الحركات مظهرا فيها قوة عضله ومتانة جسمه ليرهب خصمه ولكن صاحبنا العراقي لم يكترث للامر وطلب ان تكون المصارعة "ابطا لكتف" والذي "يموت من كيسه" وقد استطاع العربي ان يتغلب على خصمه الايراني، تغلب عليه قوة وليس فنا، وبعدئذ تبادل العراقيون والايرانيون الزيارات وتأسست الزورخانات في بغداد..

كون الجفرة عادة مستديرة او مثمنة الاركان ويبدأون انشاءها بحفر حفرة في الارض عمقها ثلاث قامات، ثم يوضع فيها سبوس بارتفاع متر ونصف المتر وفوق السبوس يضعون حزام شوك وتكون هيئة حزم الشوك (رأسا لكعب) ثم يفرش الشوك بيواري وتغطى البواري بزميج طين احمد ورمل يحدم لمدة يومين او ثلاثة ايام حتى يشبه الطين الصناعي في قوامه.. يصنعون كل ذلك كي لا تتأثر الارجل او تؤذي الاجسام.

على كل رياضي ينزل الى الجفرة ان يتوضأ وان لا يكون مجنبا لان الرياضيين يتشاؤمون من تارك الصلاة والمجنب وينسبون كل اذى يصيبهم في الجفرة الى وجود احد هذين الاثنين بينهم لذا نجد الاستاذ يكرر دائما وبصوت مرتفع "برهرجي جنب وتارك الصلاة لعنت".. فيجيب الشواغيل "زار دفعت"..

والمعتقد ان شخصا باسم (بورياي ولي) هو الذي اسس الجفرة فعلى كل من ينزل اليها ان يقرأ سورة الفاتحة على روحه وهذا ايضا من تقاليد الزورخانة في العراق.

ينزل الشواغيل الى الجفرة ويحدد عددهم حسب اتساعها، ثم يكونون حلقة يتوسطهم فيها الاستاذ ويبدأون العمل على ايقاع "المرشدة" الذي يجلس على "دكة" ارتفاعها متر واحد ويشرع بالنقر على "الدنيك" ويسمى "ضرب كير" وللدنبك اسم آخر هو "زرب" ثم يغني بعض المقامات الخاصة لاثارة الهمة وتجديد النشاط وغرس الفضيلة وبث مكارم الاخلاق واهم المقامات التي تقرأ هي "الرست، السيكاه، البنجكاه، اوشار والدشت، وهذا نموذج من الشعر المغنى:

بورياي ولي كفت

كسيدم بكمندس

از همة داود نبي

بخت بلنذس

افشاد كي اموز

اكر نشينة فيضي

هركي نخرت آب

زميني كي بولندس

يبدأ "الشواغيل" في الجفرة بلعبة الشناو، وتختة الشناو يجب ان لا تزيد على الذراع ولها قاعدتان توضع على الارض فيفتح اللاعب يديه ورجليه على الخشبة ويأخذ من "الشناو" قدر ما يأمر به الاستاذ..

وبعد الشناو تأتي لعبة (الاميال) وتسمى ايضا "كبركة" ولعب الاميال يتم هو الآخر على ضرب المرشد الايقاعي باشارة من الاستاذ ثم تأتي لعبة (الجرح) وتسمى "الفرة" والاستاذ لا يتدخل في تحديد وقت للفرة لانه يكون حسب استطاعة "الشاغول" وبعد الفرة تمارس لعبة "الشلنك" والشخص في الشلنك يقفز من ركن من اركان الجفرة الى الركن المقابل له على رجل واحدة وقفزة واحدة ذهابا وايابا وهناك لعبات اخرى كالجفت وهو (الفرة) ولكن يضرب الرجل اليمنى بالارض ورفع اليسرى وبالعكس.

و"البحث" ويتم على طريقة ركض الواقف (او المراوحة السريعة).

كل تلك الالعاب تمارس في جميع ايام الاسبوع في الزورخانة وتزاد المصارعة عليها في يومي الثلاثاء والجمعة الا اذا سقط احد اللاعبين على الارض اثناء اللعب وخرج الدم منه عندئذ يتوقف اللعب بامر الاستاذ الذي يعزى سبب الحادثة الى وجود مجنب او آخر بغير وضوء بين المتفرجين او في الجفرة.

المصارعة تتم بين "شواغيل" الزورخانة الواحدة، كما تتم بين زورخانة واخرى وذلك باتفاق استاذي الزورخانتين، والزورخانة التي تتم فيها المصارة تقوم بتهيئة الفطور والغذاء وجميع ما يحتاجه الضيوف المنافسون، وامثال هذه الدعوات كانت تتكرر وبصورة مستمرة بين محلات بغداد القديمة مثل الفشل والدهانة وقنبر علي والفضل والكرخ والكاظمية وسوق العطارين (خان الدجاج) وبني سعيد اما ابرز الزورخنجية البغداديين الذين عاشوا بين القرنين التاسع عشر والعشرين فهم: سيد ابراهيم كليدار ابي يوسف (الكاظمية)، حجي محمد ابريسم (الفضل) وكان يشتغل في زورخانة الدهانة، شاكر افندي الشيخلي (باب الشيخ)، عيسى الصكار (صبابيغ الال)، الحاج حسن القارئ (الدهانة).

محمد الخياط (الخشالات)، الحاج حسن كردي ويعتبر من الطبقة الثانية واكثر اولئك كانوا من ابطال المصارعة.

كانت الزورخانات منتشرة في بغداد انتشارا واسعا وقد تفوق العراقيون في العابها وبرعوا وظهروا حتى على معلميهم الايرانيين.

وفي اثناء (السفر بر) اقفرت (الزورخانات) واهملت جفرها لان اكثر العراقيين جندوا للاشتراك في الحروب وقتئذ وكادت الحركة الرياضية العظيمة تصبح في خبر كان ولكنها ما لبثت ان انتعشت عند الاحتلال البريطاني لبغداد فقد قدم كثير من الهنود مع الحملة الانكليزية واخذوا يتصارعون فيما بينهم في "ألسنك" المقابلة (لسقة خانة النقيب) وقد تتلمذت على يدهم مدة من الزمن، ثم فتحت زورخانة خاصة وأثثتها على نفقتي وعندما عاد الجنود من الحرب انتعشت الحركة الرياضية مرة اخرى ونشطت الزورخانات التي كانت قد خلت من (شواغيلها) واسست عدة محلات جديدة وكان ابطالها من العراقيين والايرانيين والهنود وبعض اسرى الاتراك وفي هذه الفترة نشأ جيل من الشباب قدر له ان يحمل لواء قوة الجسم في العراق ومن ابرزهم:

اسطة غني وصبري الخطاط ومهدي الزنو ومجيد لولو.

والذي يؤسف له ان الزورخانات بدأت تنقرض في العراق وذلك حينما اخذت وزارة (التربية) على عاتقها رعاية الحركة الرياضية في العراق فقد قصرتها على العاب الساحة والميدان والتمارين السويدية، لقد حاولت ادخال المصارعة الى المدارس فدرست في كلية الشرطة والجيش والاعدادية المركزية مجانا وقد وفقت الى اعداد الكثير من التلامذة النجباء امثال الشهيد ناظم الطبقجلي وشاكر محمود شكري وطه عبد الجليل ومنير عبد الجبار من الجيش وسعيد واصف وزكي محمد جميل من الشرطة.

- لقد اشتهرت مصارعتك للهر كريمر فهل لك ان تحدثنا عنها؟.

جريدة (الشعب) لسنة 1957