عندما انتقلت أسرة عبد الكريم قاسم الى الصويرة

عندما انتقلت أسرة عبد الكريم قاسم الى الصويرة

د. عقيل الناصري

تحت وطأة الحاجة، كما أعتقد، التي أصابت كل الطبقات الفقيرة, وفي المدن خاصةً، بعد الاحتلال البريطاني الأول نتيجة للتغيرات الجذرية في الحياة الاقتصادية وسرعة حراكه وإيقاعها وما رافقها من تضخم نقدي هائل، تسافر العائلة عام 1919/1920 إلى مدينة الصويرة، جنوب شرقي بغداد بحوالي 60 كم, ليعمل رب الأسرة في البدء نجاراً ثم صاحب (علوة) للمنتجات الزراعية ويدير في الوقت نفسه المتبقي من الأرض الزراعية التي تعود ملكيتها للعائلة. وتسكن في بيت بالقرب من نهر دجلة.

آنذاك يدخل الصبي عبد الكريم (أقل من6 سنوات), ثانيةً, أحد كتاتيب الصويرة والذي كان يديره الملا سيد محمد سيد إبراهيم الموسوي, نظراً لتوقف الدراسة في عموم العراق عام 1920.. وما ان افتتحت المدارس أبوابها, عام 1921 حتى ُقبل في الصف الأول في مدرسة الصويرة الابتدائية التي تأسست عام 1918 والتي كان يديرها آنذاك غلام محمد الهندي الجنسية. ويدرس فيها مدة أربع سنوات لحد الصف الرابع.

ومن مقابلاتنا لابناء المدينة بغية تقصي الحقائق عن سيرة الصبي عبد الكريم يتضح أنه كان ذكياً ومتفوقاً في دروسه كما يدلل سجله المدرسي في سجل الطلاب العام رقم 1 الصفحة 2, إذ كان من المتفوقين في دراسته, وحصل على ما مجموعه 120,5من مجموع 130, عندما كان في الصف الرابع الابتدائي. لم يدون في السجل احوال الطالب الصحية ولا طبيعة سيرته التي بقيت بيضاء, مقارنةً ببعض الطلاب الآخرين حيث كتب في سجل عن الطالب (ج.م.س.) أنه " شرس الطباع والاخلاق, مشاكس للأوامر المدرسية, ضعيف في دروسه, قليل الاهتمام بها, كثيراً ما يحرض الطلاب الكبار على الاضراب والاستياء من المدرسة ". أما عن الطالب (ح.ع.ب) فقد سجل في اسباب تركه الدراسة: " قام مقام والده في رئلسة عشيرة زبيد وأشتغل بالزراعة". ويشير السجل إلى ان عدد من الطلاب تركوا الدراسة بسبب فقر الحال وإلتحاقهم بالحياة العملية. في الوقت الذي بقى فيه سجل عبد الكريم خال من الملاحظات.. سوى كونه: " سافر إلى بغداد لاكمال تحصيله في إحدى مدارس العاصمة".

وعند الاستفسار من مدير المدرسة عن معنى خلو صفحة عبد الكريم من الملاحظات.. قال: " من المرجح هناك عاملان.. اما إهمال الادارة لتدوين مثل هذه الملاحظات.. أو أن سلوك الطالب العام ليس فيه ما يثير الانتباه وهذا الأخير أكثر ترجيحاً".

ومن الامور الشائعة في مدينة الصويرة أنهم يتناقلون عن لسان أحد معلمي المدرسة أنه سأل ثلاثة طلاب هم عبد الكريم قاسم وعبد الكريم فرحان ابن المدينة وعلي مهدي حسن, عن ماذا يريدون أن يكون كل منهم في المستقبل؟

- اجاب الأول: أنه يريد أن يكون ضابطاً كبيراً في العراق.. وقد تحققت أمنيته.

- وأجاب الثاني: أنه يريد أن يصبح ضابطاً وأحارب عبد الكريم قاسم.. وتحققت هذه الامنية له.

- في حين أجاب الثالث: أنه يريد أن يكون تاجراً كبيراً وله مكانة مهمة, وحقق ذلك.

وفي هذه المدينة الصغيرة الواقعة على نهر دجلة جنوب شرقي بغداد، والتي هي عبارة عن حاضرة ريفية اقرب منها إلى المدينة الحضرية، كانت منظومة القيم العشائرية واعرافها هي التي تتحكم بسكان المدينة وأغلب سكانها من العشائر العربية أو المستعربة ذات أصول كردية فيلية. كما تمتلك المدينة علاقات مع محيطها الريفي المجاور لحواضر يسكنها منذ آلاف السنين الأكراد الفيليون كموطن اصلي لهم يمتد إلى عمق الأراضي الإيرانية.

أثرت المدينة في عبد الكريم بصورة كبيرة جداً.. انعكست في ذلك التبادل الروحي بينه وبين سكان المدينة.. ولم استطع الوقوف على سر علاقة (المكان) الصويرة وارتباط عبد الكريم بها, رغم أنه ليس من ابناءها الاصليين, ولم يمكث فيها فترة طويلة.. كما لم يستطيع شيوخ أهل المدينة الذين استطعت مقابلتهم, في حل لغز هذه العلاقة وطبيعة سرها.. سوى انهم اعتمدوا صيغ الوفاء التي تحلى بها قاسم إزاء بعض ابناءها الذين تسنموا مراكز عليا في الدولة. وربما هناك مؤثرات نابعة من اللاوعي لمرحلة الطفولة تسكن في ذات الصبي عبد الكريم.. فتفاعل مع محيطها تفاعلاً ايجابياً.

عاش عبد الكريم كبقية أقرانه من أبناء العوائل المتوسطة والفقيرة.. ومارس الحياة على طبيعتها وعمل مساعداً لوالده كبقية سكان الحواضر الريفية. وقد أقام عبد الكريم علاقات اجتماعية مع صبية المحلة التي سكن فيها وأغلبهم من فقراء الواقع الاجتماعي، ومارس معهم الألعاب التي كانت متوفرة، إذ كان النهر والحقل أماكن لقضاء أوقات فراغ الأطفال بعد المدرسة.

كان من بين أقرانه: " عبد الجبار الأعرج وكاظم من عائلة عمران… وبعد أن ترك عبد الجبار المدرسة أخذ يعيش من مهنة بيع الفشافيش.. وتمر الأيام ويتولى عبد الكريم قاسم حكم العراق. وتستملك الدولة الدور التي كانت تحيط بالدار الذي سكنها عبد الكريم في طفولته لبناء مدرسة عليها بعد تعويض أصحاب الدور تعويضاً عادلاً كان موضع رضاهم. وبينما كان عبد الكريم يلقي خطاباً في افتتاح المدرسة، تقدم الصفوف عبد الجبار الأعرج ليواجه عبد الكريم فمنعه الحرس… فلمحه وعرفه عبد الكريم فتوقف عن خطابه وناداه جبار.. جبار وأندفع جبار ولاقاه وصافحه بحرارة وسأله أين كاظم؟ فاخبره بوفاته، ثم أخذ يسأل عن أخوان كاظم واحداً واحداً وعن أمه ومحل سكناه. ثم عاد واكمل الخطاب واستصحبه معه وأنقده 50 ديناراً من راتبه وخصص له راتباً شهرياً قدره عشرة دنانير من بلدية الصويرة وسمح له بمراجعته في أي وقت يشاء ".

كما حدثني النائب الضابط السابق حمزة محي عبد الله من مدينة الصويرة ذاتها، من انه لديه علاقة معرفة جيدة بجبار(الأعرج), وهو الذي أنقذ الطفل عبد الكريم من الغرق.. إذ كانت والدة عبد الكريم تعمل في المزرعة العائدة للعائلة بالقرب من نهر دجلة حيث كان يعيش، في حين كان الابن يسبح مع أقرانه وقد غرق وشاهدت الأم ولدها ومعاناته فأخذت تصرخ وتطلب النجدة. وكان جبار بالقرب منهم فهب لنجدة الطفل وانقذه من الغرق المحتم.

عادت العائلة إلى بغداد ثانيةً عام 1926. لم نستطع الوقوف على أسباب العودة، فهل كان ذلك لتحسن وضعها الاقتصادي؟ أم بلوغ الابناءحامد وعبد اللطيف وقاسم مرحلة دراسية لم تكن متوفرة في المدن الصغيرة آنذاك؟ أم كان وراء العودة الثانية إلى بغداد هو توفر عوامل الجذب المتعددة، مقارنة بعوامل الطرد الاجتماعية والاقتصادية والتعليمية الدافعة للهجرة من المدن الصغيرة؟ ومن المرجح أن السبب الاخير هو الذي كان وراء العودة إلى بغداد، خاصةً وأن أعمال نجارة (الشناشيل) كان سوقها الأساسي هو المدن الكبرى فحسب وهي تلبي الكماليات الجمالية للفئات الغنية والميسورة.

سكنت العائلة هذه المرة وأستقرت لفترة طويلة في محلة (قنبر علي) المجاورة لمحلتها السابقة (المهدية). وهي الأخرى معروفة بفقر سكانها وتدني مستوياتهم المعيشية,

عن كتاب (من ماهيات سيرة عبد الكريم قاسم)