من تاريخ الحياة النيابية في العراق.. أزمة رئاسة البرلمان سنة 1926

من تاريخ الحياة النيابية في العراق.. أزمة رئاسة البرلمان سنة 1926

د. قصي محمود الحسناوي

منذ أن تالف "حزب التقدم" في 15 تموز 1925، برئاسة السعدون، سيطر الحزب سيطرة فاعلة على مجلس النواب العراقي وعلى رئاسته.ففي افتتاح مجلس النواب العراقي في 16 تموز 1925، جرت الانتخابات داخل المجلس النيابي من أجل انتخاب رئيس للمجلس ونائبيه، وتقرر أن يراقب عمل الانتخابات ثلاثة من النواب هم: أرشد العمري ومحمد سعيد العبد الواحد ورؤوف الشماس،

إلا أن ياسين الهاشمي اعترض على ذلك كون النواب هم من حزب واحد هو "حزب التقدم" ورداً على ذلك، أعلن "حزب التقدم" ترحيبه بكل من ينتمي إليه، وتم الاقتراح على أن يكون أحد الثلاثة المراقبين من غير "حزب التقدم"، فاختير مزاحم الباجه جي(،

عضواً في اللجنة المراقبة للانتخابات.

وفي ضوء ذلك، استفاد رشيد عالي الكيلاني من انتمائه الى "حزب التقدم"،مما منحه ذلك مكانة سياسية مرموقة، اذ أصبح رئيساً للمجلس النيابي، بعد فوزه بالانتخابات في 16 تموز 1925، إذ حصل على ثمانية وأربعين صوتاً، بينما حصل منافسه ياسين الهاشمي على ستة وعشرين صوتاً.

ونتيجة لذلك، قام السعدون بتهنئة الكيلاني بفوزه، ثم قبل استقالته من منصب وزير الداخلية هذا فضلاً عن فوز محمد أمين زكي، بمنصب النائب الثاني للرئيس عندما حصل على(تسعة وثلاثين) صوتاً من أصل (ستة وسبعين) صوتاً، كما فاز أرشد العمري بمنصب الكاتب الأول للمجلس بنتيجة (تسعة وأربعين) صوتاً.

وعلى الرغم من ذلك، أعلن رشيد عالي الكيلاني استقالته من رئاسة المجلس النيابي في الجلسة المنعقدة في يوم 20 آيار 1926، فقبلت وانتخب وزير الداخلية حكمت سليمان رئيساً للمجلس بدلا عنه.

ومن الجدير بالذكر، ان انقساما كبير حدث في صفوف "حزب التقدم"، سببه انشقاق رشيد عالي الكيلاني عن ذلك الحزب في 8 آيار 1926، بعد أن ضمن فوزه برئاسة المجلس النيابي بدعم الحزب مبررا سبب ذلك بـ" شذوذ " ناجي السويدي وبعض رفاقه عن " مقررات الحزب "، الا ان الرجل ظل يحترم اعضاء "حزب التقدم " قائلاً:"وكيف لااحترمهم وهم انتخبوني مرات عديدة لرئاسة المجلس "، وهذا ما أكدته دراسة أكاديمية رصينة أعدت خصصياً عن رشيد عالي الكيلاني، كما أنه يعود لـ"حزب التقدم"، تأثيره السابق في سير سياسة مجلس النواب، فقد فشل مرشح الحزب، حكمت سليمان في تولي رئاسة المجلس بعد حصوله على (ثلاثة وثلاثين) صوتاً، في حين فاز الكيلاني، مرشح "كتلة الوسط" و"حزب الشعب" بأكثرية عشرة أصوات على منافسه. وصرح الكيلاني، إثر ترؤسه المجلس قائلاً: " يجب أن يعتبر الفوز هذا بمثابة انهزام الحكومة".

وينبغي أن نشير الى، أن الكيلاني فاز بهذا المنصب نتيجة لائتلاف كتلته "كتلة الوسط"التي اسسها في 10 آيار1926، مع حزب ياسين الهاشمي "حزب الشعب"، مع المستقلين وعدد من أعضاء "حزب التقدم"، وما أن أعتلى الكيلاني كرسي رئاسة المجلس النيابي، حتى أظهر شماتته بإخفاق مرشح "حزب التقدم".

ونتيجة لهذه الهزيمة التي لحقت بـ "حزب التقدم"، قدم عبد المحسن السعدون استقالة في 2 تشرين الثاني 1926، بسبب خذلان مرشحه حكمت سليمان في مجلس النواب وانتخاب مرشح المعارضة رشيد عالي الكيلاني، وقد عبر توفيق السويدي عن ذلك قائلا: "أصبح رشيد والبلاط في موضع، والسعدون وحكمت في موضع آخر فتصادمت القوى في انتخاب رئيس مجلس النواب، وبذل البلاط جهده لإقناع النواب بانتخاب رشيد عالي نكاية بالسعدون". وهذا ما أكده عبد المحسن شلاش عضو المجلس النيابي آنذاك بقوله:" أن الملك فيصل طلب منه ومن آخرين في المجلس انتخاب الكيلاني بدلاً من حكمت لرئاسة المجلس"، وعد عبد المحسن السعدون ذلك خذلانا لوزارته واستهتاراً بالقيم الحزبية من جانب عدد من مؤيديه في "حزب التقدم".

ومن الجدير بالذكر، أن السبب الذي أعطي في حينه لفشل مرشح "حزب التقدم"، هو أن التصويت السري قد مكن بعض نواب "حزب التقدم" من الذين لا يحبون مرشحها أن يصوتوا ضده، ولكن الشواهد أثبتت أن الملك فيصل نفسه كان وراء ذلك حين شجع على هزيمة الحكومة، وكان ذلك لعوامل عدة، إذ لما كانت السلطة البريطانية ببغداد راضية عن السعدون، فأن الشخص الوحيد الذي يمكنه تدبير الاكثرية في المجالس النيابي لصالح الكيلاني هو الملك فيصل ومما يؤكد هذا التفسير أن الكيلاني قد هزم بشدة أمام مرشح "حزب التقدم" والحكومة حكمت سليمان في انتخابات الرئاسة السابقة. فضلاً عن موافقة الملك فيصل على استقالة حكومة السعدون وقبولها حالاً دون التشاور مع مستشاره البريطاني كورنوالس، الذي كان سابقا قد وافق على رأي الملك في حل البرلمان وبقاء الحكومة لولا معارضة وزارة المستعمرات بنصيحة من المندوب السامي هنري دوبس الذي كان حينها في لندن.

ومن الضروري الاشارة إلى أن الملك فيصل الأول حاول إقناع عبد المحسن السعدون بالقبول بنتيجة انتخاب رشيد عالي الكيلاني كرئيس للمجلس النيابي والدوام على إدارة الشؤون إلى أن يغلب في مسألة مهمة وعندئذ يمكن حل البرلمان، لكن رئيس الوزراء السعدون تصلب في رأيه وكان من الصعوبة إقناعه للعدول في الاستقالة.

ومما يؤكد دور الملك فيصل الأول في هزيمة حكومة السعدون إمام المجلس النيابي ما كتبه المندوب السامي بعد ثمانية شهور من الهزيمة إلى الوزارة، موضحاً أنه كان يشك في حينها أن الملك فيصل هو الذي دبر استقالة السعدون وأنه مقتنع الآن بذلك لأن: "السرعة غير اللائقة التي قبل بها الاستقالة كانت مثيرة كثيراً للشكوك إضافة إلى المؤشرات الأخرى، فقد سمعت في حينها من مصادر موثوقة بأن العديد من الأصوات قد أعطيت إلى رشيد عالي بتوجيهات من الملك فيصل".

ومهما يكن من أمر، فقد نجح السعدون، في الفوز برئاسة مجلس النواب في 27 تشرين الثاني 1926، ولاسيما بعد أن صوت له أعضاء "حزب التقدم"، كما أنتخب خير الدين العمري كاتباً ثانياً للمجلس.

ومن الجدير بالذكر، أن انتخاب السعدون، جاء بعد انشغال الكيلاني بمنصب وزير الداخلية، وأن ذلك الأنتخاب لم يكن يعني أن السعدون أعاد تنظيم صفوف الأكثرية البرلمانية المؤيد له، وأنما انتخب السعدون، لما كان يتمتع به من احترام شخصي من لدن الأغلبية الساحقة من النواب، ويمكن القول أن الانتخاب قام على أساس أدبي بعيداً عن الميول السياسية. ولابد من الاشارة، إلى أن السعدون، قد اشترط لتأليف وزارته الثالثة، حل المجلس النيابي، وحدث ذلك بعد مرور أربعة أيام فقط على تشكيل وزارته في 14 كانون الثاني 1928، وعندما جرت الانتخابات النيابية في 8 ايار 1928، فاز بها "حزب التقدم" باكثرية ساحقة.

كما فاز عبد العزيز القصاب، مرشح "حزب التقدم"، برئاسة المجلس النيابي بأغلبية ساحقة، بحصوله على سبعة وستين صوتاً من مجموع ثلاثة وثمانين صوتاً، ثم قدم استقالته من منصب وزير الداخلية.

ونتيجة لذلك، شنت الصحف المعارضة هجوماً لاذعاً على "حزب التقدم"، فتصدت لذلك جريدة الحزب جريدة "اللواء" وذلك في عددها الصادر في 25 مايس 1928، بمقال عنوانه: "ضجيج الخاسرين في المعركة الانتخابية"، اتهمت فيه الصحف المحلية بتبني نشر برقيات من قبل الخاسرين في الانتخابات النيابية لسنة 1928، تسيء لـ"حزب التقدم".

وبعد ذلك انتهى دور "حزب التقدم" النيابي، بعد أن قرر نوري السعيد الذي شكل وزارته الأولى في آذار 1930، القيام بحل مجلس نواب سنة 1928، الذي

ألفه عبد المحسن السعدون، ليكون له مجلس من تأليفه.

عن رسالة (حزب التقدم في العراق ودوره السياسي