بليز باسكال... عشق الرياضيات واخترع الآلة الحاسبة

بليز باسكال... عشق الرياضيات واخترع الآلة الحاسبة

محمد عبدالفتاح

ونبغ عباقرة - لم يبلغوا سن العشرين - وبرعوا في تقديم خدمات جليلة للبشرية واختراعات مميزة كان لكثير منها دور كبير في تغيير مسار الحياة المدنية والاقتصادية والاجتماعية. لكن ماذا عن حياة عباقرة تحت العشرين وكيف تربوا، وكيف عاشوا، وكيف بزغت مواهبهم، وكيف تحدوا الصعاب وتغلبوا عليها؟

هو واحد من العلماء القلائل الذين استطاعوا الجمع بين اكثر من علم في وقت واحد، فبفضل عبقريته الفذة التي نضجت منذ نعومة أظافره استطاع العالم الفرنسي "بليز باسكال"، أن يلم بعلوم الفلسفة والرياضيات والفيزياء والأدب، وفي كل هذه المجالات قدم إسهامات كان لها بالغ الأثر في تقدم البشرية، وكان ابرز إنجازاته على الإطلاق هو اختراع الآلة الحاسبة التي ابتكرها وطورها قبل أن يتم عامه التاسع عشر.

النشأة

ولد الطفل بليز باسكال في 19 يونيو من العام 1623 في منطقة كليرمونت الفرنسية لأب ينتمي إلى عائلة برجوازية يدعى "إيتيان" يعمل قاضيا وتنتمي عائلته إلى نبلاء الثوب "القضاة وكبار الموظفين" الذين كانوا يتنافسون على السلطة مع نبلاء السيف " القادة والفرسان"، وعندما بلغ الثالثة من عمره توفيت والدته وتركته مع شقيقته في رعاية الأب.

وعندما شب الطفل قليلا برزت لديه عبقرية فذة لفتت إليه أنظار المحيطين به وكان أولهم والده، فقد كان كثير السؤال ودائما ما يختلي بنفسه ليفكر في أمر ما، وكان لا يتقبل الاجابات التي يحصل عليها بسهولة بل كان يفكر فيها كثيرا قبل أن يقتنع بها وإذا لم يقتنع يعيد السؤال مرات عديدة إلى أن يقتنع، وفي هذه السن المبكرة بدأ في إجراء بعض العمليات الحسابية البسيطة وأظهر اهتماما خاصا بالرياضيات. وأدرك والده أن ابنه عبقري ويمتلك من الذكاء قدرا كبيرا، فحرص على أن ينمي هذا الذكاء الفطري.

أمراض نفسية

وحدث أن أصيب الطفل باسكال ببعض الأمراض النفسية فكان لا يستطيع مشاهدة الماء وتنتابه حالة هيستيرية كلما شاهده وعجز عن النوم فكان يظل مستيقظا لأيام طويلة، واحتار الأطباء في علاجه ما اضطر والده إلى الذهاب به إلى إحدى الساحرات ظنا من أن مسا شيطانيا قد مسه خصوصا أنه كان يبدو كالمجنون في كثير من الأحيان وأيضا لم تتمكن من علاجه.

وسرعان ما شفي من تلقاء نفسه وعاد إلى طبيعته المحبة للعلم. بعد ذلك أظهر باسكال الصغير اهتماما بالغا بالرياضيات وقيل إنه فتن بها وقرأ فيها الكثير، خصوصا في الهندسة عندما كان في الثانية عشرة من العمر، وأصبح قادرا على حل أصعب المسائل الرياضية وأكثرها تعقيدا الأمر الذي أصاب والده بالذهول.

استطاع في سن مبكرة أن يؤسس حساب النهايات، وحساب التكامل ويعد أحد مكتشفي حساب الاحتمالات بمعناه الصحيح القائم على أسس رياضية واضحة. واهتم بخصائص السلاسل العددية الصحيحة وبالترتيب العددي، والأعداد الطبيعية والأعداد المثلثية، ووضع ما يسمى مثلث باسكال وتطبيقاته العديدة المستخدمة حتى الآن. وهو تنظيم ثلاثي من الأرقام يكون فيه كل رقم مساويا لمجموع الرقمين المجاورين له من جهة اليمين، وعلى جانبه الأيسر في الصف الذي يكون أعلاه مباشرة.

مفهوم التجربة

وفي مجال الطبيعيات... رسخ باسكال مفهوم التجربة وكان يرى أن المسائل الطبيعية لا تحل باستنباط النتائج من مبادئ عامة، بل لابد من التجربة العملية وفي هذا الشأن عكف في مدينة "روان" على إعادة تجارب تورشللي إلى أن اكتشف الضغط الجوي بعد إجراء التجارب على مستوى سطح الأرض وعلى مستوى سطح البحر وأعلى أسطح المنازل والكنائس.

كما أدت أعمال باسكال المهمة في مجال ضغط السوائل إلى إيجاد المبدأ المسمى بقانون باسكال، وينص هذا المبدأ على أن السوائل الموجودة في الأوعية تنقل ضغوطا متساوية في جميع الجهات، كما يوضح العمليات التي تقوم بها ضاغطات الهواء، والمضخات الفراغية، والرافعات الهيدروليكية، ورافعات السيارات، ساعدت تجارب باسكال على إثبات أن للهواء وزنا، وأن ضغط الهواء يمكن أن ينتج فراغا، وبذلك أزال شكوك العلماء في ذلك الوقت في إمكان وجود الفراغ.

وقد توج باسكال جهوده العلمية في مجال التطبيقات الرياضية عندما ابتكر الآلة الحاسبة القادرة على إجراء الحسابات الأساسية الأربعة "الجمع والطرح والضرب والقسمة" في سهولة ويسر وبدقة بالغة لا تحتمل الخطأ، وقيل إن تفكير باسكال في هذا الاختراع كان بهدف مساعدة والده في إجراء الحسابات الخاصة بالضرائب، حيث كان يعاني من الإرهاق الشديد في إجرائها يدويا وكثيرا ما كان يقع في الأخطاء.

وتعتبر هذه الآلة إحدى أوجه تقدم العلوم التطبيقية وكانت اكتشافا مهما، ساهم في توصل الإنسانية إلى الحاسبات الحديثة وما يمكن أن تصل إليه في المستقبل. وقد اكتشفها في مدينة "روان" سنة 1640 وكان عمره وقتها "17" عاما وحصل على براءة اختراع بها. وقبل أن يصل إلى العشرين من عمره أصبح عالما معروفا ومهاب الجانب.

فكره الفلسفي

حول أفكار بليز باسكال الفلسفية والدينية كتب الروائي التونسي حسونة المصباحي يقول: " في العام 1646، انكسرت ساق والد باسكال وهو يمشي في الشارع متوجها إلى حفل زواج. وخلال الأشهر الثلاثة التي أمضاها في المستشفى قرأ مؤلفات دينية عميقة حول قضايا المسيحية.

وبعد شفائه قدّم لابنه النابغة تلك المؤلفات وطلب منه بإلحاح أن يقرأها. وبعد قراءته لتلك المؤلفات، بدأ باسكال يشعر أنه لابد أن يفهم الناس المسيحية من داخلها، وأن يتعمقوا في البحث عن ذلك. وهكذا اندفع من جديد يقرأ ويبحث، ويسجل خواطره بشكل محموم كما هي عادته دائما عندما يستغرق في العمل.

ولأن أمراضا مختلفة عادت تؤرقه وتعذب روحه وجسده، فإن بليز باسكال لزم البيت لا يبرحه أبدا. وهكذا انتهى الاتصال بالعالم الخارجي وهو في الثالثة والعشرين من عمره. وكان يقتصر على شرب السوائل. أما الأطعمة فقد كان يتقيؤها حالما تدخل بطنه. ومع ذلك لم يكن باسكال يتذمر أو يشتكي. كان يتألم ويتعذب صامتا. وكان الأطباء يحاولون العثور على الأدوية التي يمكن أن تخفف من آلمه ومن أوجاعه، غير أن جهودهم كانت تنتهي دائما بفشل ذريع. وعندما تشتد آلامه، كان بسكال يرفع يديه متضرعا لله، طالبا رحمته وغفرانه.

وقد حمل مؤلفه الفلسفي الأول عنوان "الأبرشيات" وبه حقق نجاحا منقطع النظير. فقد تهافت الناس على شرائه وبيع منه أكثر من 10 آلاف نسخة. وظل بليز باسكال يصارع الأمراض التي تكالبت عليه صامتا رافعا يديه إلى السماء متضرعا، ومطلقا الصلوات وبين وقت وآخر كان يسجل في دفتره ما كان يمر بخاطره من أفكار. وتلك الخواطر والأفكار سوف تجمع فيما بعد، ليتكون منها كتاب "الأفكار"الذي لايزال إلى حد هذه الساعة واحدا من تلك المؤلفات التي لا يمل الناس أبدا من قراءتها

· عن الحوار المتمدن