عواد علي
حين توفي في العام 2010، إثر نوبة قلبية، لم ينعه صديق مقرّب إليه مثلما فعل هو مع رفيق دربه الكاتب المسرحي والقاص جليل القيسي، بل عزّى برحيله رسميون من أبناء جلدته، مثل الرئيس جلال طالباني، ومسؤول الإعلام في الاتحاد الوطني الكردستاني، الذي ألقى كلمة في مراسم التشييع. وفي مقالة استذكارية كتبها، عشية وفاته، صديقه الكاتب تحسين كرمياني، الذي يكتب مثله باللغة العربية، قال "مات محيي الدين زنكنة وفي قلبه حسرة كبيرة، حسرة عدم حصوله على (فيزا) كي يعالج شبكية عينيه".
بدأ محيي الدين زنكنة، المولود في مدينة كركوك عام 1940، الكتابة في سن مبكرة وهو دون الرابعة عشرة. وفي أواسط الخمسينات اعتقل بسبب مشاركته في تظاهرة طافت شوارع المدينة تأييدا للشعب المصري في معركة بورسعيد، واستنكارا للعدوان الثلاثي. أكمل الثانوية في مدينة بعقوبة، وتخرج في كلية الآداب، قسم اللغة العربية، بجامعة بغداد، وعُيِّن مدرسا في مدينة الحلة (مركز محافظة بابل)، ثم انتقل إلى مدارس بعقوبة حتى إحالته على التقاعد. تعاقبت على تقديم مسرحياته أكثر من أربعين فرقة مسرحية داخل العراق وخارجه، وحازت عشر جوائز، ابتداء من عام 1970 حتى عام 2005، منها جائزتا الدولة التقديرية للإبداع.
"السؤال" بداية الشهر
اشتهر زنكنة ككاتب مسرحي، أول ما اشتهر به في العراق، بمسرحية "السؤال، أو "حكاية الطبيب صفوان بن لبيب وما جرى له من العجيب والغريب" التي كتبها عام 1970، وهي تعرض مأساة طبيب ليبيرالي اسمه صفوان، يؤمن بالحق، ويستميت من أجل العدالة، ويبذل العون للناس، ولكنه يثق، في سذاجة، بأن القانون عادل ومنصف وجدير بأن يدفع عن الأخيار شرّ ما يبتلون به من ظلم. وتكون النتيجة أن يقتل الطبيب بأمر من القانون الذي احترمه، متهما بقتل رجل لم ير إلاّ جثته! وقد أنتجت هذه المسرحية في بغداد أولا، وفي عدد من المحافظات ثانيا. وبسبب شهرتها، اختارها المخرج التونسي المنصف السويسي ليخرجها في بداية السبعينات، وقدّمتها إحدى الفرق المسرحية الكويتية.
عام 1985 أخرج المخرج العراقي عزيز خيون مسرحية زنكنة "لمن الزهور"، وقدّمها في مهرجان بغداد للمسرح العربي، وهي أقرب إلى قصيدة شفافة مرهفة ترتفع إلى نوع من الاستبطان النفسي والإنساني في علاقة غريبة ومعقدة بين أمّ وابنها، ربما تمكن مقارنتها بـ"عقدة أوديب" الشهيرة، لكن هذا الترميز النفسي غير محصور وغير مقنّن، مما يفسح لاتساع في الحركة بين الشخصيتين.
تبدأ أحداث المسرحية حينما تأخذ امرأة ابنها إلى مستشفى المجانين، وقد خرجت به مبكرة كي لا يراها الناس. في هذه المسافة، تجري حركة تداعيات متتابعة ومتدفقة للمرأة وابنها، تتمحور حول شخصية أو شخصيتين، ونحسّ بينهما بعلاقة يميّزها أقسى الحنان، وأقسى الالتباس، من خلال حوار شاعري صادم ومتوتر في الوقت نفسه، يفتح إمكانات درامية اشتغل عليها المخرج بمنحى تجريبي، موظفا طاقته في صوغ عرض من دون شعارات ولا تنازلات، مظهرا امتلاكا لأدواته وفهما لما يريد أن يقول من خلال محاولته ربط الصور الإيحائية للحوار بالحركة والانفعال الحاد تجسيدا لمناخ الرعب الذي يسيطر على الشخصيتين الرئيسيتين.
المخرج عوني كرومي، يحتفي بمسرحية (صراخ الصمت الأخرس)، لمحيي الدين زنكنة ويقدمها من إنتاج فرقتي (المسرح الشعبي) و(اليوم)، وتدور أحداثها حول شخصين مشردين، أحدهما مقطوع الذراعين، يهيمان على وجهيهما في شوارع مدينة خالية مجهولة، بحثا عن لقمة العيش، أو الحرية، أو فرصة لتحقيق ذاتهما المستلبة
أخرج المخرج الراحل عوني كرومي أواسط الثمانينات، مسرحية أخرى لزنكنة بعنوان "صراخ الصمت الأخرس"، أنتجتها فرقتا "المسرح الشعبي" و"اليوم"، وتدور أحداثها حول شخصين مشرّدَين، أحدهما مقطوع الذراعين، يهيمان على وجهيهما في شوارع مدينة خالية مجهولة، بحثا عن لقمة العيش، أو الحرية، أو فرصة لتحقيق ذاتهما المستلبة. وتتخلل هذه الرحلة صور مشحونة بحيثيات الواقع المأسوي ودلالات لامعقولة غامضة وغير مألوفة، ترتفع من بُعدها الفردي إلى أبعاد إنسانية تكشف عن عالم كبير يرزح تحت عجلته الاقتصادية والسياسية المدمرة ملايين البشر المُذلين والمقهورين الحالمين بحياة نظيفة تتفتح فيها أرواحهم إلى أقصى حدودها الإنسانية.
وعلى الرغم من الحذف الذي أجراه المخرج كرومي على النص، فقد ظل محافظا على نسق من البناء الدرامي "الدائري"، الذي ينهض على عودة الحدث إلى النقطة التي بدأ منها. وقد عمّق الإخراج إحساس المتلقّي بذلك، بصورة أشد وضوحا، حينما عمد إلى رسم التكوين البصري الأول الذي يفتتح به العرض بشكل مغرّب خارق للعادة مثير للدهشة، يهدف إلى تحطيم المظهر المألوف للوجود الإنساني (رجلان أحدهما معلّق في سيفونة، أي حاوية ماء المرحاض، والآخر يخفي رأسه في مبولة، وقد أسدل الستار في نهاية العرض على التكوين ذاته).
ويبدو هذا البناء قريب الشبه إلى بناء نصي صموئيل بيكيت "في انتظار غودو" و"نهاية لعبة"، لكن الدلالة التي نستشفّها من بناء نص زنكنة، تختلف جوهريا عن الدلالات التي يرشح عنها بناء نصّي بيكيت، ففي "صراخ الصمت الأخرس" تشير عودة الحدث إلى نقطة البداية، كعلامة شكلانية، إلى استمرار دوران المطحنة الكبيرة على جسد الإنسان المستلب وروحه في عالم تتحكم في سيرورته آلية القمع، وقوانين الرأسمال، وتحيل هذه الإشارة على بنية دلالية تضع النص في إطاره الاجتماعي، وتكشف عن طبيعة الصراع القائم بين بطلي المسرحية، بوصفهما كائنين مسحوقين جائعين، ومحيطهما الاجتماعي المتخم، الموغل في تجريدهما من صفاتهما الإنسانية. أما عند بيكيت فإن علامة البناء توحي بمدلول فلسفي قوامه لامعقولية الوجود الإنساني، فلا يمكن أن يحدث شيء البتة في الحياة، وصخرة سيزيف ترتدّ إلى موقعها الأول في دورة جحيمية لا تتوقف.
الزنوج البيض
كتب زنكنة ثلاثين مسرحية منها "احتفال في نيسان"، "الإشارة"، "السر"، "الجراد"، "الإجازة"، "مساء السلامة أيها الزنوج البيض"، "حكاية صديقين"، "العقاب"، "القطط"، "رؤيا الملك" وغيرها، كما صدرت عن مسرحياته ورواياته بعض الكتب، مثل "مسرح محيي الدين زنكنة" لغنام محمد خضر، "البناء الدرامي في مسرح محيي الدين زنكنة" لصباح الأنباري. و"محيي الدين زنكنة روائيا: دراسة ونقد" لرؤوف عثمان. كرنا عنوان مونودراما "مساء السلامة أيها الزنوج البيض" بقصيدة الشاعر الفرنسي فرلين، التي كتبها يوم وفاة صديقه الشاعر رامبو:
مسرحيته (حكاية الطبيب صفوان بن لبيب وما جرى له من العجيب والغريب) تعرض مأساة طبيب ليبيرالي اسمه صفوان، يؤمن بالحق ويستميت من أجل العدالة ويبذل العون للناس، ولكنه يثق بسذاجة بأن القانون عادل ومنصف وجدير بأن يدفع عن الأخيار شر ما يبتلون به من ظلم. وتكون النتيجة أن يقتل الطبيب بأمر من القانون الذي احترمه
يقدّم النص أنموذجا للفنان المستلب (البطل الإشكالي)، وهو شاب في منتصف الثلاثينات يدعى سوران، مؤلف موسيقيّ هاو، حاصل على دبلوم في الموسيقى، لكنه يعمل موظفا مسحوقا في دائرة حسابات، ويسكن في سرداب عمارة سكنية، بعدما عجز عن العثور على مسكن في المدينة؛ تلك المدينة التي يوليها اهتماما كبيرا، بوصفها عالما تتداخل فيه رؤيته ومعاناته وهواجسه وتحولاته، ويحاول إسقاط ما تشير إليه لفظة "المدينة" من موحيات، في القصيدة التي يتعذب في وضع لحن مناسب لها، على المدينة التي يعيش فيها، والأصح على هامشها، وكذلك مقارنتها بمدينة الحلم، مدينة الموسيقى والحرية والحب والجمال.
يحاول سوران أن يجعل من مفهوم المدينة مرادفا لمفهوم الأصالة، أو الهوية المحلية للخلق الفني من خلال معاناته في صوغ لحن مستوحى من تراب مدينته، وتاريخها. لكن كيف يتأتّى له ذلك والإحباط يحاصره من كل جانب؟ البيانو الذي أفسدته زوجته الثرثارة اللعينة، صاحب العمارة الذي اشترط عليه ألاّ يزعج بموسيقاه أحدا من المستأجرين وإلاّ ألقى به في عرض الشارع، ضجيج السيارات وأبواقها المزعجة في الخارج، البرد الشديد الذي يغرس أنيابه وسكاكينه في أوصاله، الأرقام التي تنزل على رأسه كالمطارق في العمل، وماضيه الذي ترك جرحا غائرا في أعماقه.
شكّل الصراع أبرز عنصر في البناء الدرامي لهذا النص وهو يحتدم بين البطل وعوامل الإحباط التي رافقت حياته في السابق، وتلك التي تحيط به في أثناء الفعل الدرامي، وقد نجح زنكنة في خلق التكامل والتجانس بين التشخيص البارع وقوة الأفعال الدرامية لدى البطل، فما يعتمل في أعماقه من صراع مع الأشياء المحيطة به، كالساعة والمدفأة والبرد والسرداب وأصوات السيارات والمخلوقات التي يسترجع مواقفها وأفعالها الدنيئة، يمكن تفسيره في ضوء طبيعته ودوافعه ومشاعره وملكته الفكرية ورؤيته للفن والواقع. كما أنه يكشف عن فشله في إقامة توازن بين قيمه وأحلامه وطموحاته والمحيط الاجتماعي الذي يتعامل معه بقسرية شديدة.
إن من يقرأ نصوص زنكنة المسرحية يجد أن أغلبها يقدم شخصيات محدودة، تتميز بكونها إما هامشية في موقعها الاجتماعي، بسبب عوامل خارجة عن إرادتها، وإما مستلبة وإشكالية بسبب الضغوط التي تتعرض لها، وعدم قدرتها على المواءمة بين رغباتها وأحلامها الشخصية والإنسانية المشروعة من جهة، والرغبات الغيرية المنبعثة من إرادة قمعية أو متخلفة أو بطريركية من جهة أخرى.