في التجربة المسرحية لمحيي الدين زنكنة

في التجربة المسرحية لمحيي الدين زنكنة

د. فاضل عبود التميمي

في البدء كانت البواكير حاضنة النواة، منها تسري رحلة البحث عن الذات لمواجهة (الآخر)، وتشكيل الرؤية التي يتجاوز من خلالها الكاتب معمّيات الأشياء.في البدء كانت البواكير... منها يتلصص (الكاتب) بوعي أولي يحاور، ويديم الصلة مع الحواس حتى إذا ما اكتملت أدواته المعرفية، والفنية كشف قناع الخوف عن وجهه ليبدأ مع نفسه وأفكاره رحلة الألف ميل التي تبدأ عادة بخطوة واثقة غير متعجلة.

إن القول الفصل في وعيه القصصي، والمسرحي، ومعرفة بواكيره ظل حلما بالنسبة إلى أصدقائه، ومحبيه، ذلك لان أحدا لم يطلع على محاولاته الأولى، والكاتب نفسه قليلا ما يتحدث عنها، فهو قليل الكلام عن ذاته يشيح بوجهه عن المقابلات، واللقاءات الصحفية، وكانت عزلته عزلة مبدع لايهمه منها سوى الإبداع، وتأكيد نزعته الإنسانية التي تتقصى مشكلات الحياة بعيدا عن التهريج، والإعلان، لهذا صارت سيرته الأدبية مصدر قلق وتقوّل لكثير من دارسيه أخضعها قسم منهم إلى تأويلات شتى... أما سعيه إلى (الشهرة) فهو أبطأ من زحف سلحفاة!.

ترى من أين يستطيع الباحث، أو الناقد أن يحصل على كتاباته الأولى؟ وكيف؟ إذا كان الوصول إلى (عمومياته) شيئاً صعباً، كيف يوفق إذن في تقليب مذكراته ــ إن كانت له مذكرات ــ وكيف يقرأ طفولته وهو يقلب (ألبوم) صوره الأولى، وكيف يطلع على بواكيره ويحدد جنسها الأدبي إذا كانت كل الأمور تجري في حالة من التغييب المتعمد للأثر..؟.

لقد تحقق لي ما كنت أعده مستحيلا.. وها أنا ادخل بمحض رغبتي، وبالصدفة وحدها (مكتبة زنكنة)، قلّبت ما شاء لي من مقتنياتها، وعبثت بعشرات المجلات، والكتب النادرة، والطبعات الخاصة.. وعندما تسمّرت عيناي على دفترين قديمين في رف من رفوف المكتبة أيقنت أن بواكير محيي الدين زنكنة أصبحت قاب قوسين أو أدنى من قلمي: دفتران بملامح رثة خط عليهما الزمن ملامح القدم، الأول اخضر اللون، احمر الكعب، والثاني مغلف بجلد اسود، بين دفتيهما وجدت محيي الدين حميد زنكنة في بواكيره الواعدة، وتلصصه على الحياة يوم كان برعما يشي بشيء جميل.

الدفتر الأول يحتوي على خمس قصص قصيرة كان الكاتب قد دبجها بين الأعوام (1955 ــ 1959) أي بين أعوام الدراسة الإعدادية، وقسم من الدراسة الجامعية، أعدها لتكون مجموعة قصصية ولكنه لم يطبعها وقد تجاوزها فيما بعد وربما عدها من البواكير التي لا تصلح للنشر.

المجموعة بلا عنوان، والعنوان ضرورة، والبحث الدقيق في أوراقها هداني إلى قراءة (مقدمة) لها ليست قصيرة سمّاها الكاتب (بعد سنتين) وقد تأكد لي أن هذا العنوان لا علاقة له بعنوان المجموعة الذي لم يكن، وانه كتب بلغة واضحة، وصريحة خص بها مجموعته تلك، جاء في استهلالها: (عندما أعود اقلب صفحات هذا الدفتر لا املك نفسي من ابتسامة فيها من الاستلطاف قدر ما فيها من الاستهانة، ذلك لأنها تحبب إلى نفسي الأيام التي ودعتها من غير رجعة التي كنت أحلّق فيها في أجواء الخيال... واركض وراء الفراشة في البساتين) ثم يسهب في تصوير معاناته يوم كتب قصصها وهو غارق في الخيال والأحلام ناسيا أبناء جلدته من البشر لا يشاركهم أحزانهم، ولا يواسي مصابهم، ولم يحاول مرة أن يمسح دمعة عن خدهم فقد كان والقول له يصيح: (في بيداء الحب والغرام).

المقدمة تعطي فكرة للقارئ يمكن تحليلها في النقاط الآتية:

1 ــ إن الكاتب بدأ مشروعه الأدبي في بواكيره تلك من الذات، من موضوعها الأجمل (الحب)، وهذا شيء يتناسب مع توجهات الكاتب يوم ذاك، وهو في أول شبابه، وانبهاره في الحياة، والجمال... لقد كتبت أولى تلك القصص ومحيي الدين زنكنة لما يزل طالبا في المرحلة الرابعة من الدراسة الإعدادية، وقد كان صادقا حين قال في تلك المقدمة إنها قصصه: (تصور حياتي في تلك المدة تمام التصوير).

2 ــ إن الكاتب بعد أن أنجز قصصه بمدة وجيزة مرّ بتجربة سياسية عمقت من وعيه الأدبي وجعلته ينظر إلى تلك التجربة بمنظار الاستصغار، والاستهانة على الرغم من أن موضوعاتها إنسانية جميلة.

3ــ إن المقدمة كتبت بتاريخ 27/6/1958، وهذا يعني أنها كتبت قبل ثورة تموز (يوليو) بأيام قليلة، وانه كتبها بعد فراغه من كتابة جميع القصص سوى قصة (اللحن الأخير) التي كتبها بتاريخ 12/8/1959.

4ــ إن المجموعة كانت بمثابة التمرين الأدبي للكاتب، يدل على هذا: عدم رضاه عنها، وعزوفه عن نشرها فيما بعد.

أعود إلى المجموعة نفسها فأقول: إن الكاتب ذيل جميع قصصها بتواريخ تشير إلى زمن الانتهاء من كتابتها، وهذا يعني أن الكاتب فطن مبكرا إلى أهمية توثيق نصوصه، وهذا ما ظل يفعله حتى أيامنا هذه، وقد أنجز الشيء المهم والكثير في المسرح، والقصة والرواية.

اشتمل متن المجموعة على تخطيطات بالقلم الرصاص مثلت وجوها إنسانية غير مكتملة الملامح، وتخطيطات تحيل إلى استباق حالته الإبداعية، فهو يخط بالقلم الحبر مثلا عبارة: (مؤلفاتي كلمات قديمة) ليشير ضمنا إلى عدم رضاه عما سيكتب، وإلى رغبته الصادقة في تجاوز يومه إلى غد أجمل... ووجدت الكاتب يزين عنوانات القصص بأشكال جميلة تمثل طيور البطريق، والبلابل، وهذا يؤكد نزعته الرومانسية التي بدأ فيها الكتابة ثم سرعان ما غادرها بفعل تحولاته الفكرية اللاحقة... وكان يعمل على اجتزاء نص معين من قصصه، لكي يضعه قبل عنواناتها وبعدها، لتكون تلك الملصقات إحالات يؤكد فيها الكاتب(بوحا) معينا يمكن للقارئ أن يسهم في فك مغاليقها، ليكون في قلب القراءة والتلقي.. وهذا ما فعله في قصة (اللحن الاخير) التي ذيل عنوانها بالنص الآتي الذي اقتطعه من ختام القصة نفسها: (أحبت الموسيقى والألحان، وطبيعي أن الدير خال منهما قفر، ليس فيه غير تراتيل الرهبان، ودقات النواقيس... فقضت عمرها مرددة أغلى ما وعته الأوهام..).

أما قصة (أنا والليل) فقد خط عنوانها بالأبيض وجعل فضاءه باللون الأسود تاركا هذا الطباق التشكيلي يمنح المتلقي دلالة يمكن تفسيرها بالإحالة إلى ما في القصة من شد دلالي، وقد أهدى قصته (ذهب ولم يعد): (إلى التي جعلت من شفتيها كأسا، ومن رحيقها شراباً ارفع هذه السطور) مكررا إياه حول العنوان.

قصص المجموعة ماذا حملت؟ وبماذا بشرت؟ وكيف يمكن للقارئ اليوم أن يتلقاها؟ قصة (أنا والليل) كتبت بتاريخ 4/12/1955. و(قبلة في الظلام) في 8/7/1956. و(التضحية) في 21/10/1956، و(ذهب ولم يعد) في 18/1/1957، و(اللحن الأخير) في 22/8/1959... هذه القصص يجمعها قاسم مشترك هو (الحب)، ففي (اللحن الأخير) هيمن على شخصية بطل القصة احمد في حدود المكان الأليف(كركوك)، وكذلك الموسيقى بوصفها فنا إنسانيا جميلا، وسلوى.. ولكنه انتهى بمأساة.. وفي قصة (أنا والليل) كانت لغة القص شعرا في الاستهلال: (هدأ الليل، ورقد الكون، وهاجت في نفسي الآلام)، هذه الشعرية كانت المدخل لمعالجة موضوع الحب في حوارية: الحمام، والحزن، والسعادة التي بدت حلما جميلا زائلا في الحال... في قصة (قبلة في الظلام) التي عمد الكاتب إلى ترقيم متنها، قدم فيها موضوعة الحب مغموسة بحكم الأقدار ولكن بلغة كان الوصف فيها يؤكد منحى الكاتب في تحليل النفس الإنسانية عبر ثنائية حب الذات ومعاقبتها.. وهذا ما لم يفعله في قصة (ذهب ولم يعد) التي غلبت على خطابها لغة التقبيل، والحوار، والتكثيف وكأنها تعويض عن فقدان ما، وقصة (التضحية) لا تختلف في موضوعها عن سابقاتها.. ليل وحب بدا من طرف واحد ثم اخذ منحى صريحا من طرفي الحياة، الزوج، والزوجة ولكن باتجاه آخر.

ثمة قاسم مشترك بين القصص كلها، التشبث بالحلم الرومانسي، والفقدان والاستلاب، ومحاولة التعويض، ومعاقبة الذات، والصراع الحاد مع النفس... ولا ادري لماذا خص الكاتب قصتين منها بأسماء شخصيتين مكررتين: (احمد) الذي كان بطل (اللحن الأخير) و(قبلة في الظلام)، وكذلك (سلوى) التي تكرر اسمها في القصتين.

أما الدفتر الأسود فقد بدت أهميته التوثيقية من دون الدفتر الأزرق، لأن قصصه لم تؤرخ وبدت الأقرب إلى يومنا هذا، ويخيل لي أنها كتبت في نهاية الستينيات من القرن الماضي، ولهذا شكلت علامة فارقة في سيرته الأدبية، لأنها كانت الأكثر نضجا وتماسكا، عدد القصص أربع، اثنتان سبق للكاتب أن نشرهما في مجموعته القصصية الأولى (كتابات تطمح لأن تكون قصصا) وهي: (السد يتحطم ثانية) و(حرمان)، ما يهمنا الآن الحديث عن الاخريين: (الليل والمطر) و(هدية لسعادة الباشا)، الأولى كتبت بلغة فارقت لغة قصص البواكير فقد بدا في الليل والمطر عازم على الخوض في غمار المشكلة الاجتماعية بتأثير التحولات الفكرية والنفسية التي أكسبته قدرة على رؤية الواقع والغوص في نسيجه العام والخاص، ولأنه أراد أن يكشف جزءا من الصراع النفسي الذي هيمن عليه السوء الأخلاقي، اخـــــتار زوجة الأخ اللعوب مثالا... فقدم قصة قصيرة تخطت حدود النجاح في القصص الخمس السابقة.

أما قصة (هدية لسعادة الباشا) فقد استطاع كاتبها أن يسبر أغوار(الفقر) حين يكون همّاً إنسانيا يجثم على صدر (البراءة)، و(التحسس) و(تأكيد الذات)... وهي فضلا عن هذا تكثيف لصورة الزيف الطبقي الذي عادة ما يكون ظاهرا في حياة تهيمن على واجهاتها ثنائية الشخص المتحصن بذاته، والشخص التائق لملاقاة الآخر... القصة كتبت بوحي من مقدمة الدفتر الأزرق التي حاول من خلالها أن يغادر الكتابة عن الذات ليدخل في الكتابة عن الآخر فكان له ما أراد في كتاباته اللاحقة.

في هذا الدفتر مسرحية واحدة عنوانها(الإجازة) كتبها بتاريخ 4/6/1957 فهي من مسرحياته المبكرة، وقد سبقتها محاولات لم تر النور... ومما هو جدير بالملاحظة أن أول مسرحية نشرها الكاتب كانت(14نيسان) التي ظهرت لأول مرة منشورة في بغداد على صفحات مجلة(صوت الطلبة) في عام 1959.. فـ (الإجازة) تسبقها بعامين، ولعلها المسرحية الوحيدة التي لم ينشرها الكاتب في كتاب أو مجلة، ربما بسبب لغتها العامية التي تحول دون انتشارها عربيا، وربما لأنها من(البواكير) التي اعتقد بتواضع بنيتها، وعدم انسجامها مع ذائقته التواقة لكتابة عمل متميز ودقيق، ولكنه أذن بتمثيلها في مدينة بعقوبة في عام 1977، وقد اشتركت في تمثيلها فرقتا مسرح بعقوبة، ومسرح ديالى برؤية إخراجية تكفلها المخرج سالم الزيدي.

مسرحية الإجازة تستعرض بحوارات واضحة قضايا اجتماعية واقتصادية، إطارها العام مشاكل العمل، وجشع صاحب الشركة، والوعي السياسي الأولي للعمال من خلال إشكالية موت صاحب الشركة الذي ظل البحث في أسبابه سؤالا مفتوحا ردده المؤلف في نهايتها...

إن الإطار الفكري للمسرحية هو الآخر ينسجم مع دعوة الكاتب التي ضمنها في مقدمته السابقة، وهذا يعني أن الكاتب كان وفيا لأفكاره، وتطلعاته التي أراد من خلالها أن يعلي من شأن الإنسان.

إن (بواكير) محيي الدين زنكنة تعطي فكرة مؤداها: انه بدأ مشروعه الأدبي، والثقافي جادا... هاجسه الإنسان من دون أن يخوض في جزئياته، وعلاماته الفارقة.. هذا ديدنه في البواكير، والأعمال اللاحقة التي عرف بها في العراق وخارجه.