تجربتي في الرواية والمسرح

تجربتي في الرواية والمسرح

محيي الدين زنكنة

لا أدري إلى أي مدى يمكن أن أكون مؤهلاً للحديث عن (تجربتي) الادبية وتقويمها من الناحية الفكرية والفنية، بصورة موضوعية.لاادري إلى أي مدى يمكن لكاتب، أي كاتب، بل أي مبدع في أي حقل من حقول الإبداع، أن يكون مؤهلاً للحديث عن تجربته العملية

تجربة الخلق والابداع، في عالم السحر المنحوت من الواقع، بواقعية تضاهي الواقع نفسه وتغيره اذ تسير به وترسم امامه الطريق المفضي إلى الأرحب والأسعد والأكثر انسجاماً مع الروح والضمير..

ان تجربتي وتجربته وتجربتك، ليست، بالرغم من خصوصيتها، الخاصة، اللصيقة جداً بي وبه وبك، تجارب منعزلة تسبح في جزر منفصلة، انما هي خزين حي فعال متحرك، تصب في، وتنصب فيها تجارب الاخرين، ورصيد متنام متطور من القراءات المتنوعة، في شتى رياض الفكر والعلم، ومعايشة حية مع الواقع والمجتمع.

ثم ان أي حديث عن التجربة الشخصية البحت مرشح في الغالب، للقفز من حدود الواقع المنجز، إلى التحليق في فضاء الطموح غير المتحقق. وفي آفاق الأمل المنشود متنفساً هواء الاحلام الجميلة متحرراً من ضغط الحياة اليومية وكابوسها، ومنغصاتها العديدة، التي تطبق، بمخالبها، على الروح، والتي ماتني تتناسل بشراهة الديدان الشريطية.

ان النهر الكبير، أو النهير، مثل حالي. اذ يجري سلساً رقراقاً هادئاً تارة، ضاجاً صاخباً تارة أخرى، يحفز في الحالتين حدوده ويرسم تضاريسه خارج ضجيج الدعاية والاعلان. وهما، الحدود والتضاريس، ليسا ثابتين إذ سرعان ما يتغيران، ينمحيان كلياً، أو جزئياً، لتحل حدود أخر.. وتضاريس أخر، لاتلبثان هما الاخريان ان تتغيرا وتزولا بعد عملية، أو بالأحرى، عمليات مخاض قاس مؤلم، وبعدها تكونان قد قذفتا بوليدين جديدين لايعمران، هما الآخران طويلا.

انما يتلاشيان ليفسحا الطريق ويمنحا الحياة للأجداد منهما، في عملية دائبة، لاتعرف الثبات ولا التوقف، وعبر علاقة جدلية شاملة، تشكل، بفعل التأثير، مع الارض التي يداعب النهر جلدها، أو يدغدغ أحشاءها وبواطنها وخفاياها، متغلغلاً في اعماقها، جارياً خلال اوردتها وشرايينها وسائر عروقها، وهو يشق طريقه بصبر وأناة ويخلق حياته الخاصة، على وفق الظروف الطبيعية المتغيرة، باستمرار في حرية، صائغاً معالمه واشكاله الضرورية الملائمة، بين الاتربة والصخور والجبال، أو بين الاطيان والوديان والادغال أو على وجه الأرض المنسرحة المنبسطة كباطن الكف، أو يجول كأفعى، أو أفاع لماعة بين الحقول والبساتين، والحدائق والرياض.. كما تجري السواقي.. الى حيث تدري أو لاتدري.. وفي الغالب لاتدري.. ان هذا النهر الجاري، دوماً في دنيا مكتظة بالمعلوم، نحو مكان، في الغالب مجهول، أو غير موجود، أو ليس بالوسع معرفته، وتحديد هويته بالتفاصيل المطلوبة، بالرغم من ان توقه النهائي معروف، وهو الارتماء في احضان البحر ومعانقة كل انهار العالم، المتدفقة في كل الامكنة، منذ مختلف الازمنة والمتجمعة فيه، ومن ثمة الانطلاق مرة أخرى، مع الأنهر الأخر، أو منفرداً، نحو الدنيا، لري كل بقعة عطشى، وسقي كل شجرة ضمأى، ومد الأرض، كل الأرض بالحياة والنماء.. و,, الولادة والثمار..

أقول:

ان هذا النهر، وهو في مسيرته الطويلة، الشاقة والمرهقة، لكن اللذيذة والممتعة، في الآن نفسه، التي قد يهتدي في نهايتها الى هدفه المأمول وقد يضيع.في متاهاتها، ويغور في تربتها ورملها.. ولا يبلغ هدفه ابدا. هل بوسعه ان يستجيب لرغبة تجيش في الصدر.

ان يتوقف هنيهة يتأمل مسيرته تلك. ويرنو إلى الطريق، أو الطرق التي حفرها، ويتفحص معالم الحدود التي رسمها، ويعد البقاع التي سقاها، ويفرح لمرأى الزهور التي تفتحت على ضفافه، أو يحزن لرؤية الاحراش والاشنات والطفيليات التي امسكت بخناقه، وغلت مياهه، ومنعتها من التدفق والانطلاق على النحو الذي كان يريد، ويسعى اليه.. او.. أو يأمل في الاقل!

أليس المبدع، المبدع الحق، المبدع الخلاق، خارج لغة الغرور والتواضع المصطنع، المقيتتين. هو في بعض حالاته، أو جلها، هذا النهر المتدفق بالعطاء، يستجلب ذهنه الثر، يستقطر روحه الغنية، مستعذباً عذاباته، مستلهماً حرمانه وهو يشق طريقه. أو بالأحرى يحفر طريقه، في الأرض الصلدة وبين الصخور المتحدية يسقي العطاش، يروي الظمأى إلى النور والحب والمعرفة، بما اختزن في وجدانه من الحكمة الانسانية والخبرة الواقعية.

مصارعاً الصخور التي تتصدى له في مسيرته معاركاً الاحجار التي تعرقل سيره نحو الناس. مقتلعاً الطحالب والاشنات التي تحجز عطاءه، متغلباً عليها حيناً ومغلوباً حيناً آخر، مستفيداً من نجاحاته، واخفاقاته من غير ان تنفخ فيه نجاحاته غروراً ومن غير ان تزرع فيه اخفاقاته يأساً.. وانما معتبراً الحالتين، النجاح والفشل، خبرة مضافة إلى خزين تجاربه وخبراته، الحياتية والفكرية.. ذلك الخزين الذي لايعرف توقفاً عن النمو والاتساع ولايعرف شيئاً اسمه الرضى أو الاكتفاء أو القناعة.

نشر هذا المقال في مجلة شانو (المسرح) ملف عن محيي الدين زنكنة عام 2008