صباح الانباري
هو الذي رأى كلّ شيء، ودوّن كلّ شيء، ولفت الانتباه إلى مدوناته منذ كتاباته الأولى التي رسخت صورها في أذهان القراء، والنقاد، والدارسين، والباحثين وستظلّ إلى زمن لا أحدَ يستطيع تحديده بالضبط فكتاباته في بلادي كما هي كتابات شكسبير في بلاده. كثيرة، وغزيرة، وعميقة في التصاقها مع تراجيديا الواقع المعيش.
جمعتني به، وبالناقد العراقي الكبير ياسين النصير جلسة بعقوبية فريدة في بيته، وكنت قد انتهيت من كتابة أول نص مسرحي لي، وسلّمت النص له بتواضع جم. لم تظهر على ملامحه أي علامة فرح، أو احتفاء بمنجزي الدرامي الأول. كانت ملامحه تشي بالجدية والوقار حسب، ولم أكن متأكدا من ارتقائها إلى مستوى ذائقته الرفيعة، وقراءاته الانتقائية. أتذكر أنني حين سلمته المخطوطة، أثناء جلوسنا في مشغل التصوير الذي كنت أديره في بعقوبة، توقعت منه تعليقاً ما.. دهشة ما.. خاصة وهو نصي المسرحي الأول. ودّعني مغادراً إلى بيته في الصوب الآخر من بعقوبتنا دون أن يقول شيئاً أو يعلق على أيّ شيء.
في اليوم الثاني أطل علي بابتسامته الهادئة وكنت متلهفا لسماع ما سيقوله لهفة مشوبة بقلق شديد. لم يخفِ احتفاءَه بالنص، أو رغبته في الكتابة عنه رغبة لم يمنع تحققها سوى كونه أحد أهم شخصياتها الرئيسة. قال بصوت واثق: عندما جلست في المركبة التي أقلتني إلى البيت فتحت النص، وبدأت بقراءته فشدتني أحداثه منذ السطر الأول، وعندما وصلت إلى موضوعة اختيار كاتب من بعقوبة كي يمرر (المخترع) من خلاله مخططاً لاحتلال المدينة قلت في سري، اعتمادا على سياق النص، لا بد أن صباح سيختارني أنا. وعندما تقدمت بالقراءة وجدتني واحداً من شخوصها فعلاً.. مسرحيتك يا صباح جديرة بالقراءة.
لم تكن تلك الجلسة الثلاثية إلا فرصة سانحة كي يطلب من صديقه النصير ما لم يطلبه من أحد لا من قبل ولا من بعد. أتذكر أنه قدمني له قائلاً بصوت وقور:
دعني أقدم لك صباح الذي لفت انتباهي مذ كان واحداً من طلبتي في مرحلة الدراسة الإعدادية بأسئلة لم تخطر على بال أحد من مجايليه بل أنها لن تخطر على بالهم أبداً، وتنبأت منذاك أن طاقته الكامنة لا بد أن تتفتق يوماً ما عن موهبة جديرة بالاهتمام. وهذه هي أول بادرة لنبوءتي. سلّمه مخطوطة مسرحيتي (زمرة الاقتحام) وقال له: أريدك أن تهتم بصباح كما لو انك تهتم بولدي الوحيد. طوى الضيف الصفحة الأولى، وقرأ في الصفحة الثانية بصوت مسموع: المكان والزمان: بعقوبة عام 2552 صمت كما لو أنه يتأمل شيئاً ما ثم نظر إلي نظرة أحسست أنها اخترقتني، وبهدوء قال: من أي المواليد أنت؟ قلت من مواليد عام 1952 قال قد عرفت هذا.. إنك تلعب بمواليدك في هذه المسرحية. مرة تستخدمها كما هي (52) ومرة تقلبها (25) ومن تكرار هذه الأرقام وقلبها جاء تحديدك لزمان المسرحية. دهشت لهذا الاستنتاج السريع الذي ما كان يخطر على بالي على الرغم من أنني أنا الذي حددته ووضعته أسفل عنونة المسرحية.. وتساءلت في سري إذا كان الناقد قد اكتشف منذ اللحظة الأولى سر الزمن فما بالك وهو يغور مرتحلاً في مطبات النص وخفاياه! كنت متلهفاً لمعرفة ما ستخطه أنامل ناقد متمرس في الكتابة النقدية، وخبير في الشؤون الدرامية على حاشية المسرحية، وازددت لهفة وانتظاراً لقراءة مقالته عنها في العدد اللاحق من مجلة (الطليعة الأدبية) كما أخبرني والذي لم يصدر حينها لشمول المجلة بقرار تقليص عدد المجلات التي تصدرها دائرة الشؤون الثقافية في بغداد. لقد كان وقع الخبر عليّ ثقيلاً ومؤسفاً فالنصير لم يحتفظ بمسودة المقالة، أو بنسخة جاهزة للقراءة في أدراج مكتبته لكنني لم اقطع الأمل بعد.. ذهبت إلى مقر المجلة، وبحثت مع من كان رئيساً لتحريرها عن المقالة في ركام هائل من المقالات، والدراسات، والنصوص التي تمّ فحصها أو التي لم تفحص بعد فباءت جهودنا بالفشل الذريع. كنت أرغب في لفت الانتباه الى نصي الأول عن طريق ما يكتبه ناقد كبير عن كاتب صغير ولم اعرف أن جودة أي نص لا تتحدد بحجم كاتبه وأنها هي التي تجر الانتباه اليه إن عاجلاً أو آجلاً. هكذا تعلمت هذا الدرس وحفظته حتى يومنا هذا.
في عام 1993 عندما دعت مجلة الأقلام العراقية إلى مسابقة للنص المسرحي العراقي قدمتها لهيئة المسابقة التي شكلت من أعمدة الأدب والفن العراقي آنذاك مثل الفنان القدير د. سامي عبد الحميد، والقاص الكبير الراحل مهدي عيسى الصقر فحازت على الجائزة الأولى، ونشرت في عددها 10- 11- 12الصادر عام 1994. كان زنكنة يعرف تماما ما أكنه من محبة أزلية له كشخصية لها ما يميزها عمن عرفتهم في حياتي، وكان يعرف أنني معجب بصفاته النادرة، ولا غرابة في اختياري له كواحد من شخصيات مسرحيتي التي أكدت فيها على أسطورية قوته الفكرية، وفولاذية صموده أمام سطوة (المخترع) وأساليب التعذيب التي مارسها بنذالة وانحطاط ضد إرادته التي لا تلين، وعلى عمق العلاقة التي بيننا وإنسانيتها. وكل هذا بإطار من الخيال العلمي الدرامي.
نقل لي القاص الكبير جهاد مجيد ــــ وكان واحداً من طاقم المجلة عن الناقد د. حاتم الصگر (رئيس التحرير) زعمه أن هذه المسرحية من تأليف زنكنة، وأن زنكنة أخفى اسمه عنها بدافع الخجل من طرح شخصيته فيها بشكل صريح. وما كان من جهاد إلا أن أكد معرفته التفصيلية بنشاطاتي المسرحية، وعمق العلاقة التي تربط بيني وبين زنكنة. هذا الكلام، وعلى الرغم من تضمنه على تهمة لا أحبها، دعم ثقتي من أن المستوى الذي حققته المسرحية كان كبيراً بما يكفي للشك في أنها واحدة من أعمال زنكنة الكبيرة. ترى هل قلَّدت زنكنة وأنا اكتب هذه المسرحية، وهل أردت أن أكون شبيها له فعلاً؟ لنقرأ هذا المختطف من صحيفة (الثورة) البغدادية المنشور بتاريخ 6/2/ 1994 وهو أول حوار صحفي تجريه معي صحيفة رسمية وجاء فيه ما يأتي:
على الرغم من تأكيدك المستمر على أهمية دور الكاتب المسرحي المعروف محي الدين زنگنه إلا أن نهجك في الكتابة المسرحية يختلف عنه. فأين نقاط الاشتراك بينكما وأين نقاط الاختلاف؟
)دعني أخبرك أولا لو سمحت أنني وضعت مؤلفا نقديا تناولت فيه بالدراسة والتحليل أدب محي الدين زنكنة ولكنني نظراً لظروف الطبع القاهرة لم استطع إصداره بعد. وتركت أمره إلى اتحاد الأدباء الذي وعد بطبع ست مخطوطات لفرعه في محافظتنا آمل أن يكون "السهل والجبل" واحدا منها. لقد تكشفت لي، بعد هذه الدراسة، عوالم محي الدين زنكنة الجميلة فانبهرت بها، واستمتعت بأجوائها، وأطلت التأمل في تفاصيلها حتى قدحت في ذهني فكرة تمجيد هذا الكاتب المسرحي بنص مسرحي فكتبت (زمرة الاقتحام) ولكنني كتلميذ طموح، ومجد من تلاميذ زنكنة الأستاذ والصديق سعيت دوما إلى أن يكون لي أسلوبي الخاص، وطريقتي المتفردة في الكتابة، وأن لا أكون نسخة أخرى لهذا المبدع الكبير. سعيت إلى كينونة أخرى تميّزني. وهنا أود أن أريحك أكثر فأقول أنني سعيت إلى أن أكون شبيها لمحي الدين زنكنة في كل شيء إلا في الكتابة. هذه هي حدود التشابه والاختلاف بيننا على الرغم من إقراري السابق بأستاذيته.(
عندما نشر هذا الحوار في الصحيفة إبان مهرجان بغداد الرابع للمسرح العربي قرأه زنكنة بإمعان، وعندما التقينا في أروقة المهرجان قال بتأكيد كبير: "سأعتبر كلامك هذا عهداً قطعته على نفسك" قلت والخجل باسطا نفوذه عليّ من الجبل الذي يقف أمامي شاهقاً: نعم. ولم استطع إضافة أي كلمة أخرى.
علاقتي بزنكنه إذن تعود إلى تلك الأيام من الدراسة الإعدادية يوم كان الشعر شاغلي الذي تراجع بوقار أمام جنوني المسرحي، وعشقي للخشبة التي سكنتني ولم استطع التخلص من سحرها الدرامي. منذ ذلك الوقت لم يكتب زنكنة مسرحية أو قصة أو رواية إلا وكنت قارئها الأول. ولم يمنحني فرصة لامتداح أي منها لأنه كان يريد أن يسمع مني ما لم يستطع الآخرون البوح به وجهاً لوجه إذ لم يكن في مدينتنا من هو قادر على تجاوز ضعفه وخجله أمام القامة السامقة، أمام محي الدين زنكنة.. وكان علي أن أدرّب نفسي على شيء من الوقاحة كي أتسلّح بها أمام خجلي البريء من الجبل الذي لم يسبق لأحد أن تصدّى لقامته الشاهقة. كتبت متجاوزا خجلي أول مقالة عنه عام 1993 وساهمت بها في جلسة اتحاد الأدباء التي ضمت كلا من الناقدة المعروفة بمواقفها النقدية السديدة نازك الأعرجي، والناقد الموسوعي باسم عبد الحميد حمودي، والناقد الشمولي سليمان البكري، وأنا. كنت قد اخترت عنونتها من وحي شخصية زنكنة الفريدة، وكتابته المتفردة (هذا هو محي الدين زنكنة) حين سردت ما جاء فيها أمام الحضور لم أكن أتوقع أنها ستكون مثار إعجاب بعض الأخوة من محبي النقد والأدب، وعندما أرسلتها إلى صحيفة (العراق) ونشرت على صفحتها الأدبية بتاريخ 21/ 7/ 1993 صارت مثار حديث أصدقائنا في الجلسات الليلية التي كانت شائعة بيننا وقتذاك.
إن كل من عرف زنكنة عرفه بتواضعه الكبير. ذلك التواضع الذي أقلقني، وشوشني، وجعلني أتساءل دوماً: إذا كان زنكنة بكل عطائه الفذ يشعر بهذا القدر الأسطوري من التواضع فما بالنا نحن الذين نتفيأ بظلاله الوارفة؟
لم يكن زنكنة مهتما بالشهرة، ولا بالأضواء لهذا احتاج فريق عمل من تلفاز بغداد بقيادة المخرج الفنان رضا المحمداوي إلى وساطتي، واصراري، وملحتي ليوافق على تسجيل حلقة خاصة به في برنامج (مبدعون من تلك المدن) وكانت حصتي من الحديث قد أظهرتني على الشاشة كما لو أنني ساهمت في إعداد البرنامج بقدر ملموس. لم يكن تواضعه الاسطوري وحده مصدر ذلك التشويش الذي راودني حسب بل كان زهده الابداعي أيضا فعلى الرغم من الشهرة التي سعت اليه، وما سعى اليها يوماً، كان لا يأبه بها ولا يخطط لنيلها لهذا كله دأبت على بيان كامل منجزه الابداعي في عمل ببليوغرافي شامل فرض عليّ قبل أن يأخذ شكله النهائي قراءة كل ما كتب عنه في المجلات والصحف، وكل ما كتبه في المجلات والصحف، فضلا عن كتبه المطبوعة والمخطوطة حتى اعتبرني بعض الأخوة عرّابه الأول.
كان زنكنة كما هو في كتاباته لا يساوم على شيء، ولا يتراجع عن مواقفه السديدة، ولا يتنازل عن أفكاره، ولا عن البوح بها لكنه في الوقت نفسه كان يحصّن نفسه وكتاباته ضد سياسة الرقيب وسطوته ونفوذه. ولهذا لم تستطع السلطة آنذاك أن تتهمه بشيء محدد مع علمها بحقيقة يساريته فكرياً، وتقدمية أفكاره طليعياً. أتذكر يوم وجّهت له الدعوة من مصر لحضور عرض مسرحيته (السؤال) أحيل طلب سفره على غير العادة إلى وزير الثقافة لطيف نصيف جاسم فما كان من وزير الثقافة إلا أن أحال طلبه إلى وزارة التربية والتعليم بحجة أنه كان قبل إحالته على التقاعد واحداً من منتسبي الوزارة كمدرس للغة العربية. وحين قدم الطلب لوزير التربية والتعليم أحاله بدوره إلى وزارة التخطيط خوفا من تعارض سفره مع خططها إبّان الحرب العراقية الإيرانية. وهكذا حرم زنكنة من مشاهدة عرض مسرحيته على الرغم من أنها عرضت في مصر مرتين مرة من قبل فرقة مسرح الإسكندرية من اخراج الأستاذ محمد غنيم، وأخرى من قبل فرقة المسرح الجامعي من اخراج الأستاذ صلاح مرعي. كما عرضت من قبلُ في الكويت وتونس وكانت من اخراج الفنان القدير المنصف السويسي فضلا عن عرضها في بغداد بإخراج متميز للفنان الراحل الكبير جعفر علي. لقد رفضت الوزارات طلبه في الوقت الذي لم تكن حاجة لغيره في الحصول على تلك الموافقات.
لم يرغب زنكنة، على الرغم من كل هذا، في الظهور تحت الأضواء.. وإن الكثيرين ممن أحبوا مسرحه لم يسبق لهم رؤيته وجها لوجه.. عندما قدم منتدى المسرح مسرحيته التجريبية الموسومة بـ(القطط) ذهبنا إلى قاعة العرض بصحبة القاص شوقي كريم فوجدنا القاعة ممتلئة حتى آخرها بجمهور النظارة، وهي قاعة صغيرة أو باحة لدار قديمة من دور كبار الشخصيات السياسية العراقية في شارع الرشيد على ضفاف دجلة، ولم نجد إلا ثلاث مقاعد شاغرة في الصف الأول فجلسنا عليها.. وما هي إلا لحظات حتى جاء أحدهم، وطلب من زنكنة إخلاء الكرسي لأنه كرسي الوزير.. ثارت ثائرة شوقي كريم وقال بصوت مسموع (والصوت المسموع في تلك الفترة العصيبة يؤدي إلى السجن.. و.. و.. إلخ):
"ابني هذا محيي الدين زنكنة.. ليس للعراق منه غير واحد فقط.. أما الوزير فعندنا منه الكثير اذهب للوزير وقل له هذا"
ذهب الرجل خائفاً وكأنه هو الذي نطق بغير المسموح من الكلام.. وعندما انتهى العرض وبدأت الجلسة النقدية، وتحدث فيها من تحدث طلبوا من زنكنة أن يقول كلمة ما، فبدأ بالحديث من محله، ولكن جمهور النظارة ألحّوا على مدير الجلسة أن يتحدث زنكنة إليهم من المنصة مباشرة ليتعرفوا عليه، وليروا وجهه للمرة الأولى فحقق لهم ما أرادوا.. لقد فضحت هذه المسرحية إمعان السلطة في تحطيم عجلة التعليم، ووضع العقبات الكأداء في طريق تقدمها لصنع جيش من الأميين تضمن السلطة تمردهم على الأخلاقيات السائدة التي من شأنها تفكيك الأسر وتحويل الأبناء الى رقباء أمنيين داخل كل أسرة عراقية.
لقد رحل صاحب هذه المسرحية دون أن يقول كلمة وداع أخيرة، أو كلمة لقاء في عالم مختلف.. لم يمهله المرض وقتا كافيا ليقول لولده الذي ظلّ ينتظر تحسن حاله بقلق مشوب بالخوف الى جانب سريره في مشفى المدينة التي استسلم فيها للموت بهدوء، كلمة وداع أخيرة.
في صبيحة اليوم الثاني والعشرين من شهر آب حين نهضت كعادتي عند السابعة فاجأني وجود زوجتي بعينين دامعتين وهي تحدق بالتلفاز.. وحين سألتها عمن أبقاها ساهرة حتى الصباح قالت بعد أن أجهشت بالبكاء "أبو آزاد مات".. وقفت مذهولاً لا أريم، ولا أعرف ماذا حدث أو يحدث ولا ولا ولا حتى ما اذا كان الذي سمعته قد سمعته فعلاً أم لم أسمعه اطلاقاً.
"أبو آزاد مات"
"صعقت وأنا أسمع نبأ وفاته.. هل رحل أبو آزاد حقاً؟!..هل خلَّف وراءه روحاً لم تكن تعرف من هو أغلى منها ألاه؟ وصمتّ طويلا وعميقا.
قبل أيام مرت بنا ذكرى رحيله وغيابه عنا نحن الذين تفيأنا بظلاله الوارفة.. عني أنا الذي لا يزال حزن الفراق ينخر في قلبه.. فهل آن الأوان لنغادر أحزاننا؟ عن نفسي سأغادر الحزن، وسأركن فاجعتي بعيداً، وسأرقص فرحاً أو طرباً إن جاد الزمن عليّ بمثله، أو بمن هو أغلى من الروح.