ياسين النصير
أن تكتب عن محيي الدين زه نكه نه، المسرحي والروائي و القاص والإنسان والمنتج في الثقافية العراقية، فتلك مغامرة نقدية، فما كتبه في الرواية والمسرح و القصة إضافة إلى العديد من المقالات و الدراسات في شتى شؤون الثقافة و الفكر و الفن،
يفيض على أي نقد، وما قاله فيها من آراء حول المجتمع والفكر لن تحتويه مقالة،وأن تكتب عن الجملة الفنية في مسرحه ضمن هذه الظروف الملتبسة والمعقدة التي أصابت اللغة كما أصابت الواقع بملايين القنابل والمتفجرات شيء أصعب بكثير،هذا التيار المتواصل منذ أواسط الستينيات وحتى اليوم، يفيض على مفاهيمنا النقدية خاصة وهو يتناول الظواهر الحياتية والسياسية في مجتمع متناقض القيم، مضطرب الحياة،متصارع القوى.
نحن إذن أمام مهمتين معقدتين: كاتب كتب أكثر من خمسين عملا بين قصة ورواية ومسرحية، وأمام موضوع شائك وجديد هو الجملة الفنية عبر هذه التجربة الطويلة والمتشعبة. ولكي تكون مهمتنا واضحة لن نتناول قصصه و رواياته ولا جميع مسرحياته، ولكننا سنختار للتدليل على الموضوع بعض الجمل والفقرات المقتطعة من هذا النص أو ذاك، لأن مشروع الجملة الفنية يتطلب تفرغا تاما للكاتب وهو ما لا نستطيع القيام به الآن. أما المهمة الثانية فهي إشكالية المواضيع التي تنشأ في ضواحي المدن العراقية، وليس في عمق العلاقات البنيوية لها وفي ضوء ذلك، سنعالج بنية هذه الجملة ضمن تصورات نقدية، بعضها يتصل بالمكان أي بأمكنة مسرحياته وبعضها يتصل بالشخصيات وأخرى تتصل بالأحداث، وسنجد أن ملامستنا مثل هذا الموضوع تبقى ضمن الاجتهاد الشخصي وليس حكما نقديا قارا.
هاتان المهمتان تلقيان علينا عبئا كبيرا فيما يخص بناء الجملة الفنية لاسيما وأن المؤلف ونصوصه وأفكاره عاشت تحت هيمنة القوى الاجتماعية والسياسية الضاغطة، فلحق بها ما يجعل جملته الفنية، إما أن تتجنب الصراحة فتلجأ إلى الرمز والتهويم والمواربة كما في الكثير من نصوصه الإبداعية، وهذا ما ينعكس سلبا أو إيجابا على بنية الجملة الفنية، وإما أن تكون الجملة صريحة النقد واضحة المقصد، وهذا ما يجعلها مباشرة. وقد تؤدي الظروف فيها إلى المنع والملاحقة والتهجير وهذا ما حصل للكاتب.
نشر أول نصوصه المسرحية " احتفال في نيسان" عام 1959 وآخر نصوصه المسرحية"الضحك عقابا" في تموز 2007 وهو ما يشكل موقفا واضحا من حقيقة أن للثقافة دورا في رؤية المجتمع بطريقة مختلفة عما يراه السياسي والاقتصادي والرياضي والطبيب. وهذا الدور ارتبط عمليا بتجديد الخطاب الفني للمسرحية نفسها، فمعارضة القوى القامعة تتطلب تجديدا في الأسلحة الفكرية وهذا ما وضعه المؤلف نصب عينيه حيث نجد تطورا في بنية النص المسرحي عنده تمثل في تخليص لغة وجملة المسرحية التي كتبها مؤخرا من الكثير من السردية التي لازمت نصوصه الأولى ويعني ضمنا أن مقاومة القوى الفاشية والمقنعة بأقنعة إيديولوجية قامعة تطلبت تجديدا في الخطاب الفني وهذا ما انعكس على بنية الجملة الفنية عنده.
يضاف إلى ذلك،أن الأمكنة الوسطية في العراق، ونعني بها المدن والضواحي والبلدات والقرى المتحولة، لم تستقر لا على شكل اقتصادي واضح، ولا على شكل لغوي واضح أيضاً، عندئذ تصبح الجملة الفنية التي تعالج رؤيته للحدث غير مقتصرة على ما تحتويه من تراكيب وسياقات، بل وتشمل تأثير الأمكنة على هذه الجملة.
مهمتان تحكمان سياق هذه المقالة؛مهمة أن تكون الجملة تحت هيمنة القوى الضاغطة الكبيرة سياسيا واجتماعيا، وهو ما ميز السنوات الماضية، فتغير هذه القوى من خطاب الثقافة، ومهمة أن تكون الجملة على ارتباط بمكان نشوئها. ولدى محيي تصبح المهمتان إشكالية معرفية، فهو يكتب بالفصحى المبسطة والمفهومة من قبل الجميع – وقد مثلت معظم أعماله في القاهرة والرباط ودول الخليج إضافة إلى العراق- مما يعني أن اعتماده الفصحى ينأى به عن محلية اللغة وتعقيداتها،ونتيجة لوضوح أطروحاته الفكرية فقد منعت الكثير من أعماله المسرحية في العراق، بل وهدد بمحاكمته. والإشكالية الثانية هي ارتباط نصوصه بقضايا الناس البسطاء من سكنة الضواحي والقرى والبلدات، وغالبا ما تكون هذه القضايا عن النضال والثورة والوطنية والحرية والحق والعدالة.
إذن هي مغامرة نقدية أن نقف أمام نتاج فنان ومثقف كبير،من خلال جزئية الجملة في نتاجه، فنان رفد المسرح العربي طوال خمسين عاما ونيف بأكثر من خمسين عملاً بين نص مسرحي بفصول ونص مسرحي بفصل واحد، وروايات طويلة وأخرى قصيرة،وقصص قصيرة طويلة، وأقاصيص، وما يزال عطاؤه مستمراً بالروحية نفسها. مثل هذا الكاتب قادر على أن يتحدث بلغة فنية عالية عن طبيعة المجتمع العراقي، ويتحدث عن تركيبته وأفكاره وما مرّ ويمر به، متتبعا انكساراته ونهوضه، تعرجات حياته واستقامتها، فهو ابن هذا الشعب، عاصر محنه واشترك فيها، وناله منها ما ناله أي مواطن منتم لثقافة تقدمية.
لذا فعلى جملته الفنية أن تحمل هذا كله، فالمشكلة الجذرية التي طبعت نتاجه، لا تقف عند حافة مجرد ما يحدث،أو التعليق على ما حدث،أو لتوجيه النقد لهذه الظاهرة أو تلك، وإنما للكشف عن المواقف التي تثير الأسئلة، معتمداً في بناء نصوصه طريقة تجمع بين بنية فنية أكاديمية منضبطة،مسرحيات " السؤال" و"السر" و" الجراد"، وبنية تجريبية حديثة فيها من مران كسر للقوالب القديمة،مسرحيات" حكاية صديقين" و" العلبة الحجرية" و"لمن الزهور" و" صراخ الصمت الأخرس" و"الأشواك" و"تكلم يا حجر"، وبنية تجمع بين الاثنين مسرحيات" كاوه دلدار" و"العقاب" و"القطط" و"رؤيا الملك"، فهل يا ترى ستقوم جملته الفنية بمثل هذه المهمات؟
وبما أن معظم نصوص محيي الدين زه نكه نه، كتبت قبل التغيير عام 2003، فهي تقع ضمن إطار المهمتين: القوى القديمة الضاغطة، والأمكنة الوسطية، وهو ما يغلف معظم الكتابة العراقية. في حين نشهد اليوم حالة فريدة في ثقافتنا العراقية، ربما لم تشهدها الثقافة العربية، وهي أن التغيير الذي حدث في 9 نيسان 2003، شكل ملجأ آمناً للكتابة غير المقيدة، حيث الحرية أصبحت مادة متجذرة في النصوص فتوزعت الكتابات الأدبية، خاصة النصوص المسرحية على أربع طرق:
إما للعودة إلى الماضي لتحتمي به، وقد شكل التراث، بكل صنوفه القديم منه والحديث، لها حماية مضمونة لمواصلة ما ابتدأت به في أواسط السبعينيات، وقد أخذ العمل التلفزيوني المهمة التراثية على عاتقه.
وإما العودة إلى الدين بوصفه الحال السائدة اجتماعيا وثقافيا، وهو ما نشاهده في الأطروحات الأكاديمية والنصوص الكربلائية، ومعظم نتاج هذه الظاهرة محدود القيمة والفعالية الجماهيرية.
وإما النأي بعيداً صوب الحداثة الغربية حيث الإشكالية المعرفية، تتواءم مع الحرية وثورة الشكل والبحث عن أفق لإنسان جديد،و تعتبر الطريقة الثالثة هي الأكثر حضوراً في المشهد الثقافي العراقي، خاصة أن كتابها ممن عاصروا فترة الحروب العبثية المدمرة فنشطت لديهم الذائقة الأسلوبية للنقد والسخرية والتهكم والبحث عن أشكال جديدة تنسجم وروح التمرد والاحتجاج.
وشريحة رابعة من الكتابات بقيت ضمن سياقاتها المألوفة،وهذه هي الأقل حضورا قياسا لما يحدث من تجديد في القالب الفني عموما.
نشهد هذه الظاهرة أيضا على مستوى القصة والشعر والمقالة والفنون التشكيلية والفوتوغراف. مما يعني أننا على أعتاب مرحلة جديدة. من هنا يصعب على نقدنا العراقي، الذي غالبا ما ينتظر أن يكتمل الأديب كي يتناوله، - ما عدا تلك المقالات المتتبعة للعروض المسرحية- معالجة مثل هذه الظاهرة المعقدة، ولذلك لن تجد دراسة مستفيضة عن عمل أي من الكتاب العراقيين، أو دراسة ظاهرة محددة في المسرح العراقي، كظاهرة الجملة الفنية، أو الشخصية المسرحية، أو الموضوع الفلسفي، أو الحدث المسرحي، أو النص المسرحي، فكيف بنصوص تتحدث عن جدلية المشكلات الاجتماعية والفكرية العميقة التي تعيش حال انفصام جذري بين طماح إنسان بالتغيير وموانع صارمة تحد من هذا الطماح.
كل هذه الأبعاد التي نرجوها وغيرها ستحملها الجملة الفنية للكاتب، أيا كان هذا الكاتب مسرحيا أم شاعراً أم روائياً. فنجد في الجملة ما هو بتراكيب ذاتية،لغة وبنية لفظية، وفيها ما هو بتراكيب جماعية، سجايا قوم وطريقة عيش وعادات وتقاليد يومية مألوفة، وفيها ما هو انعكاس لواقع مفترض وآخر حقيقي، وفيها ما هو تخيلي صرف، وفيها من التجريب والتجديد الكثير، وفيها من التراكيب الكلاسيكية القديمة إلى جوار الأساليب الحديثة، فتُكتب الجملة تارة بالفصحى،تجنبا للنعت بأنها لصالح فئة أو شريحة دون أخرى، وتكتب أخرى بالمحكية استجابة لواقعية الحدث والشخصية، وتقال أحياناً على ألسنة مفردة لتمثل صوتا مقهوراً، أو على ألسنة جماعة رغبة في تعميم الخطاب،أو تقال في صورة رمزية تجنبا لشرور حاكم أو رقيب، أو مباشرة بعد أن ضاقت سبل التعبير.
وكل هذه المشكلات الفنية قد وعاها محيي الدين في أعماله فجعل نصوصه كلها تنطق بالفصحى، متحدثة عن مواضيع تحركها تناقضات قائمة على العلاقة الجدلية بين الإنسان والفكر، الإنسان والبحث عن الحرية،الإنسان وقضايا العمل، الإنسان والبحث عن الموقف. هذه المجالات الجديدة وغيرها فرضت عليه أن تكون جملته بلغة فصيحة مبسطة، فما يصيب الحدث من تغييرات جذرية يصيب اللغة وبناء جملته الفنية،وما يصوره لغويا نجد صداه اجتماعياً،في تجربة اللغة الفنية عند محيي واحدة من الظواهر الإشكالية التي تعيدنا إلى جذر المسرح الشعبي،عندما تكتب الجملة بالفصحى تحيلك على مستويات القول الكوني والديني، فتعود تراكيبها وصورها إلى جذرها الميثولوجي وإلى بعدها الأسطوري، عندما تختلط فيها الحكاية القديمة بالحكاية الجديدة تحيلك إلى جذرها اليومي المباشر. لذلك كانت الفصحى المبسطة وسيلة لشمول قطاعات واسعة من الناس بخطابها، خاصة أن محيي الدين زه نكه نه يختار لجملته الفئات الوسطية المثقفة، والتي تتكلم غالبا الفصحى طريقة للتعبير اليومي، وبمثل هذه اللغة التي تتحدث بها النخبة التي قادت الثقافة العراقية في الستينيات إلى وعي التجديد والتحديث،أمكننا أن نتحدث وبصوت عال عن المشكلات في عموم العراق بالرغم من أن محيي من أصول كردية، من هنا، وترادفا مع اللغة، اختار محيي لمسرحياته مناطق تجمع بين الريف والمدينة،حتى لتضيع فيها هوية المكان وشحناته الخاصة،واختار مواقع عمومية في هذه الأمكنة تنعكس فيها الصراعات السياسية والفكرية الكبيرة، كالمعامل،والمنظمات، ودوائر الدولة،والمحلات الشعبية والسجون، والمنازل والأسواق. وتشعر بأن هذه الأحداث والشخصيات والأمكنة واللغة تمتلك جذورا إنثروبولوجية عريقة، بحيث تختلط فيها حاجات ومهمات الإنسان الحديث بالرغبة في الحرية، فاللغة الفنية التي تتجاوب مع هذه النقلات المكانية والفكرية تمنح الحدث والشخصية عمقا أبعد مما نراه في الحياة اليومية لها.
مسرحية " الجراد" مثلا عندما تحكي عن هيمنة القوى العمياء الأسطورية على تطلعات شعب ينشد الحداثة، خلال تجربة سياسية أتت على اخضر العراق ويابسه، فكانت جملته فيها مباشرة وحادة وقوية، في حين تصبح الجملة في مسرحية" الجنزير" مثلا صنو الدكتاتوريات أينما كانت وتحت أي مسمى ستكون،كأحد الجذور العميقة في الثقافة العراقية، ولذلك نجدها في المسرحية مستنسخة بدكتاتوريات أسروية ووظيفية صغيرة، فأصبحت جملتها مشبعة بالحال البيتية والإنشغالات الأسروية وتوزيع المناصب على الحاشية، مثل هذه الجمل مشحونة بأمكنة السلطة، وتجد اللغة متألقة في صورة المفكر في مسرحية" صراخ الصمت الأخرس" و"تكلم يا حجر"، وهكذا بقية أعماله، من هنا تقع على الجملة مسؤولية أن تحمل كل هذه التجديدات دلالياً، بل وتمنهجها على وفق سياق الحداثة،كأفق معرفي تحدده دلالة اللغة وليس شكلها.
من هنا لم يعد مسرحنا و- محيي في المقدمة من كتابه- كما ابتدأ، حين كان المؤلف يضع حواراً على لسان الشخصيات، ثم يقذف بها إلى خشبة المسرح، ليجد المشاهد فيها ما يسليه أو يحفزه أو يستغله، ثم يخرج العمل دون أن يحرك شيئاً.
ونظرة على الشخصية الفنية في مسرحيات محيي الدين زه نكه نه، نجدها أفكاراً معبأة بأجساد حية، فهي ليست إنسانا عاديا أتي به دون وعي مسبق بما سيقوله، وإنما هي الإنسان المشكل، الإنسان الفكرة،الإنسان الذي يثير الأسئلة ليكون بمواجهة ما سيحدث، هذا الإنسان نجده قريباً من المؤلف،أو هو من الدائرة التي يعرفها، يتغذى أحيانا بالتراث كما في مسرحية "السؤال" ويتغذى أحيانا بمشكلات الواقع الدموي كما في مسرحية " السر" و " تكلم يا حجر" و يتغذى أحيانا بالحكاية الشعبية والثورة كما في مسرحية" لمن الزهور" ولذلك، نجد هذه الشخصية تحمل أسماء تارة وبدون أسماء تارة أخرى، فهي الكائن المتحرك بين حقول معرفة متناقضة، نتعرف عليها في المعامل والوظائف والتنظيم الحزبي ومراكز الدولة، ونراها في التظاهرات والمهمات السياسية، ونجتمع معها في المقاهي والقصور، ونتعرف عليها في السجون ومدن الهجرة، وتعيش معنا محن البلاد من تهجير وقمع وتشريد وجوع،هي الإنسان الذي تتشبع به أمكنة الضواحي الشعبية، فكانت هذه الشخصيات رفيقا للمؤلف، وخدينا له، يلقن أحدها اللغة للآخر، ولذلك، سنرى هذه الشخصيات راوية تارة، ومنهمكة بمشكلات المجتمع لتروي أحداث غيرها تارة أخرى، وتقع بين بين في مرات أخر.
سيكون بالطبع مثل هذا الموضوع صعبا للغاية لأن الكاتب لم يقصد ذلك بالأساس وإنما ترشحت رؤيته عبر اختياره نمطاً معيناً من الشخصيات وضعت تاريخيا ضمن هذه الدائرة، ليرسم من خلالها صورا عن المجتمع والإنسان المثقف البسيط والمهتم بمشكلات سياسية وحياتية يومية، إنه الإنسان العراقي الذي أغرقته الحياة بمشكلاتها، فما كان منه إلا أن يخوض صراعا حاميا معها، وتطلب هذا الصراع لغة تجمع بين صوتين: صوت المؤلف المفكر والراوي الذي يعلم بكل تفاصيل الموضوع، وصوت الشخصية الذي ينبع من حاجتها الفعلية لرسم مصائرها اليومية والحياتية وبالتالي، ثمة رؤية أوسع يؤلفها الصوتان تعبر عن القضية الاجتماعية/ السياسية التي تغلف معظم نتاج كتاب المسرح والرواية عندنا. إما بمدخل عنوانات تشكل أوليات عتبات النص وهذه العتبات ليس من السهل تجاهلها في بنية النص، - نتذكر شرحه لعنوان "صراخ الصمت الأخرس- وماذا يعني لغويا ودلاليا- وإما بتركيبة لا شعورية تمزج بين المتخيل والواقعي في بنية مجتمع يزاوج بين الحكاية المفترضة والحكاية الواقعية، وهاتان الطريقتان تبدآن من العنوان وحتى آخر جملة في النص،لا تجعل القارئ حراً في التفكير المغاير لسياقهما، بل تجعله أسير تصورات متداخلة بين وقائع يريد الكاتب إعادة سردها بعد أن حدثت، وكتابة نص فني يفرض شروطه الفنية والتعبيرية الجديدة المغايرة أحيانا لسياق الحادثة القديمة،ولذلك نجد أنفسنا نصطدم بين آونة وأخرى بالمقارنة بين ما نعرفه عن الحدث وما يريده المؤلف من الحدث، ليكون النص متأرجحا بين الربط بما هو سياسي / اجتماعي، وبين أن يكون ثمة نص يستبطن تاريخا وحالات قد لا تكون حقيقية.بمثل هذه الرؤية تتحكم الحداثة بسياق جمله فنيا وفكريا وبمثل هذه الرؤية يفرض النص شخصيته الجديدة بعيدا عن سياقات الشخصيات التي أشبعت مسرحنا بالمكرفونية..
في عموم تجربة القراءة لنتاج الكاتب نستطيع أن نميز بين جملة يكتبها محيي الدين زه نكه نه وتلك التي يكتبها قاسم محمد أو عادل كاظم، شأنها شأن أي فن آخر، حيث يمكننا أن نميز بين تمثيل سامي عبد الحميد على المسرح وتمثيل إبراهيم جلال أو يوسف العاني، فحركات الجسم وطريقة أداء النص حركيا ولفظيا تختلف من ممثل إلى آخر، الأمر نفسه عندما نقرأ الجملة الشعرية للسياب ونقرأ الجملة الشعرية لأدونيس أو شيركو بيكه س نجد ثمة فروقا كثيرة بين شاعر وآخر، ليس بطريقة رسم الصورة الشعرية فقط،، وإنما في تركيبة وبنية الجملة الشعرية، والأمر من السعة بحيث تضيق الأمثلة على إيضاحه.
أشعر بأن بنية الجملة السردية أو الشعرية لدى المبدع، تبنى قبل اللغة لأنها تتصل بالكلام،هي خلاصة للتعبير عن الجذور اللاواعية في التركيبة الصوتية والجسدية والفكرية للإنسان إضافة إلى خبرة الممارسة، وأول تحديد جذري لها أنها تنطلق من بنية عميقة كائنة في جوهر الفكر الذي يؤمن الكاتب به، قد لا تفصح موضوعاته وعنوانات قصصه ومسرحياته وقصائده عنها بقدر ما تحمل هذه الجملة بعداً لا مرئيا عميقا آتيا إلى كلماته وصوره من اهتماماته الفكرية القديمة، حتى لو لم يكن الموضوع متصلا بها كليا، أعتبر تلك البنية الجذرية العميقة هي توجهات الكاتب وأرضيته الميثولوجية والأنثروبولوجية، وتتصل عمليا بطريقة تنظيم أفكاره والرؤية الجمالية التي سيظهرها لاحقا في نتاجه. أتحدث هنا عن جذور اللاأدبي في النص المسرحي.
يمكن بداية أن أنوه إلى مثل هذه الإشكالية المعقدة التي تظهر في ما نقوله دون أن نقصد إظهارها. هذه البنية اللاواعية التي تفرضها النصوص اللاأدبية تتحكم أحيانا بطريقة النطق وباللفظ وبالتراكيب، ونجد ذلك واضحا في الغناء مثلا وفي الروايات التي تكتب بالمحكية الشعبية كما فعل سمير نقاش في روايته "نزولة وخيط الشيطان" التي استخدم فيها المحكية العراقية الجنوبية وله عمل آخر بالمحكية الموصلية والكاتب محمود عيسى موسى في روايته "حنتش بنتش " عندما استخدم المحكية الفلسطينية، والكثير من أعمال نجيب محفوظ في أجزاء منها وهو يستخدم المحكية المصرية، كما نجد ذلك واضحا في المخاطبات اليومية بين الناس. وتستطيع أن تميز جملة أهل الوسط والجنوب العراقي في الشعر الشعبي كما هي عند مظفر النواب وعريان السيد خلف وسواهما مختلفة عن جملة أهل البادية كما هي عند سعدي الحديثي مثلاً.
وهكذا يمكنك أن تذهب بعيدا لتراكيب الجملة بالرغم من اصطفافها اللغوي ضمن منظومة القواعد والنحو- وسنجد أن أرضية هذه الجملة هي القاع الاجتماعي الشعبي الذي يبني تصوراته بلغة معيشة بينما تنطقها الشخصية بلغة فصحى.
ويبقى بعد ذلك السؤال الكبير من هم هؤلاء الناس الذين يشغلون القاع الاجتماعي؟ هل هم الشريحة الاجتماعية الوسطية التي تأتي لمشاهدة المسرحيات، أم هي تلك الفئة القليلة التي تقرأ الروايات والقصص، أم هم الشريحة المتنوعة الانتماءات التي تنتظم في اتجاه سياسي معين، أم هي الشعب بعموم فئاته؟ لا شك أن سؤالا كهذا لا تجيب عنه أعمال محيي الدين زه نكه نه وحدها، بل الثقافة العراقية بمجملها لما يطرحه هذا التساؤل من إشكالية معرفية تؤشرالعلاقة بين الثقافة والناس. في ضوء ذلك نجد أن معنى الجملة فنيا هو غيره في معناها النحوي والبلاغي، سواء قيلت بالعامية أم بالفصحى، ومهما كان شكل كتابتها فصيحا أم محكيا، الذي يهمنا هو الطريقة وكيفية التوصيل. وهذه إشكالية أخرى تتعلق بطريقة تفكير المؤلف، وعلينا أن ندرك أن محيي الدين زه نكه نه ونتيجة لإشكالية اللغة عنده، فهو كردي يكتب ويدرس اللغة العربية، وهو المؤلف الشعبي ولكنه لا يكتب إلا بالفصحى،ونكاد أن نقول أنه يختار اللغة الوسطى، لغة المحكي الفصيح،كي يتجنب السقوط في العامية أو الفصحى المشددة التعابير.
هل مثل هذه اللغة هي الملائمة فعلا لمثل موضوعاته؟ وهل استطاعت جملته الفنية أن تفي بأغراضها كي توصل ما يريده؟ لنخلص إلى أن الجملة الفنية هي هذا التركيب المكتمل المعنى، هي التي تختار نوعية التراكيب والكلمات التي تتناسب وسياق فكرة المؤلف في مرحلة ما، بحيث تغطي هذه الاختيارات حاجة المؤلف للتعبير عن موقف ما.