ماسينيون في بغداد عام 1907.. الحلاج بين الألوسي والكرملي والمستشرق الفرنسي

ماسينيون في بغداد عام 1907.. الحلاج بين الألوسي والكرملي والمستشرق الفرنسي

كامل داود

كتب الأب انستاس الكرملي أن لويس ماسينيون خلال ثمان سنوات، قد راجع الف و سبعمائة و ستة و ثلاثين مصنفا، كتبت بأكثر من ثماني لغات، تتصل كلها بالحلاج و اخباره و افكاره ظهرت في كتابه « آلام الحلاج « بأكثر من ثلاثة الاف صفحة.و ما كان لهذا السفر الكبير «آلام الحلاج» ان يولد، من دون مؤازرة مثقفي بغداد في بداية القرن العشرين.

و بدءًا لا بد من الإشارة الى إن علاقة ماسينيون ببغداد تعود الى شتاء عام 1907، وصلها و هو في الخامسة و العشرين من عمره مكلفا بمهمة آثارية عن قصر الاخيضر قرب كربلاء، تخفّى بزي ضابط تركي وعاش متقشفا، شكّ به الحاكم التركي واتهمه بالضلوع في مؤامرة ماسونية للإطاحة بالسلطان عبد الحميد، تعرض للتعذيب قبل ان يحكَم بالإعدام، و لكن المركب الذي كان ينقله في طريقه لتلقي حكمه، مّر من قرب طاق كسرى في المدائن حيث قبر سلمان الفارسي، كان ماسينيون مقيدا بالأغلال و مرميا في قمرة المركب، وقفت حمامة على نافذة القمرة و اخذت تهدل بصوت عذب، فسّرها ماسينيون على انها اشارة “الهية” للإفراج عنه، في هذا الوقت كان (محمود شكري الالوسي) و (علي الالوسي) يتشفعان له عند الحاكم التركي الذي قبل شفاعتهما و كفالتهما، بعدها اطلق سراحه، قضى فترة في ضيافتهما حتى برء من آثار التعذيب ، و غادر العراق برفقة الاب انستاس ماري الكرملي بعد ان تختم بخاتم اهدياه له الالوسيان ، كتب عليه (عبده محمد ماسينيون ) .

و لم يتكشّف لنا كيف تعرف ماسينيون على الآلوسيين المذكورين، حتى وجدنا ذلك عند الباحث العراقي عبد الحميد العلوجي في بحثه الذي يحمل عنوان ( ماسينيون و عامية بغداد) اذ كتب ان ماسينيون كان قد قدم بغداد عام 1907، بعد ان أرسل عميد إسرته رسالة الى الاب انستاس الكرملي، يطلب منه رعاية الشاب الباحث ماسينيون، الذي عكف على دراسة اللغة العربية في فرنسا 1906و استهوته العقائد الشرقية، واطلع على مجموعة شعرية للشاعر الفارسي فريد الدين العطار يذكر فيها شيئا عن الحلاج، ان العلوجي يصوّب ما كتبه عبد الرحمن بدوي الذي نشر في بحث له عام 1962 حول حياة ماسينون، يقول فيه: ان ماسينون قد نزل ضيفا على اسرة الالوسي، و ذلك ما يراه العلوجي مجانبا للصواب، فأن اهل ماسينيون قد أخبروا الأب الكرملي بعزم ابنهم على القدوم الى بغداد، و أوصوه به خيرا قبل ان يردها، و كان الكرملي وفيا لتعهده، و هنا ايضا لم يخبرنا العلوجي بجذور العلاقة بين إسرة ماسينيون الفرنسية و بين الكرملي !! فالعلوجي يقفز الى القول بأن الكرملي تبنى توثيق عرى العلاقة بين محمود شكري الالوسي و ماسينون ، و ان ماسينون لم يسكن مع احد منهما، وانما استأجر لنفسه دارا في الحيدرخانة في رصافة بغداد . و بقاءه فيها لم يستمر الا شتاءً واحدا ، هو شتاء 1907/1908.

لم ينقطع الاتصال بين ماسينيون و الكرملي، بعد ان غادرا العراق سوية و افترقا في بيروت، وظل الكرملي يحتل مكانة سامية في وجدان ماسينيون، و يكن له اعظم التقدير، ويظهر ذلك في استهلال اكثر من مائتين و ثمانين رسالة مكتوبة بخط ماسينيون و باللغة الفرنسية ، ارسلها الى الكرملي على مدى الثلث الاول من القرن العشرين، تبين علاقة النخب العراقية المثقفة بما يدور في الثقافة الغربية و مواجهة تشكيلها و تصويب ما يتعلق بالفكر الاسلامي ، أبان الحكم العثماني، هذه الرسائل محفوظة في دار المخطوطات ببغداد، تبنى ترجمتها الكاتب العراقي علي بدر واصدرها بكتاب تحت عنوان “ ماسينيون في بغداد، من الاهتداء الصوفي الى الهداية الكولونيالية “ ضم الكتاب مدخلاً تعريفيا و مقدمة توضيحية لمنهجه في الدراسة، و تنظير سايكولوجي حول الاهتداء الصوفي عبر التأثر بالحلاج، ثم الهداية الكولنيالية، قبل ان يأتي موضوع الكتاب الرئيسي، وهو الرسائل التي أرسلها ماسينيون إلى الكرملي، وكانت اولها مؤرخة في 14 تموز 1908، أي بعد اشهر من تركه بغداد، و يقول بدر عنها : ان اهمية تلك الرسائل تكمن في كشفها بشكل واضح و صريح عن العلاقات الثقافية و الفكرية و المعرفية بين المثقفين العرب و المستشرقين في الثلث الاول من القرن العشرين.

تبين تلك الرسائل ما يحظى به الكرملي من مكانة سامية في وجدان ماسينيون، اذ انه اعتاد ان يستهل رسائله بعبارات مثقلة بالوفاء و التبجيل، وشاعت عنده في ذلك العبارات: (ابتي المبجل و صديقي) (ابتي العزيز وصديقي) ( ابتي العزيز جدا وصديقي) وهكذا في كل رسائله، ثم يبدأ بذكر ما يريد. و كانت الرسائل تتناول شتى المواضيع الثقافية، ومنها ما يطلب فيها من الكرملي شراء كتب او ارسالها اليه لأتمام بحوثه عن الحلاج و مناقشة نتائجها، كما في الرسالة المؤرخة في 15/8/1908 التي يبين فيها ما توصل اليه بشأن الحلاج ( لاتنسى كتابي عن الحلاج، سوف ارسل لك نسخة من ادلتي على مسيحيته).

و في الرسالة المؤرخة 25/2/1913رد على مقالة للكرملي، و كان الكرملي قد نشر مقالة في مجلته ( لغة العرب ) العدد السادس من 1912 ك1 ، انتقد فيها ما كتبه ماسينيون عن مقولة الحلاج ( انا الحق ) و قدم عدد من التصويبات لما طُرِح في البحث، و في الرسالة نفسها، ردّ على طلب كاظم الدجيلي بالقول ( انه يعتمد علي ) و يظنني مليارديرا قادرا على كل شئ.

و بقدر تعلق الأمر بالحلاج، نجد في الرسالة المؤرخة في 18 تمور 1908 المرسلة الى الكرملي يقول فيها ماسينون انه قد كتب (هذا الصباح الى الآلوسيين في بغداد، فهما اللذان جعلاني افكر في الحلاج ).

و ليس هذا فحسب، و انما كان ماسينيون يراسلهما مباشرة و هنالك عدد من رسائل ماسينيون الى محمود شكري الالوسي و القاضي علي الالوسي موجودة في دار المخطوطات الوطنية في بغداد.ويعضّد ذلك قول الشيبي ان ماسينون قد كتب من المغرب في 25/7/1923رسالة الى محمود شكري الالوسي يطلب فيها معلومات عن الحلاج.

و يذكر محمد بهجت الاثري قائلا : كنت يوما في مجلس من مجالس الاستاذ “ الالوسي”، جرى فيه ذكر الحلاج، فذكرت قول الامير صديق خان فقال: هل لك ان تأتيني به لأبعث به الى لويز ماسينيون عاشق الحلاج !و ان ماسينيون يقر بفضل الآلوسيين على ما تفضلا به عليه من الافادات الجلية و النصائح الكبرى و الوثائق التي كانا يحولانه عليها؛ للوقوف على ما جاء في كتب القوم عن الحلاج، ذلك الصوفي البغدادي الشهير، على حد وصفه.

و قد نشر فاضل عباس العزاوي، نجل المؤرخ العراقي عباس العزاوي ، في مجلة المورد التي تصدرها وزارة الثقافة والاعلام العراقية، رسالة ارسلها ماسينون الى ابيه، وقد استعان بمن يجيد الفرنسية لترجمتها، يطلب فيها ماسينيون من العزاوي بحثا، و يعده بالإشارة اليه اذا نشره في كتابه، وقد انهى رسالته بالتحية الاخويـــــــــة(( للزميل المحترم و الاستاذ العزيز)، و كباقي رسائله ختمها بختمه المعروف ( عبده لويس ماسينون ).

دأب ماسينيون على مشاركة النخب الثقافية البغدادية نشاطاتها و فعالياتها عند زياراته بغداد، و غالبا ما تدور النقاشات حول المواضيع المتعلقة باهتماماته الصوفية، فقد عقدت في صباح الجمعة 27/4/1945 مناظرة بينه و بين عباس العزاوي ، مكانها دار الكرمليين، بوجود انستاس الكرملي وعدد من مثقفي بغداد، وفيها اختلف المتناظران حول الحلاج، اذ يراه ماسينيون موحدا و من اهل العشق الالهي، فيما يراه عباس العزاوي مؤمنا بفكرة وحدة الوجود، و دليله في ذلك ان الحلاج يقول في الطواسين “ ان جحودي لك تقديس ...” و يبدو ان ماسينون قد تأثر بهذه المناظرة، فهو يعرج على ذكرها بمحاضرته في اليوم التالي التي قدمها على “ قاعة الشعب” والتي كانت تسمى قاعة الملك فيصل، مشيرا الى ان المناقشات و الجدل مستمران في بغداد بهذا الصدد منوها الى مناظرته مع عباس العزاوي، و قد اختلفا ايضا، على تاريخ قصر الاخيضر، الذي عده ماسينيون بناءا ساسانيا وكان العزاوي يؤكد اسلاميته من خلال الطراز المعماري للمحراب

تفاعل المثقفون البغداديون مع افكار ماسينيون، و أثرت بحوثه و حواراته المباشرة على الحياة الثقافية اليومية، وظهرت في الكثير من نتاجاتهم الادبية و الفكرية، و أخذت شخصية الحلاج التي ابرزها ماسينيون تشرأب في وجدان الشعراء، فقد كتب الشاعر جميل صدقي الزهاوي ملحمته الشعرية “ثورة اهل الجحيم “ 1929، و اسماها “الحَلّاج يسأل الله».

عن بحث : المستشرق ماسينيون و مصادره البغدادية في كتابة سِفْر الحلاج