عباس بغدادي
في اوائل العشرينيات حصلت فوضى كبيرة في الشارع على اثر اعلان عن تبديل نظام السير من اليمين إلى اليسار فقد كان السير سابقا وفقا للنظام البريطاني الذي يكون فيه مقود السيارة إلى الجهة اليمين كما هو متعامل الآن في أكثر انحاء انكلترا والبعض القليل من دول الكمنولث
وقامت شركة (كوترل وكريك) و (بيت يوسف سعد) و (الاسطى سلمان الميكانيك) (صار بعدئذ المسؤول عن ميكانيك سيارات الشفروليت) عند بيت لاوي والاسطى أحمد في الميدان بعملية نقل مقود السيارة من اليمين إلى اليسار بنجاح غير كامل، اما الاضطراب فكان في العربات لان الخيل المعتاد في جهة اليمين من العربة لا تعرف كيف تتحرك وتسير إذا ربطت على جهة اليسار وكذلك العكس وحصلت المصادمات وسقطت الخيول في الشارع وبعد شهر أو أكثر استقام الحال واعتادت الخيول مرة ثانية على سحب العربة بسهولة ويسر.
لم يكن في شارع الرشيد شوارع فرعية إلا بعض الشوارع المؤدية إلى نهر دجلة بل كانت هناك طرق مثل طريق الصابونجية في الميدان وطريق العباخانة في سيد سلطان على طريق باب الشيخ وكانت المشكلة الكبرى تقع يوميا في الشارع أثناء عبور العربات على الجسور في أيام الفيضان حيث يكون الجسر أعلى من مستوى الشارع ولا يستطيع سائق العربة ايقاف الخيل على مثل هذا المنحدر حتى إذا استطاع وجذب اللجام بقوة فان الخيل تتزحلق بسبب نعومة النعلجات تحت حوافرها لذلك كان يحصل الاصطدام بالسيارات وبالناس وذهبت ضحايا كثيرة آخرها قرب باب جامع الامام الاعظم حيث اصطدم ( اوخ ) العربة وهي الخشبة الطويلة التي تربط الحصانين بالعربة بمؤخرة إحدى سيارات الباص الصغيرة وتهشم الزجاج الموجود بالجهة الخلفية من السيارة حيث قتل صبيان ذبحا بالزجاج وجرح آخرون .
كانت المنطقة المحصورة بين باب الاغا وراس القرية أكثر المناطق ازدحاما بالناس والكدش والعربات والحمير المحملة بالبضائع والرقي والبطيخ من شريعة المحكمة أو شريعة الجسر، لأنها هي قلب المنطقة التجارية في بغداد وقد حاولت الحكومة مؤخرا إصلاح الحال ومنع العربات من المرور في الشارع ولكنها لم تفلح وآخرها الأمر الذي أصدره ارشد العمري أمين العاصمة بان على سواق الحمير والكدش بان يقودوا أكثر من ثلاثة دواب في آن واحد فازدادت المشكلة تعقيدا بكثرة السواق ومعاركهم. ثم بدأ بعد منتصف العشرينيات مشروع تبليط شارع الرشيد ايام كان (نشأت السنوي) أمينا للعاصمة وبدأ التبليط بالتعديل أولا، ثم فرش الرمل والحصو الناعم ثم المشبك الحديدي (بي ار سي) ثم التبليط باليد وبالشيبك الخشبي المدهون بالنفط الأسود كي لا يلتصق بالجير واستمر التبليط شهورا طويلة وكان من ضحايا التبليط امين العاصمة نفسه حيث نقل من منصبه إلى محل اخر وما ان انتهى التبليط حت أصبح شارع الرشيد المتنزه الأمثل لأهالي بغداد وخصوصا سكان الكرخ والسعيد منهم من يحصل وقت العصر على محل خال في تخت أحد المقاهي المشرفة على الشارع ليتفرج على الرائحين والغادين من الناس الذين لاهم لهم سوى التفرج بعضهم على بعض أو انتظار مرور عربات الغانيات من الميدان إلى الباب الشرقي في عربات مكشوفة وهن سافرات ومن الطبيعي ألا تخرج غانية منهن إلا إذا كانت ذات جمال واشتهرت منهن (زهرة عجم) التي قد تكون إيرانية من نسل بقايا عجم محمد الذي سيطر على بغداد في أيام العثمانيين هو وامه واخوته الراقصات المغنيات واشتهرت كذلك سليمة باشا وصبيحة كسرى وخديجة بيدي وكانت الحكومة قد أصدرت امرا يقضي بان تلبس الغانيات ثيابا وعباءات وجواريب لونها ازرق غامق تميزا لهن عن باقي النساء كما أمرت ان يجلس خادمها بجانب العربنجي وان يلبس عرقجيناً اصفر اللون واستمر الحال أكثر من سنة وهن بهذا الزي حتى زال تدريجيا وبدا الناس يعمرون أملاكهم الواقعة على الشارع، اما بشكل مقاه أو دكاكين أو مخازن (مغازات) أما في الاعياد أو في المراسيم الملكية أو في قدوم زائر اجنبي، فليس من السهل ان يجد الإنسان موضع قدم اذ تكون بغداد بأجمعها وسكان الالوية قد تجمعت في الشارع .
اما التاكسيات فلم تبدأ العمل الا في منتصف العشرينيات واول من بدأها سيارات الفيات الصغيرة ثم كثرت بعدئذ وادت الشكوى من ضيق الشارع وعدم استيعابه لوسائط النقل ففتحت الحكومة مؤخرا شارع (غازي) الكفاح وشارع الامين العرضاني للعبور من والى الكرخ وشارع العباخانة بعد ان هدت البناية المقابلة لجسر مود تماما والتي كان يشغلها بائع العرق الشهير يعقوب طيارة وبجانبه محل حافظ القاضي وقد اصطدت مرارا العربات القادمة من الكرخ على جسر مود بدكاكينهم وبالزبائن ثم بلطت الحكومة شارع الميكانيك مقابل جامع السيد سلطان علي وشارع باب الشيخ والشارع المؤدي إلى محطة قطار بعقوبة فخف الضغط على شارع الرشيد بصورة نسبية وحدثت المشكلة الكبيرة حين فتح شارع غازي ذلك أن أمين العاصمة ارشد العمري (وذلك في الثلاثينيات من هذا القرن) قرر ان يكون شارع غازي واسعا من ساحة قنبر علي حتى ساحة الصدرية أما الجانبان الآخران فقد بقيا ضيقين بينما أصر المهندسون الذين استخدموا لهذا الغرض ان يكون الشارع عريضا ذا ممرين من بدايته حتى نهايته تحسبا للمستقبل واصر امين العاصمة على رأيه وقال في مؤتمر صحفي ان اهالي بغداد صاروا طماعين يريدون ان يقبضوا عن عقاراتهم المستهلكة مبالغ قد تصل إلى مئة الف دينار لكل طرف من الشارع وهو مبلغ باهظ لست مستعدا لأدائه، وكان عنيدا بطبيعته واستقال المهندس احتجاجا على هذا العناد الذي لا لزوم له وبرهنوا له انه سوف ماتقبضه الامانة من بيع املاكها على الرصيف يسدد مبالغ الاستملاك واكثر وترك المهندسون العراق كما تركوا عنق الزجاجة في نهاية الشارع حتى اليوم.
اما الباصات فلم تبدأ عملها الا في نهاية العشرينيات وقد بدات بالباصات الكبيرة التي عملت في بغداد وكانت اجرة الراكب من باب المعظم إلى الباب الشرقي عانة واحدة وصارت اربعة فلوس بالعملية العراقية الجديدة وكانت تعمل بين الباب الشرقي وباب المعظم فقط وفي الثلاثينيات ظهرت الباصات الصغيرة واشتغلت بين بغداد والكرادة والاعظمية وبالرغم من فتح شارع غازي فقد بقي شارع الرشيد هو المتنفس الوحيد لبغداد ومركز نشاطها وتظاهراتها وهوساتها ومواكب العزاء والمسرات فيها وكثرت السيارات في اواخر العشرينيات وبقي نظام المرور غير مرتب وكانت السيارات تسير على وفق هواها والمنبهات والابواق و (الطواطات) المربوكة على جهة السائق تزعج الناس والعطل الدائم للسيارات والخيل الجانحة للعربات لذلك فقد صدرت أنظمة وتعليمات إلى شرطة المرور في الشارع وكانت مؤلفة من مفوض شرطة وبضعة أفراد وفي الثلاثينيات صدر نظام المرور وزاد افراد الشرطة وعين معاون مدير شرطة مرور لادارتها ونيطت بها أيضا مهمة التصديق على متانة وسلامة اللوريات التي تنقل البضائع والركاب إلى خارج العراق وبدأ امتحان سواق السيارات لإعطائهم الإجازة القانونية وكان الاختبار يجري في الزقاق الواقع خلف جامع السراي, أما السرعة داخل المدينة فممنوع أن تتجاوز 15 كيلومتر اما خارج المدينة فتكون 25 كيلومتر وكان معدل هذه السرعة في ذلك الوقت عاليا ثم انتشرت شركات استيراد السيارات فكانت شركة شفيق عدس تستورد الفورد وشركة كتانة تستورد الدودج والبلايموث ويوسف سعد للبكارد والمهدسن والناس وبيت لاوي للشفرولية واخواتها وبيت داود ساسون للسيارات الإنكليزية موريس واوستن وفنكارد وغيرها اما السيارات الألمانية فكان يستوردها جورج عبديني .
عن كتاب ( بغداد في العشرينيات )