عن الحلاج والشيبي وغروب الدرس الصوفي

عن الحلاج والشيبي وغروب الدرس الصوفي

قاسم محمدعباس

حينما وصلني نبأ رحيل أستاذي وصديقي كامل مصطفى الشيبي، قضيت وقتا طويلا أستعيد فيه مسيرة صوفي وباحث يشكل حلقة أخيرة من نهاية عصر ازدحم بالجدل والإبداع والتجديد، فبموت الشيبي يمكن القول إن مرحلة من مراحل الدرس الصوفي تقفل نهايتها على مشاريع كبرى ارتبطت بالحلاج والسهروردي والنفري، وبمساحات مجهولة من تاريخنا عموما.

الذي أنشأ تلك العلاقة بيني وبين الشيبي هو أحد هؤلاء العظام الذي تفرغ الشيبي لدراسة آثاره سنوات طويلة من حياته فالحلاج الذي جمع بيني وبين الرجل ظل حتى آخر لقاء بيننا هو هاجس الشيبي، فكما لم يكن الحلاج من الشخصيات التي تحتمل ان نخضعها للمقولات المألوفة كان الشيبي أيضا مثيرا للكثير من الجدل في طروحاته التي اتخذت من إعادة النظر في تاريخنا وتاريخ نشوء الحركات والمفاهيم والتصورات، فأعاد قراءة الكثير من تلك الأفكار والمواقف،الأمر الذي أدى إلى نشوء هجمة عنيفة حين صدور كتاب الصلة بين التصوف والتشيع،، ولم يتوان الشيبي عن عرض أفكاره بكل جرأة وشجاعة معيداً النظر في كل تفصيل بروح باحث مهووس بالحقيقة وحدها.

وكانت رحلته مع التصوف قد بدأت فعليا بعد أن شد الرحال الى آداب الإسكندرية ملتقيا بابي العلا عفيفي وهو أحد كبار دارسي ابن عربي، وجمعتهما علاقة وثيقة كان محورها الدرس الصوفي، فقد توفر للشيبي أن يتتلمذ على يد كبار العلماء فمنذ بدايات حياته في كتاتيب الكاظمية توفرت للشيبي رحلة علمية توجها بحصوله على الدكتوراه على يد المستشرق آربري الذي تابع معه اطروحته للدكتوراه، وكان الشيبي في كل تلك الانعطافات العلمية يتحرك بين فضاءات جيل من كبار المستشرقين والعلماء.

لقد وجد الشيبي في نفسه نزوعا كبيرا لدراسة كل ما هو مسكوت عنه ومجهول في تراثنا، وخلف لنا تراثا كبيرا ومهما توزع بين التصوف والفنون الشعرية والفلكلور.

عندما زرته المرة الاخيرة استأمنني الشيبي على ثلاثة كتب اعدها الآن للصدور عن المدى، أود هنا التعرض لحكاية واحد من هذه الكتب الذي طلب مني كتابة مقدمة له، فقد جمع الشيبي اشعار الموت في التراث العربي، وطلب مني أن أؤخر نشره قدر ما استطعت حتى يلتحق بالرفيق الاعلى، وبعد ان حاولت الاعتذار عن تحمل مسؤولية كبيرة كهذه، بفهم انه لا يتوفر لي تقديم كتاب لباحث باسمه وحجمه، ولعلامة كبير بمستواه، فاعلمته بحراجة الامر وانني حقيقة اشعر بالحرج من تقديم كتاب له، قال لي: كنت أتمنى ان تكون مقدمة كتابك عن موت الحلاج مقدمة لهذا الكتاب. اعتقد انك ستكتب مقدمة هذا الكتاب انا اطلب منك ذلك،فصمت وامتثلت لطلبه. فاتفقنا على ان اكتب مقدمة عن فكرة الموت صوفيا لهذا الكتاب.

اليوم وقد تلقفت يد الموت حياة الشيبي أجد نفسي في مأزق كتابة رثاء عن موت صديق واستاذ لم يدخر جهدا لتيسير الطريق أمام تلامذته، ولم يتكاسل عن ابداء ملاحظاته او يـتأخر في الاجابة عن أسئلتي الكثيرة.

ستبقى صورة ذلك اليوم الذي حملت فيه نسخة كتابي عن الحلاج اليه يوما مهما في حياتي

يذكرني بمشهد طالما حلمت أن احياه بالقرب من باحث أصيل، وتلمست فرحه بصدور الكتاب وبدا فرحا لتعلق الامر بالحلاج، واكن الامر بالنسبة لي بمثابة مباركة للكتاب حقيقة، بفهم انه لا يحق لي اصدار شيء عن الحلاج دون استشارة استاذ جليل منح حياته قاطبة للدرس العلمي،وهو من القلائل الذين يحق لهم الحكم على الكتاب.

لقد بقي الشيبي وفيا للدرس الصوفي لم تتجاذبه تيارات التغيير السياسية، والانعطافات التي مرت بها البلاد، انه باحث بقي مخلصا للدرس وحسب، ولم يكن ليتحرى سوى الحقيقة التي لا ينشغل بها سوى طائفة من العلماء يتعالون فوق المصالح والتجاذبات، فقد كان الشيبي نموذجا لا يختلف عليه في هذا الصدد، واظن ان تلامذته في الجامعة قد لمسوا الحقيقة بوضوح.

اتذكر خطواتي المترددة وانا احمل اليه كتابي: الحلاج الأعمال الكاملة، مع فرحي الذي كان يغمرني وانا احمل نسخة من كتابي إليه، كنت لا اخفي حرجا من أنني كمن يحمل الماء لسقاء بغدادي أصيل.

اتذكر ذلك اللقاء وكيف تلمس غلاف الكتاب بصدق، وهو يقول:كتاب آخر عن الحلاج، دار بيننا كلام طويل عن الكتاب، وتوقف هو عند فكرة جمع الحلاج في كتاب واحد، وكان يميل الى فكرة ان هذا الكتاب لو كان قد صدر في وقت سابق لكانت له قصة أخرى، اتذكر الآن انه يستحق منا ان نعيد النظر في أدبيات الرثاء، فقد تحدث عن الموت،وتورط الاحياء به،

ولي عودة اخرى لرثاء استاذي الشيبي فالحديث بهذه العجالة عن شخصية كالشيبي يتطلب مقاماً آخر وحرية أكبر لكنني أراه محلقا بروحه العظيمة في فضاء الشوينزيه تحف به ارواح هؤلاء العظام وهم يستقبلون سالكا كبيرا لطريق التصوف، ررحم الله ابا طريف، الذي أقفل بموته حكاية عصر بأكمله، وأنهي على يديه صياغة درس امتد لاكثر من نصف قرن.

لتعد عليك الصباحات والمساءات يا ابا طريف بالسلام والسكينة ما اشرقت شمس وتنفس صباح.