جابر بكر
أكثر ما يثير الدهشة وأنت تبحث عن اسم كامل مصطفى الشيبي، أن جلّ من كتب عنه هم تلامذته أو أصدقاؤه، ومن هنا يمكن لك أن تُقيّم حجم انتشار الاسم وشهرته، والواقع أن الأكاديميين الباحثين أصحاب الطباع الصارمة لا يتحقق لهم شرط الشهرة. فبُعدهم عن الإشكاليات السياسية والثقافية بالمعنى السطحي للكلمة، يتركهم بعيدين عن أقلام التشهير أو المديح.
ربما اختلف الباحثون في بعض دراساته كبحثه عن التصوف وأثره في التشيع، وتعمقه في شرح أصول الدولة الصفوية في العراق وإيران اليوم، وبالذات في شمال الأولى وجنوب الثاني، وسيطرتها على الحكم في تلك البلاد، وصراعها مع الدويلات العربية التي ولدت في فترات متباعدة، واستعادة الصفوية السيطرة على تلك الإمارات التي حاولت أن تؤسس لحكم عربي في أرضها، وذلك من خلال تعميق انتشار التيار الديني الصوفي من خلال مسائل مختلفة كعصمة آل البيت، ما أنتج تقديسا لمقامات الأئمة الإثني عشر وبالطبع لمقامات كل من الحسين والحسن وكل من يمتّ إليهما بصلة، إلا أن كامل مصطفى الشيبي ترك فراغاً في الثقافة والوعي العراقيين والعربيين عموماً لا يمكن سدّه بسهولة.
حلاج بغداد المعاصر
نقل عنه الدكتور جعفر عبدالمهدي، حديثاً دار حول بحث نشره الشيبي في مجلة تراثية عراقية بيّن فيه، أن عصمة الأئمة عند الجعفرية هي نظرية أدخلت لاحقا على الفكر الشيعي خلال القرن السابع الهجري وذلك أثناء انتقال الحوزة العلمية من النجف إلى الحلّة، ففي تلك الحقبة تعرض الشيعة إلى أبشع أنواع الاضطهاد من قبل أنظمة الحكم السائدة، ما جعل عامة الناس تتشبث بأضرحة الأئمة إلى درجة كبيرة جداً، ودفع رجال الحوزة الحلية إلى أن يجتهدوا في نظرية العصمة، لكي يقطعوا الباب على الألوهية، أي خوفا من تأليه الأئمة من قبل عامة الناس، وبحسب ما نقل الدكتور صاحب، فإن أحد أسماء الشيعة المعروفة حينها اتصل بالشيبي وعاتبه على نشر مثل هكذا بحث، فقال له الأخير أليس هذا القول حق؟ فرد المتصل بنعم، فأجابه الشيبي إذن لماذا نخاف من الحق.
هذه الحادثة تعطي تصوراً عن طبيعة الإنسان الذي عُرف فيما بعد باسم حلاج بغداد المعاصر، وذلك لدوره الكبير في تحقيق كتابات الحلاج ونشرها فلا يمكن لك أن تبحث في تاريخ التصوف إلا وتمر على اسم الشيبي في باب التحقيق، والواقع أن هذا الاسم الذي التصق به، دفع الناس لإغفال أعماله الأخرى في اللغة العربية والثقافة الشعبية، وغيرها من الأعمال المميزة وهي كثيرة لا يمكن تناولها جميعا في مقال واحد، ولكن بمحاولة متواضعة لرسم خريطة هذا الإنتاج يمكن الانطلاق من كتابه "الصلة بين التصوف والتشيع" والذي تناول فيه العلاقة بين التصوف والتشيع وفق نظرة تأريخية تحليلية باحثة ومدققة وفق الاتجاهات الفكرية التي ظهرت في الحياة الإسلامية، ومن مؤلفاته أيضا "ديوان أبي بكر الشبلي" جعفر بن يونس المشهور بدلف بن مجدر، ويرى هنا الشيبي أن الشعر الصوفي للشبلي فيه الكثير من النفحات الوجدانية وهو نموذج الشاعر الصوفي المهتم بجمال اللفظ والمتعمق لقلب الوجدان الإنساني ومشاعره، كما صدر للشيبي "ديوان الدوبيت في الشعر العربي" وهنا تبدأ بتلمس مسار اهتمام الشيبي بالتراث الأدبي العربي، وأشهر ما صدر للشيبي "ديوان الحلاج"، وهو كان في مركز اهتمامه فجمع أخباره وأشعاره وآراءه ومذهبه الصوفي، ومن ثمة أصدر شرحا لديوان الحلاج.
آخر ما أنتج الشيبي "صفحات مكثفة من تاريخ التصوف الإسلامي" والذي كتبه وهو في عمر السبعين، ويقول تلميذه حسن مجيد العبيدي عن كتابه هذه، إنه "قد أُنجز من قِبله بشكلٍ مغاير عن بقية كتبه السابقة، سواء في المنهج أم في الموضوعات التي تناولها بالدرس والتحليل فيه. إذ وضع فيه خلاصة علمه ومعرفته بالتصوف ومنهجه الذي اختطه لنفسه"، وهو يؤسس لمدرسة فلسفية عراقية معاصرة في الدراسات الصوفية المقارنة، إذ يقول في مقدمة هذا الكتاب "إنه كتاب غريب بين كتبي، إذ هو الكتاب المدرسي الأول الذي يكرر ما سبق أن قيل ويبسطه ويتحرى أن يكون قريباً من الأذهان بغير مفاجأة أو إزعاج"، ولكن سرعان ما يقف الدكتور الشيبي عند هذه النقطة التي أشار إليها ليقول: إن ما أتوق إلى تحقيقه منه أن يغني عن المراجعة والتحقق مما فيه مع علمي بأن شيئاً كهذا بعيد المنال في حالِ كتابٍ مثل هذا.
ويتابع العبيدي تفصيل كتاب الشيبي ومحاولة فهم ما يمتاز به، فقد صدر برأيه "بعد أن تغيرت المواقف الفكرية والسياسية في العالم الإسلامي بعد انهيار المنظومة الشيوعية في أوروبا الشرقية، وكأنه كان يتحسس ذلك في كتابه هذا وفي آخر نص منه إذ يقول "إن غياب التنافس الذي أحدثه سقوط الشيوعية ودولها في أوروبا الشرقية وظهور منطقة الفراغ التي ملئت بالنشاط الإسلامي المنظم الذي يقف عند حد تبادل الآراء، بل استمر هذا النشاط في حدته وتطرفه حتى ألّب الحكومات العربية والإسلامية عليه، ما جعل هذا النشاط هدفاً رئيسياً من أهداف الحكومات، فأُفسح المجال للتصوف ليخفف من هذه الحدة ويسبغ شيئاً من المرونة والتّواد والتفاهم بين الجماعات المتصارعة والمتنافسة على قيادة المجتمع والمستقبل القريب سيبين الدور الذي يدّخره له".
الحديث عن الشيبي لا ينتهي بعشرات السطور، ولا يمكن له أن يكون مختصرا في مقال، ولكن الشيبي يفتح الباب واسعاً أمام أسئلة عن دور الباحث العربي الذي نبش في التراث العربي وميزه عن باقي أشكال التراث التي ورثتها المنطقة نتيجة تغير القيادات السياسية فيها، وكان الشيبي خلافا للكثيرين من أبناء عصره باحثا دقيقا صادقا مباشراً في طرحه للمعلومات، مؤمناً بالهوية العربية ولا يلتفت إلى المسألة الدينية أو الطائفية إلا بشكلها البراني أو ما يمكن أن نقول عنه بأنه لا يعتني بالانتماء الديني بقدر الانتماء الثقافي العربي والدفاع عن هذا الانتماء الذي يمكن التأسيس له ولكن بعد فهمه بشكل أكثر جذرية، وبطريقة تخرجه من سياقات المهازل العبثية والنقد السطحي لبعض الآراء المسبقة. فقد استطاع الشيبي أن يُصدّر المسألة الصوفية وكان رسولاً للبحث وترك انطباعات بين طلابه وزملائه يمكن اختصارها بكونه إنساناً عربياً صادقاً وواضحاً في انتمائه، ولكن كم لدينا من أمثاله اليوم؟
الشيبي الكاظمي العربي
هذا العربي، الباحث المجدّ والملتزم، ولد في العام 1927 بالكاظمية في العراق، وأكمل دراسته الجامعية الأولية في جامعة بغداد ونال من جامعة الإسكندرية عام 1958 شهادة الماجستير من قسم الدراسات الفلسفية وحصل على شهادة الدكتوراه في الفلسفة من جامعة كامبريدج في بريطانيا عام 1961 تحت إشراف المستشرق الشهير آرثر جون آربري رئيس قسم الدراسات الشرقية فيها.
عمل الشيبي محاضراً بجامعة بغداد منذ مطلع ستينات القرن الماضي وتدرج في ترقياته العلمية فيها حتى نال لقب الأستاذية ثم منحته لقب أستاذ متمرّس، كما عمل الشيبي بجامعة هارفرد في الولايات المتحدة الأميركية لمدة سنة واحدة بصفة أستاذ زميل، وفي أوائل سبعينات القرن المنصرم عمل في الجامعة الليبية (الفاتح حالياً بزمن القذافي) ومن ثمة عاد إلى العراق، لكن ونتيجة الظروف العراقية العسكرية والسياسية والاقتصادية، عاد الشيبي إلى ليبيا فعمل لمدة عام بجامعة الفاتح بعدها تحول إلى قسم الفلسفة بجامعة السابع من أبريل في الزاوية، ووصفه تلاميذه بالأستاذ المرح النشيط والمقارب لكل المحرّمات بالطروح الفكرية بطريقة الدعابة.
لم ينل طرحه في المسألة العربية، حقّه من التناول، وكذلك محاولاته للفهم العلمي والبحثي لتاريخ العراق والمنطقة عموما والتمييز بين مفهوم الدولة الدينية وبين مفهوم الدولة القومية ذات اللبوس الديني أو الطائفي، وأثر التيار الصوفي الصفوي على الدول التي ولدت في العراق بعد الغزو المغولي لتلك البلاد التي كانت يوما حاضنة للحكم العربي، ومحاولات العرب إعادة بناء دويلات أو ممالك أو إمارات وتمكن التيارات الصوفية الشيعية الإثني عشرية بمختلف ألوانها من دخول هيكليات تلك التجارب والسيطرة عليها، اليوم كم يحتاج العرب أمثال الشيبي، ليكونوا بداية لبناء فهم دقيق لهذا الميراث الكبير لتاريخ هذه الأمة.