الدكتور كامل مصطفى الشيبي مفكر تقدمي وفيلسوف مجدد

الدكتور كامل مصطفى الشيبي مفكر تقدمي وفيلسوف مجدد

د.جعفر عبد المهدي صاحب

في يوم الأثنين 2006/8/4 توقف نبض قلبه وغادر الدنيا عن عمر يناهز التاسعة والسبعين عاماً، لكن ذكراه لم تمت بل بقيت محفوظة محفورة في أفئدة زملائه وأصدقائه ومحبيه وتلامذته وقرائه.فهو الباحث العالم الذي ترك وراءه نتاجاً علمياً زاخراً بالعطاء أثرى به المكتبة العربية والعالمية في مجالات الفلسفة واللغة والتراث والتصوف بشكل خاص.

كنت وعائلتي أقضي عطلة الصيف في القاهرة عام 2006 شعرت بهاجس معين تجاه صديقي الدكتور الشيبي فاتصلت ببيته هاتفياً فكانت على الخط زوجته السيدة سماح ام طريف فعندما سألتها عن أبي طريف شعرت بأنها حزينة لكنها فرحة لاتصالي، أعطته الهاتف قائلة له هذا فلان معك. وتكلم معي بكل رباط جأش وأسمعني ضحكته المعهودة واسترسل بالكلام بكل بشاشة، ومع ذلك شعرت بأنه في حالة صحية حرجة. وبعد يومين من تلك المكالمة قرأت على شاشات معظم الفضائيات العراقية نبأ وفاة العلامة الشيبي.

ولد الدكتور كامل مصطفى الشيبي في الكاظمية - بغداد في 6 /5/ 1927 وأكمل تعليمه الإبتدائي والثانوي في الكاظمية والأعظمية، وأكمل دراسته الجامعية الأولية بقسم اللغة العربية بجامعة الاسكندرية عام 1950، ونال درجة الماجستير في الفلسفة الاسلامية من جامعة الاسكندرية أيضاً سنة 1958، وحصل على شهادة الدكتوراه من جامعة كمبردج سنة 1961. بدأ عمله الجامعي في كلية الاداب بجامعة بغداد سنة 1961 استاذاً للتصوف وعلم الكلام وتدرج في نيل الالقاب الأكاديمية حتى منحته جامعة بغداد لقب أستاذ متمرس، تنقل في مصر وليبيا والولايات المتحدة استاذاً زائرا ومنتدباً وباحثاً.

في النصف الأول من تسعينيات القرن الماضي، بعد أزمة الكويت، ونتيجة للوضع الاقتصادي الصعب الذي مر على العراق توجه الدكتور الشيبي الى ليبيا وعمل سنة واحدة في جامعة طرابلس بعدها جاء الى جامعة الزاوية، يوم كنت رئيسا لقسم الدراسات الفلسفية والعقائدية. وقدم طلباً للتعين في القسم، فقمت بتهميش الطلب بما يلائم ومقامه العلمي الأكاديمي واصطحبته معي على الفور الى عميد الكلية صديقنا الشاعر الليبي الدكتور أبو القاسم خماج واعطيته نبذة مختصرة عن شيخنا الشيبي فوافق على تعيينه دون تردد، وهو بدوره أخذ الطلب باليد واصطحبنا معه نحن الاثنين الى رئيس الجامعة ليتمم قرار تعيينه الذي نفذه السيد العجمي إبراهيم مسؤول مكتب شؤون أعضاء هيئة التدريس العرب. وبذلك تمت الموافقة على تعيينه بسرعة لا مثيل لها.

إنتاجه العلمي:

للمرحوم الشيبي بحوث علمية معمقة عديدة يصعب سردها لكثرتها بالإضافة إلى مؤلفاته الكثيرة أذكر منها كتابه (الصلة بين التصوف والتشيع) الذي ترجم إلى الإنكليزية والتركية والفارسية وأثار لغطا كثيرا في الأوساط العلمية بين قادح ومادح كل حسب هواه. ومن كتبه الحب العذري و الأدب الشعبي مفهومه وخصائصه، و الطرق الصوفية ورواسبها في العراق، وصفحات مكثفة من تاريخ التصوف، و البهلول بن عمرو الكوفي سيد عقلاء المجانين.

الشيبي حلاج بغداد المعاصر:

يقول عنه أحد الكتّاب " خلافاً للكثيرين من أبناء عصره يبدو الشيبي باحثا ًدقيقاً صادقاً مباشراً في طرحه للمعلومات، مؤمناً بالهوية العربية غير ملتفت إلى المسألة الدينية أو الطائفية. هذه الحادثة تعطي تصوراً عن طبيعة الإنسان الذي عُرف فيما بعد باسم حلاج بغداد المعاصر، وذلك لدوره الكبير في تحقيق كتابات الحلاج ونشرها فلا يمكن لك أن تبحث في تاريخ التصوف إلا وتمر على اسم الشيبي في باب التحقيق، والواقع أن هذا الاسم الذي التصق به، دفع الناس لإغفال أعماله الأخرى في اللغة العربية والثقافة الشعبية، وغيرها من الأعمال المميزة وهي كثيرة لا يمكن تناولها جميعا في مقال واحد".

الشيبي عاشق المهمشين في التاريخ:

وحقق الشيبي ديوان السهروردي المقتول،وألف كتاب رباعيات الخيام باللهجات العامية العربية, والعجلي العضلي أول مظلي في التاريخ وديوان القومة وديوان الدوبيت الذي نال جوائز عالمية وعربية والفكر الشيعي والنزعات الصوفية، وحقق رواية دون كيخوت وديوان الحلاج وكتاب الطواسين, وحقق كذلك ديوان الكان وكان وديوان الشبلي البغدادي, وحقق ديوان الفلك المحملة بأصداف بحر السلسلة، وعلى أثر هذه التحقيقات لقب الشيبي بعاشق المهمشين في التاريخ.

ونقلت لنا تلميذته الليبية الأستاذة فوزية عمارخبراً يقول بإن أبا طريف في أيامه الأخيرة وضع مخطوط كتاب على الطاولة تحت عنوان (عن الموت) أوصى بطبعه بعد وفاته. وأوصى أهله بأن تفتح مكتبته العامرة بنفائس الكتب للباحثين وطلاب العلم، ولكن مع الأسف الشديد علمنا بأن المكتبة قد بيعت بعد رحيله مباشرة لى تجار الخردة وبثمن بخس.

لقد عملنا سوية في جامعة الزاوية مدة تزيد على عقد من الزمان فكان من يتعامل مع الشيبي يشعر بأنه مثال للإنسان المتفتح الوافر العطاء الجواد في الإرشاد والتوجيه من غير تكبر إذ كانت الكياسة والتواضع من أبرز خصاله, فهكذا كان الفقيد مع زملائه وطلابه. كان الوقت كافياً لي للغوص في أعماق الرجل والتعرف على التفاصيل الدقيقة لأفكاره، فلقد كنا نسكن في مجمع سكني واحد هو المجمع السكني لأعضاء هيئة التدريس بجامعة الزاوية في منطقة قمودة، وأقوم بنقله معي في سيارتي من والى الجامعة. وبالمناسبة كنت أضع بنفسي الجدول الأسبوعي لمحاضرات القسم – بحكم موقعي الوظيفي - مع الأخذ بنظر الاعتبار أن يتزامن جدول محاضراتي مع جدول محاضرات الشيوخ العراقيين الثلاثة العاملين في قسمنا قسم الفلسفة والدراسات العقائدية وهم (حسب أقدمية الأعمار)، أستاذ الفلسفة الحديثة الدكتور كريم متى، والدكتور الشيبي واستاذ الفلسفة الإسلامية الدكتور جعفر آل ياسين.

من طرائفه:

وكثيرة هي الطرائف التي نتلقاها من الدكتور ابي طريف، ونذكرهذه الطرفة التي تتعلق (بأقدمية الأعمار): في يوم الثلاثاء من كل أسبوع يكون الشيوخ الثلاثة لديهم محاضرات صباحية أقلهم معاً بسيارتي الخاصة. الدكتور جعفر أل ياسين يعتني بهندامه الى درجة كبيرة ولايخرج من بيته إلا ببدلة وبربطة العنق، أما كريم متي والشيبي فانهما ليس كذلك فلا يتقيدان دائما بالهندام، فنراهم يدفعون آل ياسين للجلوس بالأمام جنب السائق ويجلسان هما في الحوض الخلفي. وبدافع الإثارة "البريئة" قلت لهم: أنكم تلتزمون بقاعدة الأقدمية وتدفعون أكبركم سناً يجلس في المقدمة. فاجاب الشيبي على الفور:

لا...لا يا دكتور.. .الأكبر هذا وأشار الى د. كريم متي، فهذا خوفو وانا خفرع والذي جنبك منقرع. وأضاف قائلاً: (الدكتور آل ياسين النونو مالنا).

الشيبي في مديرية الأمن العامة:

نتيجة لمواقفه العلمية وتحليلاته الأكاديمية واجه الشيبي موجة هجوم من معارضيه، وفي هذا الصدد يقول الدكتور الشيبي في إحدى مقابلاته الصحفية: " من الطبيعي ان يعاني الباحثون عن الحقيقة الجلية في بلدنا هذا وفي زمننا هذا من مضايقات كونهم ينفردون بأفكار ومناهج قد تكون غير مرضية من قبل الاغلبية التقليدية من الباحثين والسلطات هنا وهناك. ومن الطريف انني اضطررت الى احالة نفسي على التقاعد لأسباب صحية بسبب هذه المضايقات في داخل قسمنا وكليتنا بالذات وقد انتقلت هذه المضايقات الى طلبتنا في الدراسات العليا بحيث كانت المراقبة مستمرة على ابحاثهم ورسائلهم وكانت لجان من زملائنا تشكل لهذا الغرض مما ادى الى حذف كثير من الفصول من رسائل بعضهم خدمة للاغراض السياسية السائدة في بلدنا، ومن المضحك انني في كُتَيبي (إهداء وملامح عربية واسلامية في رواية دون كيخوت لسرفانتس) طُلب مني ان اضع ترجمة لنفسي كالعادة الجارية في مجموعة الموسوعة الصغيرة، فلما ذكرت انني من مواليد الكاظمية اعترض عليّ المشرف عليها (الرقيب) وطلب مني أضع مكان هذه العبارة، ولد في منطقة قريبة من بغداد، فلما اصررت على ان اعتز بإنتمائي الى مدينتي العظيمة فرضخ للأمر كارهاً. علماً بأني أكره الطائفية البغيضة وأنفر منها". ومواقف الشيبي الطبيعية هذه هي التي تثير حساده من الطسالى وضيقي الأفق وهم الذين دفعوا بالأمر الى الحد الذي جعل مدير الأمن العام فاضل البراك يستدعيه للمثول أمامه في مقر المديرية.

في جلساتنا الخاصة في بيتي بمدينة الزاوية الليبية، أخبرني: بأن بعض الصغار كتبوا تقارير عني بأني شعوبي فارسي، على أثرها استدعاني مدير الأمن العام د. فاضل البراك فذهبت إليه فواجهني بما كتب عني، فقلت له كيف اكون فارسياً وأجدادي من رفّاد الكعبة؟ ولازالت أحدى أبواب الكعبة تحمل اسم باب بني شيبة؟ وتحدثت معه باسلوب مقنع جعله أن يجمع أصابع كفه اليمنى ما عدا السبابة التي وضعها على أنفه؛ (علامة الصمت) ليشير باليسرى الى صورة صدام حسين الموضوعة خلفه. فعلمت أنه على خلاف ما مع الرئيس، وهو يرغب بإعلامي بأنه مأمور في استدعائي، ولكني تعاملت مع هذا الموقف بصمت وتجاهل وحذر، وفي نهاية المقابلة ودعني بلطف جم.