د. حسن مجيد العبيدي
لقد استحق الشيبي هذا العنوان في مقالنا هذا نظراً لما قدمه لأبي منصور الحلاج من دراسات وتحقيقات لديوانه الشعري وشروحات يعرفه القاصي والداني ممن جعل التصوف منهجاً بحثياً له.
ومقالنا هذا الذي أُقدمه هنا بمناسبة رحيل حلاج بغداد المعاصر العالم المتفلسف كامل مصطفى الشيبي هو تكريماً ووفاءً لهذا العلم العراقي الكبير الذي توفي في (3/ 9/ 2006م)، وجزء من وفاء التلميذ للأُستاذ الذي تعلم هذا التلميذ من الأستاذ الكثير ولم يبخل عليه هذا الأستاذ يوماً لا بنصح أو مشورة، حتى وهو أستاذ مثله في الوسط الأكاديمي، وقيل في الأمثال من علمني حرفاً صيرني حراً، ولنجعل من ذكراه سُنة للأجيال اللاحقة بنا كيف تتعلم رد الوفاء لأساتذتها ومعلميها وتحفظ لهم حقوقهم في زمن قل فيه الوفاء للآباء فكيف بالمعلمين والأساتذة والعلماء؟. وقد تعرفت إلى الدكتور الشيبي منذ دخلت برغبتي في قسم الفلسفة، كلية الآداب، جامعة بغداد عام 1978م، لأول مرة طالباً لهذا التخصص، فوجدت فيه الإنسان العالم المفكر الناصح الدءوب الذي لا يكل من طلب العلم ولا يخجل من السؤال عن الحقيقة، أوليس الفلسفة تساؤل عن الحقيقة والكشف عنها!!!!!.
تعمقت هذه الصلة بعد ذلك على كرسي الدراسة في السنة الثالثة البكالوريوس في القسم عندما أطل علينا بهيئته المبهرة ليدرسَّنا مادة فلسفة وحدة الوجود في الفصل الأول منها، ثم ليتلوه في الفصل تدريس مادة فلسفة الرازي (أبو بكر) وإخوان الصفا، إذ لم يكن تدريسه لنا بالشكل المعتاد للتدريس في الدرس الأكاديمي من حيث متابعة المصادر والمراجع والعودة إلى النصوص كما كان يفعل غيره ممن يدرسونا الفلسفة ثم الوقوف عندها دون تحليل ونقد، بل بدأ درسه معنا في المنهج الواجب إتباعه للكشف عن الحقيقة في أي موضوع من موضوعات التفلسف، هذا المنهج كان يطلق عليه (المنهج اللغوي التاريخي)، وطبيعة هذا المنهج يقوم على متابعة اللفظ أو المفهوم الفلسفي أو الصوفي أو الكلامي من خلال جذره اللغوي وكيف نشأ ونما في الحضارة الإنسانية وكيف وصل إلينا بهذه الصيغة التي استقر عليها حتى سلمنا بذلك تداولاً له واتفقنا على دلالته فيما بيننا، وقد طبق الشيبي هذا المنهج على مصطلح (وحدة الوجود Pantheism)، الذي اقترن بالفيلسوف الصوفي الكبير الشيخ محي الدين بن عربي (ت.638هـ/ 1240م)، فكان المرحوم لا يقبل بهذا القول دون تمحيص ونقد، فتابع اللفظ عبر دلالته اللغوية والاصطلاحية وكيف نشأ في الحضارات الإنسانية الكبرى حتى وصل إلى ما وصل إليه عند ابن عربي ثم كيف تطور بعده إلى يومنا هذا، فقام بسياحة فكرية معمقة له منذ البابليين والسومريين والمصريين القدامى مروراً بالهنود والفرس فاليونان ثم عند الديانات السماوية الكبرى، ليقول في آخر الفصل أن هذا المفهوم يجب أن يدرس هكذا مع نصوصه وبالإمكان تطبيق هذا المنهج على أي مفهوم فلسفي أم فكري. وإن كان منهجه لربما لم يتفق معه فيه آخرون، لأنه يمثل شخصه الفلسفي واجتهاده في النظر إلى الأشياء والكشف عنها.
ثم عرفنا فيما بعد أن هذا المنهج قد وجه به تلميذته النابهة وقرينة أُستاذها في دراسة التصوف الباحثة الجادة الدكتورة نظلة أحمد الجبوري، فكانت الحصيلة رسالتها عن فلسفة وحدة الوجود، أُصولها وفترتها الإسلامية والتي نالت بها درجة الماجستير في قسم الفلسفة جامعة بغداد عام 1982م، ثم طبعت كتاباً فيما بعد صدر في البحرين بطبعته الأُولى سنة 1409هـ/1989م، وكانت من نتيجة إشرافه على هذه الأطروحة أن غادر حلاج بغداد الدكتور الشيبي في ذات العام 1982 متقاعداً بإجباره على ترك وظيفة التدريس لأسباب سياسية بحتة، وإن كان سنه الوظيفي لا يؤهله بعد للتقاعد وهو ما زال في قمة عطاءه الفكري والفلسفي، ولم يكن خروجه من القسم بطلبٍ منه كما أخبرني فيما بعد، (بل لظروفٍ خاصة فرضت عليه وأوجبت مغادرته القسم)، فخسرنا نحن طلبته فضلاً عن زملائه الأساتذة الأجلاء بخروجه من القسم أُستاذاً بارعاً ومعلماً قديراً ومتصوفاً كبيراً. لكن بقيت ملازمتي لهذا العَلَم حتى يوم وفاته.
والآن نأتي إلى صميم بحثنا، لنقول: هناك من الدارسين من يقترن أسمهم بموضوعات معينة تبقى لصيقة بهم طوال حياتهم وبعد مماتهم وتكون علامة لهم بامتياز، ومنهم العلامة كامل مصطفى الشيبي الذي اقترن به درس التصوف في العراق المعاصر حتى أنه لا يذكر هذا التخصص إلا ويتبادر إلى الذهن شخص الشيبي، ذلك لأن صلته بهذا التخصص لم تكن عابرة أو لكسب مكانة في الجامعة يبغي من ورائها التدريس الحرفي فقط، بل هو الشخصية المميزة التي درست بعمق ودراية نادرتين التصوف الإسلامي وشخصياته وحققت بعض نصوصه وشرحت بعض دواوين كبار الصوفية في الإسلام، ولاسيما الحلاج وأبو بكر الشبلي وشهاب الدين السهروردي وعبد القادر الكيلاني. بعد أن سبق ذلك كله بإطروحتيه عن التصوف والتشيع والفكر الشيعي والنزعات الصوفية، والتي أحدثت في حينها ضجة فكرية في العراق المعاصر تركت ردود أفعال عنيفة تجاه هذين الكتابين. ولهذا مجال آخر للحديث. وختم حياته بآخر بحثين له في التصوف نشرهما في مجلة مقابسات البغدادية، الأول ظهر في العدد الأول من المجلة وكان بعنوان (الغلو وأشكاله في المجتمع الإنساني) أما الثاني، فقد نشره في العدد الثاني من المجلة، وكان بعنوان (الحلاج عند العرب وغيرهم)، ونحن بانتظار أن يصدر له في هذه المجلة وفي عددها الرابع بحثاً عن الشيخ عبد القادر الكيلاني. ولمن أراد المزيد عن الانجازات الفكرية والمساهمات العلمية للدكتور الشيبي فليراجع المقابلة الشخصية التي أجرتها معه مجلة الدليل البغدادية بعددها الثالث في تموز 2004 (ص ص52-59). وإن كان هذا الحكم من قبلنا على شيخنا الشيبي لا يعني إنا تغافلنا عن ذكر شيوخ وأساتذة كبار عراقيين في دراسة التصوف، منهم المرحوم الدكتور عرفان عبد الحميد فتاح، والدكتورة نظلة أحمد نائل الجبوري، اللذان أسهما إسهامات فاعلة في دراسة التصوف تاريخاً ونظريات ومذاهب وفلسفات، وهذا ليس مجال بحثه هنا.
والذي نريد أن نسهم به في هذا البحث عن المرحوم الدكتور الشيبي، هي قراءتنا لآخر كتاب منهجي صدر له في مجال التصوف وقد بلغ الشيبي من العمر 70 عاماً، والذي وسمه بعنوان (صفحات مكثفة من تاريخ التصوف الإسلامي، صدر بطبعته الأولى في بيروت عام 1997م).
وهذا الكتاب قد أُنجز من قِبله بشكلٍ مغاير عن بقية كتبه السابقة، سواء في المنهج أم في الموضوعات التي تناولها بالدرس والتحليل فيه. إذ وضع فيه خلاصة علمه ومعرفته بالتصوف ومنهجه الذي اختطه لنفسه وهو يؤسس لمدرسة فلسفية عراقية معاصرة في الدراسات الصوفية المقارنة، إذ يقول في مقدمة هذا الكتاب (أنه كتاب غريب بين كتبي، إذ هو الكتاب المدرسي الأول الذي يكرر ما سبق أن قيل ويبسطه ويتحرى أن يكون قريباً من الأذهان بغير مفاجأة أو إزعاج)، ولكن سرعان ما يقف الدكتور الشيبي عند هذه النقطة التي أشار إليها ليقول: (إن ما أتوق إلى تحقيقه منه أن يغني عن المراجعة والتحقق مما فيه مع علمي بأن شيئاً كهذا بعيد المنال في حالِ كتابٍ مثل هذا).