بين كربلاء والنجف.. من ذكريات حسين جميل

بين كربلاء والنجف.. من ذكريات حسين جميل

إعداد: عمار عبد القادر الزهاوي

ولدت عام 1908في كربلاء، غير ان اول ما تعيه ذاكرتي هو سفري مع اهلي من بغداد الى النجف سنة 1913 وكنت بعد ابن الخامسة من العمر. لكأن تفاصيل ذلك الحدث لا تزال حية في ذهني، ربما لما كان فيها من اثارة وخروج عن الحياة الرتيبة،الهادئة، التي كانت تسود بيتنا في محلة قنبر علي،كماكما كان شأن حياة اغلب الناس في اغلب البيوت.

ولقد كانت سفرة مثيرة حقا ومتنوعة كذلك.بدأت الرحلة من جانب الكرخ حيث كانت تقف عربة خشبية كبيرة نسبيا، وهي على شكل صندوق كبير مستطيل في مقدمته دكة يجلس عليها العربجي. وكانت تلك العربة يجرها حصانان، لكن كان هناك حصانان آخران مربوطان خلف العربة فأثار ذلك استغرابي، ثم ادركت عند المسير انهما كانا يتبادلان موقع الجر مع الحصانين الاماميين بين فترة واخرى. وفي ذلك ما فيه استراحة نسبية للدواب. دخلت واسرتي الى العربة من باب يفتح من خلفها حيث توجد دكتان من الخشب على طول ضلع العربة تقابل احداهما الاخرى، والدكة معدة لجلوس الركاب وتتسع لأربعة ركاب، وربما اكثر إن كانوا صغارا، فسعة العربة ثمانية من الكبار يحشر معهم بعض الصغار ان وجدوا.اما امتعتهم فقد ربطت بما فيها من صناديق وحقائب فوق سقف العربة.

كنت اسمع في ذلك الحين ان تلك العربات تسمى "عرباين بيت جودي" ولكني عرفت بعد سنين ان بيت جودي انما كانوا يتولون ادارة واسطة النقل هذه،فهي عربات كان يملكها بيت عارف أغا، وهي عائلة ثرية معروفة في بغداد.

كانت العربة تطوي بنا ارضا صحراوية في الربيع، لأن الفرات كان مرتفعا بدرجة اقرب للفيضان، وبين حين وحين تتوقف العربة وتجري المبادلة بين الحصانين الاماميين والحصانين الخلفيين، وكانا اصلا متعبين ايضا من خببهما المقيد والذي ان يتوافق مع الايقاع الحر،المكبوت الصوت، للحوافر التي تضرب التراب في مقدمة الركب. ثم وصل الركب الى مدينة على النهر،عرفت بعد ذلك انها "المسيب" على الفرات، فقضينا ليلتنا في غرفة محاطة بالخشب المخرم وهي التي تسمى "شناشيل" في بيت يطل على النهر ذاته،وعرفت بعد حين انه بيت يعود لعائلة في "المسيب" تسمى "بيت الشيوخ" (منها عبد الهادي صالح الذي كان نائبا عن "المسيب" في مجلس النواب لعدة دورات من سنة 1947 حتى 1958، وعبد علي حسن في سنة 1948).

وبعد مبيت تلك الليلة، استقل اهلي، وانا معهم، سفينة شراعية، ركبوها من سدة الهندية. وما ان تهاوت السفينة في النهر قليلا حتى هبت عاصفة اضطرتها ان ترسوا بجوار الشاطىء.وترجل منها ملاحوها فربطوها بحبال شدت حول جذوع النخيل على الساحل. ولكن اشتدت العاصفة ادى الى انقطاع الحبال،ولا زال اذكر منظر الهلع الذي اصاب ركاب السفينة وهم يرفعون ايديهم بالدعاء،مبتهلين الى الله بان يدرأ عنا الخطر. وبعد ان هدأت العاصفة واصلت السفينة سيرها الى الكوفة ومنها انتقلنا الى النجف.

واذكر مسكن طفولتي الذي شغله والدي في النجف، خاصة بعد ان زرت تلك المدينة سنة 1932، فعثرت عليها. والأمر الذي ساعدني على تذكر موقعها انها كانت قريبة من ميدان كبير قريب من مدخل السوق المؤدي الى مرقد الإمام علي. وقد بنيت في ذلك الميدان فيما بعد المدرسة الثانوية.

ولدت في 8 شباط سنة 1908 في كربلاء. في دار جدي احمد جميل وكان حينذاك قاضيا فيها. ومن الصدف ان والدي عبد المجيد جميل عندما نقل من العمارة الى كربلاء حاكما منفردا (قاضيا) في اواخر سنة 1921 سكن في الدار ذاتها التي كان قد سكنها جدي، وهي تقع في شارع العباس وقد ولدت والدتي اخا شقيقا لي. قالت لي انه ولد في نفس الغرفة التي ولدت فيها وفي نفس الموقع من الغرفة. سمي شقيقي "حسن" ولم يعش الا اقل من عام،حيث توفي في العمارة،وكان والدي قد نقل اليها.والمرض الذي توفي به هو اسهال الاطفال.

ويعود سبب إنتقالنا من بغداد الى النجف إلى تعيين والدي عبد المجيد جميل مستنطقاً هناك،وهي وظيفة قضائية تقابل وظيفة حاككم التحقيق.ذلك أن والدي كان قد درس في الإبتداء علوم العربية والفقه الإسلامي على علماء بغداد،وهي العلوم التي كان يصطلح على تسميتها ب "علوم الجادة "فأجيز فيها من قبل أولئك العلماء.وقد تمت دراسته تلك اتباعاًلما كانت تجري عليه العادة في الأسر الدينية في ذلك العهد.فلما فتحت مدرسة الحقوق اول ما فتحت في بغداد في أول أيلول 1908 إنتسب إليها والدي.كان نظام مدرسة الحقوق آنذاك يقضي بأن يقبل فيها خريجو الدراسة الإعدادية.ولكنها تسمح في الوقت ذاته لأي شخص بحضور الدروس بصفته مستمعاً دون التقيد بإبراز الشهادة الإعدادية.فإذا نجح هذا المستمع في السنة الأولى تغير مركزه فأصبح طالباً في الصف الثاني كالطلاب الآخرين.أما إذا رسب فلا يحق له الدوام بعد ذلك وعليه أن يترك المدرسة.كان والدي واحداً من أولئك المستمعين،وقد نجح في امتحان السنة الأولى فأصبح طالباً نظامياً في المدرسة بدءاً من السنة الثانية حتى تخرجه فيها سنة 1912. وكانت الدراسة فيها باللغة التركية،بموجب الكتب التي كانت ترد من الآستانة،وهي ما يدرسه طلاب الحقوق في العاصمة العثمانية،وكانت الامتحانات شفهية باستثناء مواد قليلة معينة تتطلب بطبيعتها ان تكون تحريرية كالصكوك المدنية والجزائية، ومدة الدراسة أربع سنوات.كان فد تحدث عن نظام القبول هذا في مدرسة الحقوق وأصول التدريس فيها المرحوم محمود صبحي الدفتري، إذ كان قد أدلى بحديث صحفي لجريدة الأهالي البغدادية في أيلول 1960 بمناسبة الذكرى الثانية والخمسين لتأسيس كلية الحقوق العراقية،وكان الدفتري من خريجي الإعدادية فتسجل كأول طالب في مدرسة الحقوق،وذكر من بين المستمعين فيها والدي عبد المجيد جميل.

ما إن تخرج والدي حاملاً شهادة الحقوق حتى تعين في سلك القضاء،وكانت الوظائف القضائية من المراكز المرموقة والمجزية أيضاً بمرتبها.ولهذا فقد تجول في أنحاء متعددة من البلاد،مع أسرته في أغلب الأحيان، ولوحده في احيان أخرى.فنجده في مطلع حياته العملية مستنطقاً في النجف سنة 1913، ثم نجده عضواً في محكمة بداءة (بعقوبة) في بواكير الحرب العالمية الاولى ثم حاكماً في محكمة (السليمانية)عندما انتهت تلك الحرب وعقدت الهدنة بين الدولة العثمانية والحلفاء في 30 تشرين الأول (اكتوبر)سنة 1918.وبعدها يعود والدي إلى بغداد ليمارس المحاماة زمناً قصيراً وليعين بعدها في صيف 1919 بوظيفة حاكم صلح في مدينة (العمارة) جنوبي العراق على دجلة، براتب شهري قدره أربعمائة روبية (والروبية عملة هندية دخلت العراق مع جيوش الإنكليز الفاتحة وتساوي 75 فلساً بالعملة العراقية). وبعد فترة قصيرة من تعيينه ذاك رفع إلى عنوان "حاكم منفرد العمارة " براتب سبعمائة روبية شهرياً، أي ما يساوي 52 ديناراً ونصف.كان هذا المبلغ في ذلك الحين مجزياً لرخص الأسعار وبساطة العيش.

وهكذا،بحكم طبيعة عمل والدي،قطنت في صباي وأنا بصحبة والدي والأسرة،في النجف اولاً،ثم في "بعقوبة " وبعدها في "العمارة " .

من أوراق الاستاذ حسين جميل.