في العشرينيات.. عندما كان المتحف العراقي في بناية القشلة

في العشرينيات.. عندما كان المتحف العراقي في بناية القشلة

سميرة شعلان كيطان

منذ وقت مبكر لوصولها وبحكم آختصاصها الدراسي وولعها بعالم الآثار، أدركت المس بيل السكرتيرة الشرقية للمندوب السامي البريطاني في العراق مدى الحاجة إلى الإهتمام بالآثار العراقية والمحافظة عليها من أن تطالها أيدي العبث والسرقة، وفي ذلك السـياق وجهت تحذيراً شــديد اللهجة للمسؤول البريطاني عن شؤون الآثار العراقي، وحملته المسؤولية عن أي ضرر يلحق بها وأخذت منه تعهداً خطياً بعدم هدم أي موقع آثاري في بغداد لأي سبب كان.

وأخذت على عاتقها القيام بجولات ميدانية لزيارة عدد من المواقع الآثارية التي أصبحت بحاجة ماسة إلى الصيانة لترميم الأضرار لغرض المباشـرة بصيانتها، وكان في مقدمة المواقع التي زارتها طاق كسرى في منطقة المدائن، واصطحبت معها أحد المهندسين لإيجاد الحلول المناسبة لمنع سقوط أحد جدران الطاق بسبب تصدعه.

إنَّ اهتمام المس بيل بالآثار العراقية وسبل المحافظة عليها دفعت الملك فيصل الأول 1921-1933 بعد تتويجه ملكاً على العراق في الثالث والعشرين من آب 1921 بناءً على طلبها تعيينها مديرة فخرية للآثار القديمة بصورة مؤقتة، ريثما يتم تعيين موظف مناسب، نظراً لإلمامها وسـابق تتبعاتها لاسيما بما يتعلق بـعاديـات العـراق، وكانت تدرك منذ وقت مبكر، أهمية أن يكون للعراق متحف يضـم آثاره، إلاَّ أنها كانت تعلل ذلك بعدم توافر التخصيصات المالية اللازمة لإنشائه.

آستقبلت المس بيل بعد توليها المسؤولية الفخرية لدائرة الآثار القديمة عدداً من البعثات الآثارية التي كانت تتطلع إلى الحصول على امتياز التنقيب في عدد من المواقع الأثرية، ومن أشهر تلك البعثات البعثة المشتركة للمتحف البريطاني وجامعة بنسلفانيا الأميركية برئاسة ليونارد وولي، التي حصلت على امتياز التنقيب في مدينة كيش، ونجحت البعثة المشتركة خلال موسم واحد في العثور على قطع آثارية كثيرة، نال العراق منها نصف الكمية، تسلمتها المس بيل من البعثة بنفسها، وقد حاولت خلال عملية الاقتسام الحصول على أفضل اللقى الآثارية المكتشفة، من بينها خوذة ذهبية وقيثارة ودبوس ذهبي وتمثال لأحد ملوك مملكة كيش السومرية يبلغ طوله ثلاثة أقدام، مقطوع الرأس، ولم يتمكن الآثاريون من قراءة الكتابات الموجودة على كتفه، باستثناء تحديد إسم الملك.

وقررت المس بيل إرساله إلى لندن لفك رموزه من علماء الآثار البريطانيين ومن ثم إعادته إلى العراق، وتمكنت أيضاً من شراء عدد من الآثار من الأهالي فكانت حصيلة ما جمعته كمية لا يستهان بها من الآثار التي اكتشفت حديثاً آنذاك، مما شجعها على إقامة معرض لعرض اللقى الآثارية المكتشفة أمام الجمهور للتعريف بها، وقد افتتح المعرض بتأريخ الحادي عشر من آذار 1923، وضعت فيه اللقى الآثارية على مناضد وبالقرب من كل قطعة بطاقة تعريفية باللغتين العربية والإنكليزية، ونال المعرض آستحسان الحاضرين والزائرين، وكان في مقدمتهم الملك فيصل الأول والوزراء والشخصيات العامة.

وعقدت المس بيل العزم بعد نجاح المعرض على إنشاء متحف عراقي بعد أن أصبحت الظروف مواتية لإقامته، لاسيما توافر كميات كبيرة من الآثار العراقية التي حصلت عليها عن طريق التنقيبات الآثارية على وفق نظام المناصفة أو الشراء، فكان لابد من جمعها في متحف للحفاظ عليها من السرقة والضياع والاندثار، إلاَّ أنَّ عقبات عدة اعترضت سبل تنفيذه أول مرة، منها عدم توفر مكان ملائم لإقامته، فلم تتمكن وزارة الأشغال والمواصلات كون دائرة الآثار القديمة إحدى الدوائر العائدة لها من إيجاد بناية مناسبة للمتحف، وبعد البحث والتقصي وقع اختيار المس بيل على إحدى غرف بناية الكلية الدينية في جامعة آل البيت، إلاَّ أن جهودها قد باءت بالفشل بسبب تأخر أعمال البناء فيها، فلم يكن من مناص سوى اللجوء إلى بناية القشلة التي تضم دواوين الحكومة ورئاستها، لتكون مكاناً لإقامة المتحف، فاختارت مضطرة إحدى الغرف الصغيرة في الطابق الأسفل من مبنى القشلة، عرفت هذه الغرفة لاحقاً باسم غرفة الأحجار البابلية.

ومما يلاحظ عن غرف مبنى القشلة، أنها متشابهة في شـكلها وأبعادها وعمارتها، وتتكون جميعها من مداخل مقبّبة وباب وسطي يدخل إلى الغرف التي تبلغ أبعادها بحدود 6,3 مX5,7 م تقريباً، أي بمساحة تبلغ 27 متراً مربعاً، علماً أَنَّ هذه الغرفة يتم الدخول إليها بواسطة مدخل غرفة قبلها، كما أَنَّ السقوف في الغرف جميعها من النوع المقوس وعلى شكل قوس نصف دائري، وفي كل الأحوال تعد هذه المساحة صغيرة جداً لا تتناسب مع إقامة متحف بحجم حضارة العراق التي يمتد تأريخها إلى آلاف السنين، وأرادت من بناية القشلة أن تكون موقعاً مؤقتاً للمتحف ريثما يتم الحصول على بناية مناسبة، وقد اعتنت بمتحف القشلة عناية فائقة، فكانت تقضي جل وقتها فيه للإشراف على أدق التفاصيل تمهيداً لافتتاحه، لاسيما ما يتعلق بترتيب الآثار وتوزيعها داخل الغرفة وتوزيعها على وفق أدوارها التأريخية، ووضع التعاريف الخاصة بها باللغتين العربية والإنكليزية، مستعينة في عملها بعدد من علماء الآثار ممن يعملون في بعثات التنقيب الآثارية، لا سيما علماء الآثار الأميركيين، وبسبب ضيق المكان لم يكن المتحف عند افتتاحه أواخر عام 1924 يضم سوى مجموعة صغيرة من الآثار. كان أمراً طبيعياً أن يؤدي ازدياد بعثات التنقيب الآثارية إلى ازدياد حصة المتحف من الآثار، ولا سيما تلك الواردة من مدينة أور الأثرية، وأصبحت الحاجة إلى نقل المتحف مطلباً ملحّاً ليسع الآثار الأخرى التي تجمعت بمرور الوقت في صناديق خشبية لم يكن بالإمكان عرضها بسبب ضيق مساحة المتحف.

تزامنت رغبة المس بيل في البحث عن موقع جديد مع نية الحكومة العراقية بيع مطبعة الحكومة وتسليم بنايتها إلى وزارة الأشغال والمواصلات، فكتبت رسالة إلى وزير الأشغال والمواصلات صبيح نشأت في حكومـــة ياســـين الهاشمي الأولـــى (الثاني عشر من آب1924- الحادي والعشرين من حزيران 1925)، آشتكت فيها بمرارة من ضيق متحف القشلة وتكدس الآثار فيه، وفي ضوء بيانها لحالة المتحف وما آل إليه من تردٍ، كانت تأمل من وزير الأشغال والمواصلات في أن تحصل منه على بناية مطبعة الحكومة، ولإتمام الفائدة وجدنا من المناسب أن نستشهد ببعض الأسطر مما ورد في رسـالتها، إذ قالت ما نصه:"لا يخفى على معاليكم أن المحل الراهن الذي اشغله المتحف أصبح منذ مدة طويلة غير كافٍ له بالمرة، وبذا استحال الاحتفاظ بالآثار القديمة واستعراضها للجمهور، وإنَّ كثيراً من الآثار الموجودة في المتحف لها قيمة ثمينـة جـداً وبوضعها الحاضر لابد أن يصيبها أضرار، وقد فهمنا إنَّه عما قريب سـتباع مطبعــة الحكومة ويفرغ مكانها الحالي، وإنَّ وزارة الأشغال ستستلم هذه البنايـة".

وعلى أي حال، افتتح المتحف في موقعه الجديد في شارع المأمون في بناية مطبعة الولاية سابقاً، المتحف البغدادي حالياً صباح يوم 14حزيران 1926، في تمام الساعة الثامنة صباحاً، وحضر حفل الافتتاح الملك فيصل الأول وعدد من شخصيات المجتمع البارزة والشخصيات البريطانية، وشبّهت المس بيل المتحف عشية افتتاحه من حيث الترتيب والأناقة بالمتحف البريطاني، إلاَّ أنَّه أصغر منه حجماً، فعلى حد قولها، أن الزائر كان يرى دواليب العرض وهي مرتبة على وفق العصور التأريخية، وكل قطعة عليها بطاقة تضم معلومات وافية عنها مكتوبة باللغتين العربية والإنكليزية، كما أسلفنا القول.

عن رسالة: المتحف العراقي نشأته وتطوره حتى عام 1963.