طاهر الزبيدي
بتاريخ 29 / تسرين الاول /1936 حدث انقلاب بكر صدقي المشهور، ان هذا الانقلاب كتب عنه من قبل الكثيرين من الكتاب والمؤرخين وقد قرأت ما كتب حوله، فكان البعض من هؤلاء الكتاب قد وقعوا بشيء من التقارب الى الحقائق التي حدثت نتيجة هذا الأنقلاب والبعض منهم قد صاغ ما اراد ان يكتبه بالشكل الذي سمعه من افواه من سمع الموضع من الغير وعليه لم أجد ابداً ومطلقاً الحقيقة نفسها في كيفية اسباب هذا الانقلاب وكيفية مقتل وزير الدفاع آنذاك المرحوم جعفر العسكري.
بما انني كنت برفقة وزير الدفاع المشار اليه اعلاه، اود ان أسرد لقصة مخلصاً وبحقيقتها (كما وقعت) لتنوير الراي العام في يوم 29/تشرين الاول /1936 كنت مرافقاً خفراً للملك وكان الاسلوب المتبع في استلام الخفارة المذكورة أن يستلم مرافق الخفر خفارته من سلفه عندما يأتي الى البلاط، حيث يأتي الملك من قصر الزهور الى البلاط وبرفقته مرافق الخفر السابق – وكان مرافق الخفر السابق ليوم 28/تشرين الاول /1936 هو المرحوم العقيد الركن احمد السيد محمود، وعند وصولي الى البلاط، اخبروني بان الملك يأتي في ذلك اليوم والسبب هو وصول وزير خارجية افغانستان ونزوله في البلاط، وعليه اتصلت تلفونياً بسلفي مرافق الخفر في قصر الزهور فأخبرني مؤيداً عدم مجيء الملك الى البلاط في ذلك اليوم، فأستفسرت منه (وهو المرافق الاقدم) اذن كيف استلم الخفارة؟ فأجابني تعال الى قصر الزهور واستلم الخفارة، فركبت سيارة المرافقين وذهبت الى القصر المذكور، وجلست مع سلفي في غرفة المرافقين.
وبعد برهة من الزمن لا تتجاوز الخمس دقائق دق جرس التلفون فرفعه المرافق الاقدم وكنت الى جانبه وسمعته يقول: نعم باشا تفضل أمر، ثم أردف قائلاً ومجاوباً شرف باشا نحن بانتظار تشريفك ثم وضع السماعة على جهاز التلفون، فسالته من المتكلم؟ فاجابني هو رئيس الوزراء (ياسين الهاشمي) وأنه آت لمقابلة الملك.
فخرجنا أنا والمرافق الأقدم من غرفتنا الى خارج باب قصر الزهور لنكون باستقبال رئيس الوزراء، وبعد ربع ساعة تقريباً وصل رئيس الوزراء وبرفقته الرئيس جميل روحي (الرائد) فادينا له التحية وحيانا وسأل عن مكان وجود الملك فاخبرناه أنه في مكتبته داخل القصر، فطلب الذهاب اليه لمواجهته (مسحة صفار) علي محيّ الهاشمي فاستصحبه المرافق الاقدم وذهب معه الى مكتبة الملك لمواجهته والتحدث معه حول ثورة بكر صدقي التي اطلع على اخبارها تواً.
بعد أن أوصله المرافق الأقدم عاد ووقف معي في نصف الدائرة الواقعة خارج باب قصر الزهور، وقد وصل رستم حيدر رئيس الديوان الملكي بعد وصول رئيس الوزراء بربع ساعة تقريباً وكان شاحب الوجه ذا سحنة صفراء متجهاً وهو يحمل منشوراً من المناشير التي رماها المقدم الطيار محمد علي جواد تتضمن اعلان ثورة الجيش ضد حكومة رئيس الوزراء ياسين الهاشمي فسألناه ما الخبر؟
فأجاب (الجيش ثار) وهذا منشور من المناشير التي رمتها طائرات الجيش صباح هذا اليوم على بغداد، واردف قائلاً: أريد مواجهة الملك لأريه المنشور هذا، فقلنا له عنده الآن رئيس الوزراء الهاشمي، فذهب المرافق الأقدم الى الملك وأخبره بوصول رستم حيدر، وهو يريد مقابلته فامر بدخوله ومواجهته له، فدخل وواجهه الملك وأشترك في الحديث الذي كان يدور الملك ورئيس الوزراء، وبينما كان الملك ورئيس الوزراء ورئيس الديوان يتحدثون في المكتبة، كنا أنا والمرافق الأقدم نقف خارج باب قصر الزهور واذا بسيارة شوفرليت ذات تنتة مكشوفة تقف امامنا وكان يركب في مقعد السيارة الامامي السيد حكمت سليمان، وفي المقعد الخلفي للسيارة الى خلفه شخصان يرتديان العقال والزبون والعباءة العربية، وكان حكمت سليمان يحمل ظرفاً حكومياً اصفر مغلقاً وفي داخله بعض الأوراق، فنزل من السيارة وقال: موجهاً قوله لنا هذا ظرف لا أعلم ما في داخله قد رماه أحد ضباط الجيش في صباح هذا اليوم في داري وانصرف بسيارته بمن فيها.
(على ما علمت خيراً: انه كانت اجتماعات تجري في دار حكمت سليمان يشترك فيها الفريق الركن بكر صدقي العسكري والمقدم محمد علي جواد، وبعض الساسة العراقيين الذين اشترك بعضهم في وزارة حكمت سليمان بعد سقوط وزارة الهاشمي في ذلك اليوم ومنهم جعفر ابو التمن وكامل الجادرجي وغيرهم وان اجتماعاً قد انعقد في ليلة ثورة بكر صدقي فان ادعاء حكمت سليمان من انه لا يعلم شيئاً عن ثورة بكر صدقي (لا يتفق والحقيقة).
فاخذ المرافق الاقدم الظرف واوصله الى الملك وعاد وبعد عشر دقائق تقريباً خرج الملك وطلب حضور حكمت سليمان وكان قد خرج من القصر كما اسلفت الى ذلك، واخبرتهم بان حكمت سليمان وكان قد خرج من العقد كما اسلفت الى ذلك، واخبرهم بان حكمت سليمان ومعه شخصان بلباسهم العربي يركبون سيارة شوفرليت مكشوفة وانهم كانوا في قصر الزهور قبل برهة من الزمن (دقائق معدودة) وأنهم سيمرون الآن بكم بقصد العبور، وأمر الملك بأيقاف سيارتهم واخبروا حكمت سليمان بأن الملك يريد مواجهته الآن، وهكذا عاد حكمت سليمان بسيارته ومن معه، وبعد مواجهته الملك جلس عند وصولنا مفرق طريق شارع الفضل – الثكنة الشمالية، شاهدنا العقيد يوسف نجم العزاوي (الذي كان آمراً للمخابرة واقفاً في منتصف الطريق، وهو يحمل مسدسه العسكري، فامر الوزير السائق الحاج شاكر بان يوقف السيارة الى جانب العقيد يوسف نجم، فامتثل لامره واوقف السيارة، فساله الوزير عما يفرقه عن الجيش الزاحف؟ فقال له مجاوباً: ان الجيش وصل الى (خان البير) فرد عليه قائلاً: انا ذاهب الى الجيش هل ترغب بمرافقتي؟ فاجابه بالإيجاب وركب الى يميني في المقعد الخلفي من السيارة وانطلقت بنا السيارة سالكة الطريق المذكور وبعد ان قطعت السيارة حوالي (100 متر) واجهتنا سيارة اجرة قادمة من بعقوبة، وكان أحد ركابها (أحد أولاد صفي) منذ الصغر المهندس (عبد الوهاب القرة غولي) فاستاذنت الوزير وأوقفت السيارة الاهلية القادمة وقلت للوزير هل تريد سيدي الوزير ان تستفسر شيئاً عن تقدم الجيش القادم، فهذا الشخص هو ضابط سابق والآن مهندس، فأجاب نعم، فناديت المهندس الموما اليه، وجاء وسرد للوزير امر القطعات العسكرية بصنوفها الثلاثة وتشكيلاتها ومحلات وصول كل منها، فشكره الوزير وانصرف ثم تابعنا المسير فوصلنا سدة ناظم باشا ومررنا عند شق طريق بغداد – بعقوبة، فشاهدنا سيارتين عسكريتين من نوع فورد لوري وكل منها تحمل رشاشاً (فيكرس) متجهتين نحو بغداد، وكانت هاتان السيارتان اخذتي مواضعها وراء السدة الواحدة الى اليمين والاخرى الى اليسار، وكانت تعودان الى سرية الرشاشات الآلية فلم يعترض سيرنا من كان في تينك السيارتين.
فاستمرينا السير فاجتازينا مخفر خان المغيسل، وقبل وصولنا الى مخفر خان البير بمسافة ميلين تقريباً، شاهدنا سيارتين أهليتين تقفان الى يسار الطريق (شمال الطريق) بمسافة مئة وخمسين متراً تقريباً وركابها وكانوا يجلسون الى جانب سياراتهم وكان من جملة الركاب المذكورين الذين شاهدتهم (السيد نوري البرزنجي) امام وخطيب جامع الاحمدي في محلة الميدان في بغداد وهو والد زوجة اللواء المتقاعد فؤاد عارف وكان الى جانبه أحد مفوضي الشرطة ممن كانوا معه في السيارة.
وكان يحيط بالسيارتين المذكورتين عدة جنود يرتدون بدلات الشغل الزرقاء وقد وضعوا على اكتافهم صفوف الرصاص وهم يحملون بنادقهم التي كانوا قدركبوا الحراب عليها، وقد نادى احد الاشخاص العسكريين الذين كانوا حول السيارتين السابق ذكرهما، ولم اشخصه لاول وهلة، نعم نادى هذا الشخص بصوت عالٍ على الجنود (اوقفوا هذه السيارة القادمة) فهرول بعض الجنود نحونا موجهين بنادقهم الى سيارتنا وهم يوعزون الينا (قف) فوقفنا، واذا المنادي بايقافنا هو آمر فصيل جنود الذين يحملون الرشاشات اللآلية الملازم اول اسماعيل احمد عباوي، أو (توحلة) كما هو معروف عنه، ثم نادى ثانية بجنوده قائلاً: قودوا هذه السيارة الى هنا الى جانب هاتين السيارتين الاهليتين فسرنا الى حيث طلب منا الى المحل المقصود، فشاهدنا الملازم اول اسماعيل توحلة واقفاً بلباسه العسكري وهو يحمل مسدس (كولد امريكي الصنع)على نطاقه، وعند نزول الوزير حياه اسماعيل تحية عسكرية فقال له الوزير: مرحباً ولدي اسماعيل فاجابه مرحباً سيدي.
فسأله اين هو بكر باشا؟ فاشار له بيده على استقامة التلول التي اغتيل عندها: قائلاً هناك مقره سيدي واردف قائلاً: هل تريد مواجهته؟ … فاجابه نعم اريد مواجهته، فاجابه تفضل سيدي ولا مانع من ذهابك الى مقره لمواجهته … فركب الوزير السيارة التي جئنا بها (سيارة امين العمري).
وصعدت وركبت الى خلفه، فعرض اسماعيل امر عدم السماح للسيارات الاهلية بدخول معسكر القوة الزاحفة، ودليلاً على ذلك كان توقيف السيارتين الاهليتين اللتين يراهما أمامه.
فرد الوزير عليه: اذن كيف أذهب لمواجهة بكر؟ … فقال له تفضل سيدي هذه سيارة عسكرية يمكنك ركوبها والذهاب بها لمواجهة القائد بكر صدقي في مقره، فركب في المقعد الامامي، وصعدت لاركب خلفه، فأعترضني الملازم اول اسماعيل توحلة، ومنعني من ركوب السيارة والذهاب مع الوزير ممسكاً بكم ذراع سترتي الايمن قائلاً ممنوع ذهابك فأعترض عليه الوزير وقال: ابني اسماعيل هذا مرافق الملك وجاء معي وبرفقتي وهو أحد ضباط الجيش العراقي، فما أرى ضرورة لمنعه، فاجابه: اسماعيل: سيدي الرئيس الاول (الرائد) طاهر، يعتبر من قطعات بغداد، ولدي أمر بأن لا اعطي مجالاً لدخول ضباط قطعات بغداد الى معسكرات القوات الزاحفة، وانا عسكري لا بد لي من تنفيذ الاوامر التي اتلقاها من قادتي، فرد عليه الوزير (زين يالله امشي).
عن كتاب (من حافة التاريخ.. حياة اللواء المتقاعد طاهر الزبيدي) المعد للنشر.