سعيد محمد
في 12 أيار (مايو) 1963، أرسل جيمس بالدوين (1924 -1987)، الصحافي والأديب الأفروأميركي، وكان حينها صوتاً بارزاً في حركة الحقوق المدنيّة، برقيّة إلى المدّعي العام للولايات المتحدة، روبرت إف كينيدي، ألقى فيها باللوم على إدارة أخيه جون إف كينيدي (تولى الرئاسة في 1961) في العنف العرقيّ
الذي تفشّى وقتها في أعماق ولايات الجنوب ضدّ السود، معتبراً أنّ المنظومة السياسية الأميركيّة هي التي تجعل هذا التوحش ممكناً، وبأنّ الأمة في أزمة، فيما يتقاعس الرئيس - بما يمثله - عن فعل شيء، ما يرتقي إلى مستوى خيانة أخلاقية تامّة للشعب الأميركي.
هزت كلمات بالدوين اللاذعة ضمير كينيدي، فدعاه لتناول الإفطار في 23 أيار في منزله في ماكلين في ولاية فيرجينيا. في هذا الاجتماع غير الرسمي، كان المدعي العام مهتماً بمنظور بالدوين إزاء ما يجري، واقترح عليه أن يجمع عدداً من الشخصيات من المجتمع الأميركي الأسود التي يمكن أن تتحاور مع المؤسسة الحاكمة، وفي الوقت نفسه يثق بها مجتمع السود ويستمع إليها ويحترمها، بهدف عقد اجتماع مع ممثلين من الإدارة في اليوم التالي، في نيويورك.
قضى بالدوين بقيّة يومه في التشاور مع العائلة والأصدقاء حول من يجب أن يحضر اجتماعاً مماثلاً. وفي صباح اليوم التالي، قاد فريقاً من مختلف تيارات حركة الحقوق المدنية إلى شقة روبرت كينيدي في "24 سنترال بارك ساوث"، حيث تبيّن سريعاً أنّ ثمة انقسامات عميقة في أوساط حركة الحقوق بين الليبراليين ذوي البشرة البيضاء والأميركيين من أصل أفريقي، وكذلك بين هؤلاء الأخيرين، معتدلين ومتشددين. تحدّث بالدوين عن عدم مساواة متأصلة في النظام الأميركي، وبأن مجموعة القوانين المهينة للسود التي تكرّس الفصل العنصري والمعروفة باسم "تشريعات جيم كرو" تمثل معضلة أخلاقية للنظام الأميركي قبل أيّ شيء آخر، فيما كان طرح كينيدي وفريقه متركزاً على ضرورة البحث في طرق لإصلاح النظام الحالي عبر القانون، ملمحاً إلى المخاوف السياسية بشأن التحرك بسرعة كبيرة لتغيير الأوضاع القائمة. لم تكن هناك لغة مشتركة بين الحاضرين. كينيدي قال مثلاً إنه كأميركي من أصل أيرلندي، تعرّض أيضاً للاضطهاد، ولكنه تمكن من بناء ثروة وقوة عظيمة عبر الاعتماد على الذات والاجتهاد، ليقابَل كلامه ذلك بالضحك ومزيج من المرارة والازدراء. وفق بالدوين، فإن بوبي كينيدي الذي "وصل إلى هنا بالأمس فقط في طريقه بالفعل إلى منصب الرئاسة، بينما نحن هنا منذ 400 عام، وهو يخبرنا أنه ربما في غضون 40 عاماً، إذا كنت مهذباً، فقد نسمح لك بأن تصبح رئيساً".
لم يكن الاجتماع ناجحاً، وفشل في التأسيس لفضاء حوار مفتوح بين النظام الحاكم والمجتمع الأسود، لا بل أصبح بالدوين بسببه مطارداً من قبل مكتب التحقيقات الفيدرالي باعتباره متطرفاً، وشيوعياً محتملاً يشكل تهديداً للأمة. وتظهر السجلات أنّ المكتب تعقّبه طوال عقد بعدها. مع ذلك، بعد شهر واحد من هذا الاجتماع، وفي خطاب متلفز إلى الأمّة، تحدث الرئيس جون كينيدي عن الحقوق المدنية للسود بأنها ليست مسألة حزبية أو قانونية أو تشريعية بقدر ما هي، في المقام الأول، "قضية أخلاقية"، مردداً كلمات بالدوين نفسها، ولتبدأ بعدها الإدارة في الضغط بشكل هادف من أجل تشريع شامل للحقوق المدنية في الكونغرس، ربّما كان - وفقاً لبعض نظريات المؤامرة - وراء مقتل الرئيس في دالاس في تكساس، في تشرين الثاني (نوفمبر) من العام نفسه بينما كان بالكاد قد تجاوز أول ألف يوم له في المنصب.
لقد سقطت تشريعات جيم كرو، وأصبحت نصوصها في ذمّة التاريخ، ولكن روحها ظلّت حيّة ترزق في نخاع ثقافة النخبة الأميركية، ونبوءة بالدوين في الاجتماع مع روبرت كينيدي، تحققت، بحرفيّتها. فالنظام الأميركي، سمح بعد 46 عاماً من ذلك الاجتماع، في عام 2009، لأميركي أسود، باراك حسين أوباما، بتولي الرئاسة. لكنّه كان، تماماً كما تبصّر بالدوين، نموذجاً تقليدياً للأسود "المهذّب"، عبد المنزل، الذي يمكنه ــ رغم قناع بشرته السوداء ــ أن يكون أبيض أكثر من البيض أنفسهم. ومن يدري، فلعل الرئيسة القادمة ستكون من الفصيلة "المهذبة" ذاتها.
لقد كان بالدوين، صاحب "النار في المرّة القادمة"، أفصح الشهود على العنصرية التي تأسس عليها نهوض الإمبراطوريّة الأميركيّة، ونجح في مقالاته ورواياته ومسرحياته ومقالاته على حد سواء في التنقيب داخل أرواح الأميركيين عن القروح النفسية التي تتسبب فيها العنصرية لكل من المضطهدين والظالمين، مزيلاً طبقة بعد طبقة من الجلد المتصلب الذي يحمي به الأميركيون أنفسهم من وحشية نظامهم. الأميركيون الذين قرأوه، من البيض كانوا أم من الملونين، وجدوا دائماً أنه قال مطلق الحقيقة عن الكراهية العنصرية، وأنصاف الحقائق، والتجديف، والأكاذيب التي تشكل في مجموعها الحياة الأميركية. وفي مئويته التي يحتفل بها هذا الشهر، نقرأ، أيضاً، نحن ضحايا إمبراطورية الشرّ، تراثه الأدبيّ مجدداً، وننتظر ناراً وعدنا أن تأتي في المرّة القادمة.
· عن الاخبار اللبنانية