د. لمى عبد العزيز مصطفى
لم تكن في الولايات العراقية اية مؤسسات تعليمية طبية، اذ لم تقم اية جهة طبية وطوال سنوات السيطرة العثمانية بانشاء اية مراكز طبية لذلك إقتصر اعتماد المستشفيات على الاطباء الاتراك وبعض الملاكات الاجنبية.
فقد ذكرت جريدة (الزوراء) في احد اعدادها قائمة باعداد الاطباء الاجانب الموجوين في ولاية بغداد اواخر القرن التاسع عشر والذين لم تتجاوز اعدادهم العشرين طبيباً، منهم الدكتور (ادلر) وهو طبيب نمساوي كان مستخدماً في الجيش العثماني، ثم انتقل الى منزله في محلة رأس القرية حيث افتتح عيادته هناك وكان يعالج المرضى بالوسائل الطبية الفنية والطبيب الثاني (لازار) وهو نمساوي عمل موظفا في البلدية، ومارس الطب في رأس القرية، اما الطبيب الثالث فيدعى (يانقو)، وكان طبيبا عسكريا، ثم استقال واخذ يمارس الطب في عيادته، والدكتور (أش) في محلة التوراة والدكتور (لبي).فضلا الى عدد اخر من الاطباء الاجانب الذين كانوا يفدون الى بغداد بين فترة واخرى، وغالبا ماتولت الصحف العراقية الاعلان عن مجيئهم، نذكر منهم الدكتور (فرنسيس أنلي) وزوجته المختصين بمعالجة الاسنان والدكتور (يوسف كنعان) اخصائي العيون.
ومع هذا العدد القليل من الاطباء، كان هناك عدد من العراقيل حالت دون تقديمهم الخدمات الطبية للسكان، منها قلة معرفتهم باحوال البلاد، فضلاً عن عدم معرفتهم اللغة العربية، بالاضافة الى قلة خبراتهم الطبية واما الاطباء الاتراك فكان غالبهم من العسكريين. وبالتالي حتمت الضرورات العسكرية عدم استقرارهم في مكان واحد. وحتى الاطباء الاجانب الذين وفدوا للعراق ابان تلك المرحلة فإنهم لم ياتوا خصيصاً لممارسة مهنة الطب وانما كانت لهم اهداف اخرى. فقد عمل القناصل البريطانيون على دعم الجهود الطبية كنوع من التمهيد للنفوذ السياسي للبلاد وجمع المعلومات عن السكان وميولهم، وكمثال على ذلك التقارير التي قدمها بعض اطباء المقيمية البريطانية في بغداد خلال تجوالهم في العديد من المناطق. كما افادت الدوائر البريطانية ابان حملتها على العراق سنة 1333هـ/1914م من المعلومات التي قدمتها المس بيل عن العراق خلال انتدابها من السلطات المحتلة للعمل ممرضة في الفرات الاوسط.
طرأت بعض الزيادة على اعداد الاطباء عندما التحق الرعيل الاول من الاطباء العراقيين، من خريجي الكليات الطبية مثل كلية حيدر باشا باستانبول ومدرسة دمشق الطبية وكلية الطب الفرنسية في بيروت للعمل في المستشفيات العراقية. وابرز هؤلاء الاطباء علي فكري البغدادي داؤد جلبي وحنا خياط وعبد الله الدملوجي. ومع ذلك فإن تخرج هذه الملاكات الطبية لم يضع حداً للمشكلة إذ عانى كثير من الاقضية من النقص الحاد في عدد من الملاكات الطبية ومنها على سبيل المثال لا الحصر اقضية الشامية وبدرة وعانة ومندلي والسماوة.
أما بالنسبة لاطباء الاسنان فلم يكن في العراق عموما اطباء بهذا الاختصاص حيث اسندت هذه المهمة الى الحلاقين.
- وامام قلة الاطباء المؤهلين لممارسة مهنة الطب، وبسبب ضعف الوعي الصحي لدى العراقيين راجت ممارسة من كان يطلق عليهم المتطببون وكان اغلبهم من الدجالين والمشعوذين اشتهر منهم حكيم حداد، وهو متطبب لايحمل شهادة طبية جاء إلى بغداد من ايران وسكن محلة الطاطران سنة 1303هـ/1885م فذاع صيته، والسيد احمد الذي سكن محلة الدهانة، والاسطة عباس الذي اشتهر بممارسة الجراحة النسائية، اما من النساء فقد اشتهرت المدعوة فرحة خاتون في ممارسة طب العيون.
ولم يكن في امكان الدوائر الصحية، بامكاناتها المتواضعة اتخاذ الاجراءات الكفيلة للحد من انتشار الامراض والاوبئة حتى وان وجدت بعض الاجراءات فيمكن القول بانها كانت بدائية وعقيمة. فعندما حدث طاعون سنة 1293هـ/1876م اكتفت السلطات المحلية وكاجراء وقائي، بعزل المناطق التي حدثت فيها الاصابة، ومنعت أي اتصال بين المناطق المصابة، مما هدد سكانها بالهلاك ولا سيما وان المنازل العراقية كانت تتسم بكثرة السكان ولم تكن هذ الاجراءت الوقائية تطبق على الجميع إذ كانت العائلات الفقيرة تحبس حتى يقضى عليها الوباء في حين كان الاغنياء والموسورون من السكان ورجال الحكم والقناصل يهربون بعيداً عن الناس والمرضى معهم الخيام ومواد التموين إلى خارج المدن.
وتجدر الاشارة إلى ضيق افق بعض الولاة ورفضهم إتخاذ الاجراءات الوقائية للحيلولة دون انتشار كثير من الامراض، فعلى سبيل المثال رفض عبد الرحمن باشاإبان ولايته الاولى (1875-1877)، على اثر انتشار وباء الطاعون سنة 1293هـ/1876م الاجراءات الوقائية التي كان قد اقترحها طبيب القنصلية البريطانية كولفيل، الا انه سرعان ما عدل رايه امام ارتفاع الوفيات، وتكرر حدوث الوباء في السنة التالية، إذ تم اخراج ما يربو على ثلثي سكان بغداد، وكانت معظم الوفيات بين الذين فضلوا البقاء في بيوتهم. وعلى العكس من ذلك عرف بعض الولاة جهودهم في الحد من انتشار الامراض الوبائية فعلى اثر انتشار وباء الكوليرا (الهواء الاصفر) بادر والي بغداد ناظم باشا(1910- 1911 م) إلى تشكيل لجنة صحية (قومسيون) في بغداد، اسندت اليها مهمة اتخاذ التدابير الصحية الواقية للحد من تفشي هذا الوباء داخل ولاية بغداد، منها العناية بنظافة المدينة وتطهيرها، ورفع القمامة من البيوت والطرق وتعيين اطباء داخل المدينة وخارجها وفحص الفواكه، واتلاف الفاسد منها والمحافظة على نظافة مياه نهر دجلة وتحذير الاهالي من القاء الاوساخ او غسل الملابس وما اشبه ذلك كما وضع الحجر الصحي في اطراف الولاية التي ياتي منها الـداء لمنع سريانه. وتعزيزاً لهذه الاجراءات قام ناظم باشا باغلاق المدارس جميعا خوفا من انتشار المرض بين الطلبة. ولا يخفى الدور الذي اضطلعت به الصحف العراقية في مجال التوعية الصحية للوقاية من الامراض الوبائية في حال انتشارها.
- اما بالنسبة لدوائر الحجر الصحي، فلم تكن في مستوى المسؤولية لضعف امكانياتها المادية والفنية، المتمثلة في بناياتها المتداعية، غير المستوفية للشروط الصحية. والتي هي عبارة عن خيام وصرائف. أقيمت فوق ارض رطبة يلاقي نزلاؤها الأمرين لا من حيث رطوبتها فحسب بل لما يقدم فيها من الطعام الرديء، والماء العكر لدرجة ان بعض الاصحاء كانوا يقعون صرعى المرض تحت رحمة الظروف المناخية السيئة.
وعلى الرغم من اعتراف القائمين على دوائر الحجر الصحي بعدم ملاءَمة الخدمات المقدمة في هذه الدوائر في ظل الظروف الراهنة، الا انهم كانوا غير قادرين على علاج الوضع، إذ لم تلق النداءات المستمرة إلى العاصمة العثمانية (إستانبول)، بضرورة تشكيل لجان صحية لاعادة بناء عدد من المحاجر الصحية اية نتائج ايجابية. فضلا عن ذلك اتسم الجهاز الذي يشرف على قرارات الحجر الصحي بالفساد والرشوة، فرجال الامن والجنود والموظفون استغلوا هذه الدوائر لايجاد مصدر رزق يدر عليهم المال الوفير. فكان بامكان الزوار رشوة هؤلاء الموظفين والحصول على بطاقات السماح بالدخول إلى البلاد.
فيما يرى أحد الباحثين ان اجراءات الحجر الصحي التي بالغت السلطات العثمانية في تطبيقها كانت تاخذ طابعاً سياسياً تبعاً لعلاقة الدولة العثمانية بالحكومات الاجنبية.
كان ضعف اجراءات الحجر الصحي مدعاة إلى مطالبة جريدة (الزوراء)، بضرورة تشكيل لجان مؤلفة من مفتش الحجر الصحي وعدد من الاطباء ورؤساء البلديات لضمان تطبيق اجراءات الحجر الصحي، والزام مفتش الحجر الصحي باتخاذ التدابير اللازمة بمقتضى ما لديه من تعليمات في المجال الذي فيه المرض وكذلك في حق الاشخاص.
حاولت الدولة العثمانية تحسين المستوى الصحي لعموم ولاياتها من خلال اصدارها لعدد من القوانين، منها تعليمات منع الامراض السارية لسنة 1330هـ/1911، وتعليمات منع سريان الحمى التيفوئيدية سنة 1331هـ/1912م والامراض الزهرية سنة 1332هـ/1913م.
عن رسالة: الخدمات العامة في العراق 1869ــ 1918