نص نادر.. مستقبل (قضاء الحلة) عام 1913

نص نادر.. مستقبل (قضاء الحلة) عام 1913

توفيق بشارة

كنت قد أدرجت مقالة في العدد ٤٣٥ من الزهور البغدادية بينت فيها النهضة التي ظهرت في أبناء العراق بخصوص ما يتعلق بأمر الإصلاحات المستحسن إدخالها في ولايتنا. وها إني اليوم أوافي هذه المجلة بمقال لأوجه أنظار القوم إلى قضاء الحلة الجليل ومستقبله الزاهر فأقول:

إني لا أريد أن أسير في بحثي مبتعداً عن الغرض الذي أرمي إليه بل أذهب إليه تواً وأتعرض للوسائل التي هي في طاقتنا لنصل إلى أحسن نهج بحسن مستقبلنا. - إن للحلة اليوم من وسائل الثروة والغنى ما لا ينكر إذ فيها شعبة من الفرات التي تجري ماء النضار ما لا مثيل له في سائر الديار، إلا أن نموه وتبسطه في غاية البطيء والتثاقل. فهل يحسن بنا أن نراه باقياً على هذه الحالة حالة الطفولة؟ ألا يجب أن يسير سيراً حثيثاً في صراط الارتقاء والتوسع والتبسط؟ إني أدع الحكم لأهل الرأي والتفكير.

إن بناء سد الهندية ليس إلا بمنزلة الأضلاع للجسم فكما أن هذه الأضلاع لا تكفي لقوة الجسم بل يجب أن تكسى لحماً وعضلاً كذلك يقال عن هذا البناء الجليل الذي لا ينتفع منه ما لم يقرن بما يتمم الغاية التي بنيت له.

ولعل قائلاً يقول إن هذا المشروع هو فوق طاقتنا. قلنا: الأمر بخلاف ما يظن أو بخلاف ما يذهب إليه. والدليل ما نعدد لك من الأشغال التي يمكننا أن نقوم بها لتحسين مستقبلنا.

وأول كل شيء سقي الأرضين الواسعة الممتدة في تلك الأرجاء الرحبة. فلقد أصبح الري اليوم من أيسر الأمور لتحدر المياه بسرعة وعليه إذا أراد الناس الوصول إلى ما يرومون عليهم أن يبنوا ثلاث كيالات أي ثلاث قناطر في عرض نهر الحلة ويقام مآخذ الماء لجميع ما يتفرع منها من الخروص. وقد عنى ديوان أشغال الري بدرس فكرة من سن قانون ينظم به تقسيم الماء على الأرضين ونحن نؤمل أن يكون إخراجه إلى حيز الوجود والعمل بموجبه بأقرب ما يمكن.

أما الأموال اللازمة لهذه الأعمال فإنها ليست باهظة بل في مكنة جميع الذين ينتفعون بمرافق السقي. لا سيما إذا علمنا إن أهالي الحلة يحصلون على نعم ونتائج لم يحلموا بها سابقاً وتتوفر لهم المعيشة وتجعلهم أصحاب ثروة طائلة في قليل من الزمن لأنهم إن بنوا الكيالات المذكورة لا يحتاجون بعد ذلك إلى آلات رافعة للماء إذ هذا السائل الحيوي يأتيهم عفواً متحدراً إليهم من تلك الكيالات ويتدفق إلى حيثما يريد الساقي أو الزارع.

والحصول على هذه الأموال يكون على هذا الوجه: تزاد الأعشار اثنين في المائة فما يمضي غير قليل من الزمن إلا وقد اجتمع المبلغ ونالوا ما أملوا. إن فعلوا هذا الفعل أظهر تسرعهم في هذه المسألة مسألة حياة الجماعة وإحياء الموات من الأرضين إنهم من أنشط الناس ومن أرغبهم في ترقية وطنهم وإنهم ممن يسعون في فتح باب جديد لبلادهم باب الرقي والفلاح باب الحضارة الهنيئة والنجاح المبين.

أما المشروع الثاني الذي يبشرنا بمستقبل زاهر هو العزم على تسيير مراكب سريعة الجري على نهر الهندية بين السد والديوانية لجمع ريع الحصاد الذي يجتمع على ضفتيه ذلك الريع الذي إذا بقى في محله بدون نقل لم يفد أهل تلك الأرجاء وإذا نقل إلى حيث يصرف ويباع وينفق يغنى أصحابه ويوسع أسباب معيشتهم. هذا فضلاً عن إن تلك البواخر تجمع القرى بعضها إلى بعض تلك القرى التي تتتالى منسوقة على طول النهر والتي لا تزال في حال النشوء مع أنها تنزع إلى النمو والتبسط والتقدم.

وإن قيل لنا إن هذه المراكب لا تفيد فائدة تذكر إذا ما مد خط السكة الحديدية قلنا: إن الخط لا يمر بالحلة كما هو مشهور ولهذا تكون المراكب من أوجب ضروريات حياة الجماعة والأهالي في ذلك القطر وإلا تبقى حاصلاته بدون فائدة عمومية. - أما وسائل النقل على ظهور الدواب فهي في منتهى البطيء والثقل وغير وافية بالمقصود دع عنك ما تكلفك من النفقات الباهظة. أي أن هناك وسيلة أخرى وهي مد فرع للسكة الحديدية البغدادية وهذا الفرع هو المعروف عند أهل الفن (بالفرع الزراعي) لاختصاصه بنقل حاصلات الزراعة. وهذا مما لا بد منه يوماً لإتمام خط بغداد بوجه يفي بالمرام ويقوم بحاجيات أهل ديارنا هذه الميمونة وربط المركزين الكبيرين (بغداد والحلة) برباط واحد يدفعهما إلى التقدم والترقي الدائم.

أما النفقات اللازمة لمد هذه السكة فهي ليست بعظيمة لأنه لا يحتاج إلى بناية

بديعة تبتلع الأموال بدون فائدة بل تكون معتدلة مناسبة لحالتنا. ولنا دليل على نجاح هذا الفرع من السكة ما فازه خطا النجف والكاظمية من التوفيق والتيسير والربح الكبير. ولو كنا ممن يريد الترقي الحثيث لبلادنا لأكثرنا من هذه السكك الحديدية في طول البلاد وعرضها وأصبحت عامرة راقية في معارج الحضارة.

وكل ما أشرت إليه من الأشغال ليست لنا ولا هي حديثة الفكرة إذا لكل يعلمونها لكنهم لا يعلمون بها خوفاً على تشتت أموالهم على ما يتخيلونه إذا ما سعوا إلى توسيع أشغال النقل والانتقال. ولهذا نوجه أقوالنا هذه إلى عموم الناس لا إلى الخاصة منهم أهل الاحتكار والإحتجان الذين يجمعون الأموال لمجرد التمتع برؤيتها لا غير.

وصلت إلى هنا من كلامي وأنا أسوقه إلى أبناء وطني العراقيين أما الآن فألفت عنان كلامي إلى الحليين خاصة أولئك الذين هم جرثومة مستقبل الوطن الزاهر وأول شيء أقوله لهم: جودوا على الوطن بما في طاقتكم يجد عليكم بنعمه ومرافقه وأرزاقه. ولا تكتفوا بالماء الذي جاءكم وكنتم تتشوقون إليه بل سيروا دائماً إلى الأمام سير مائكم المتدفق وأفرغوا كل ما في وسعكم ليجود عليكم صقعكم بكل ما تنتجه أرضه إلى أقصى غاية: واستشيروا لهذا الغرض أرباب الفن المتنورين ليطلعوكم على ما يجب اتخاذه من الوسائل اللازمة لترقية الزراعة على أرقى طريقة وصلت إليها في البلاد العامرة أو المتحضرة.

ولا تغفلوا عن الصناعة: اتخذوا غلاتكم لبلادكم فإن في ذلك غناكم وثروتكم ونمو أموالكم. ومن أجل الأمور الضرورية لدياركم هي آلات إخراج الحب من القطن وتربي دود الحرير والطحن ودباغة الجلود وغيرها. والخلاصة عليكم بكل وسيلة تبرز آيات نشاطكم ومساعيكم العامة النفع.

وحينما تصبحون في يسر العيش ودعته بما يفيضه عليكم ماء الفرات من الخيرات باشروا بما يعلي كعب الوطن أبعد العلاء وهو أمر ترقية المعارف إذ بقدر ما تزرعون تحصدون وبقدر ما تسعون تتوفقون وكلما قدمتم أمر الآداب على سائر أمور هذه الدنيا تفتقت عليكم منابع الخير وأفلحتم كل الفلاح.

ها إن بابل القديمة قد اتكأت رأسها على أبواب مدينتكم فأهدئوها بأيدي نشاطكم لا بل أيقظوها من سباتها الطويل العادي بأناشيد حضارتكم وعمرانكم لترى الضوء الجديد الذي يحيط بها وغنوا قائلين:

العلم يرفع بيتاً لا عماد له... والجهل يهدم بيت العز والحسب

مجلة (لغة العرب) العدد 30 ــ في 1 اذار 1913