قيس مجيد المولى
يكشف شعر هيرمان هيسه عن لغة بسيطة تمثل اللغة المتداولة والتي تقترب من اللغة الشعبية المغناة، ورغم أن هيسه ليس من رواد الحداثة إذ عده النقاد أحد الشعراء المهمين ضمن الرومانتيكيين الجدد، ويتصف شعر هيسه بالنزعات الإنسانية ولاشك أن للحرب العالمية الأولى ومآسيها الأثر الكبير في صقل شخصية هيسه الشعرية التي كانت تبحث عن السلام والاطمئنان الروحي وسبر أغوار الطبيعة.
لقد انتج في مجال الشعر ما يقارب من أحد عشر مجموعة شعرية وكان القاسم المشترك بينهما الإحساس بسلبية الإنسان أمام الموت – اليأس – الفراق – الأحلام الغامضة – الحزن ولعل مسميات هذه المشاهد قد عاشها حين انخرط أثناء الحرب في أعمال الصليب الأحمر وقدمت له تلك التجربة وظروفها الطقوس الروحية الملائمة التي سعى بها لكشف تجربته تلك التي تلازم بها عنصري الروح والعقل وكان قد سبق له ودرس اللاهوت وعمل 0في اعمال حرة وبسيطة منها (بائع كتب – حرف يدوية..) ولكن تجربة هيسه القصصية والروائية قد طغت على تجربته الشعرية بل شكلت له فارقا ما بين المسارين إذ استوعبت تجربته القصصية والروائية ما كان يريد نقله من تلك المخاضات التي ولدتها الحرب العالمية الأولى وما بعدها من إرهاصات ثقافية واجتماعية واقتصادية، وعند الحديث عن تجربته الروائية تكون روايته (لعبة الكريات الزجاجية) من أهم منتجه الروائي حيث قدمَ في هذه التجربة ذلك التآلف بين الشرق الروحي والغرب الصناعي وكان له أن دوّن سيرة ذكرياته في قصته (تحت العجلة) والتي كتبها عام 1906 ولعلها مقدمة لعطائه الشعري والقصصي والذي امتد خلال الثلاثينيات والأربعينيات والخمسينيات حتى وفاته في عام 1962،
ولاشك وكما ذكرنا أن اتجاهات هيسه الشعرية تختلف مع جيله من الشعراء الألمان المحدثين ومنهم (رينيه ماريا ريلكه – هانز كاروسا – جنتر ايش..) كونه مثل الأدب التقليدي الألماني.
إن هيرمان هيسه يتحرك في شعره ضمن المناطق الشائعة والمألوفة على صعيد المكان والزمان والتجارب الذاتية الشخصية وتلك المستقاة من الحوادث وكأنه يسعى لتأرخة الانفعالات النفسية والتحولات الفكرية وحالات التأمل عبر ذلك الفراغ الذي تركته الحروب وكان لألمانيا حصة الأسد منه، فهو لا يصف الأهوال والدمار من خلال وقائعها أي لم يعتن بالمشاهد المادية بقدر اهتمامه بالفوران الروحي المعبر عن الإجحاف الذي يشعر به الإنسان من وجوده:
يقول في إحدى قصائده (نحن نحيا..)
نحن نبتهج بالوهم وبالزبد
نشبه عميانا بلا دليل
نبحث جاهدين في الزمان والمكان
عن شيء
لا نجده
إلا في الأبد
نحن نرجو
النجاة والخلاص
في عطايا الحلم التافهة
بينما نحن آلهة
ونشارك بنصيب في مبدأ الخليقة
إن لغة التشاؤم قد سادت أو قد تسيدت الماخ الشعري لهيسه ولاشك أن القارئ يكتشف هذه اللغة من العديد من قصائده من (عند سماع نبأ وفاة صديق و(في الضباب) و(فناء) فهيسه يستحضر مدلولات ذلك التشاؤم تارة من خلال الريح وأخرى من سقوط أوراق الأشجار وأخرى من خمود النجوم وكل تلك الأوصاف توصله لمقصده عبر اللغة التي ذكرنا في البدء مواصفاتها، ورغم هذا المدخل صوب القنوط واليأس فقد حفلت قصائد أخرى له بالموضوعية لكشف المناطق المتقاربة مابين الأخلاقي والجمالي، فقد عززت تجاربه تلك تجواله في الهند لتقصي السحر في الشرق الأقصى البعيد وهي تجربة حافلة بالمشاهد المرئية والسمعية وبها استذكار ما حيث أن والدته التي كانت زوجة لأحد المبشرين الذين ذهبوا للتبشير بالمسيحية في الهند وحين نتذكره روائيا فلا لاشك عند تذكرنا (اللعب الزجاجية) لابد من التذكير بروايته الأخرى (نارسيس وجولدموند) التي تميز بها هيسه بأسلوبه الروائي الجديد الحافل بالإغراءات وذهول التوقع، والى حد ما غزت تلك الرشاقة قصائد أخرى له فيها من حسن الاستخدام العاطفي وحسن اللغة ما يكفي لإثارة المشاعر:
ما أغرب التجوال في الضباب
ما من شجرة ترى الأخرى
كل شجرة تقف وحيدة
حين كانت حياتي لاتزال مضيئة
كل العالم عندي ملئ بالأفراح
والآن
حين يسقط الضباب
لا أحد عدت أراه
حقا
لا يعد حكيما
من لا يعرف الظلام
الذي يفصله عن الجميع
ما أغرب التجوال في الضباب
ما من إنسان يعرف الأخر
الكل وحيد
لقد كان تأثير هيسه واضحا فيما تركه من أعمال قصصية وشعرية على الأجيال الأدبية اللاحقة والتي اعتبرت نتاجه الأدبي في الشعري والقصصي مقدمة جديدة للدخول الى عالم المعنى الجديد الذي يرتكز على البناء النفسي للإنسان وحقيقة وجوده التي أكمل متابعتَها في ذئب البوادي.