حسام السراي
ابن الناصرية الذي أتى ليخترقَ الأسوارَ التقليدية للفنّ العراقيّ بألحانٍ آخاذةٍ ومبتكرة، كانت تجتذبُ كلّ من يسمعُها، فهو الشابُ الذي أتى ليغيّر من نمطيةِ اللحن العراقيّ، يومَ تضافرت مع ظهورِه عواملُ أخرى، في مقدمتها أنّه جاءَ من مدينةٍ مبدعةٍ أعطت للبلادِ الكثير من الرموز ومنحته في الوقتِ نفسه ثقةً استثنائية بذاته، منذ أنْ كان صبياً يسحرُ شيوخ قريته (الغازية)
بعزفِه على الناي، ومعها أيضاً كانت الساحةُ على موعدٍ مع بروزِ أصوات متميّزة شكّلت محطّةً جديدةً في تاريخ الغناء العراقيّ، حيث فاضل عواد، وسعدون جابر، وياس خضر، وحسين نعمة، ورياض أحمد، وصلاح عبدالغفور، وقبلهم بالطبع قائمةٌ طويلةٌ من الروّاد. اضافة إلى ذلك، لم يكن لهذه الحناجر أنْ تصدحَ بجواهر بقيت راسخةً وخالدةً إلى يومنا في أذهان العراقيّين، لولا وجود كلمات مكتوبة بحسٍ لم يستسهل اللهجة العامية العراقيّة وبنهج واعٍ في تحديث قصائد الشعر الشعبيّ، ليس مثلما يحصل اليوم، حيثُ أي كلامٍ يمكن له في عراق 2013 أنْ يصبحَ أغنية "قلب قلب وين وين غايب عليه يومين، لتغيب أكثر حبيبي أخاف أموت من الحنين!!". كانت حلقة الابداع تلك تكتملُ مع قصائد مظفر النواب، زامل سعيد فتاح، طارق حسين، عدنان عيدان.
ميزةُ ألحان القره غولي ضمن ظاهرة لحنية أعم شملت كوكب حمزة ومحمد جواد أموري وكمال السيّد، هي استيعابُ الوجود العراقيّ الطافح بالحزن، واضاءةُ الالتماعات التي يحفلُ بها النصُّ الشعريّ وجعلُها حيزاً للارتقاء بالأغنية ككلّ، ضمنَ صعودٍ وهبوطٍ موسيقي يأخذُ المتلقي الى متاهاتٍ جماليةٍ مشعةٍ بروح متطلّعة مثّلها عقدُ السبعينات العراقيّ، لننتبه هنا إلى توصيفه لاشتغالاته في التلحين من بين اجاباته في حوار صحافيّ:" الأغنية العراقيّةُ آنذاك لم تكن مشجعة لأن أسمعها إذ كانت عبارة عن ملتوّن واحد، والكلام ليس سوى ثيمة بسيطة تشبه (الردة) تتكرّر في كلّ مقطع موسيقي، وهي تفتقرُ الى الابتكارِ بعكسِ بعض الأغاني أو البستات المشتقة من المقامات العراقيّة، ومن بابِ الثقة بالنفسِ كنت أعدّ نفسي معنياً بالتجديد والابتكار. لذلك فقد كانت الأغاني الأولى طويلة؛ لأنّي متأثّرٌ بالملحنين المصريّين وأفهمُ طرائق التلحين لديهم، وحينما بدأتُ التلحينَ من خلال المعرفة الذاتية، وخلفية ثقافيّة... هكذا فقد توجت الأغنية العراقيّة بمقدمة موسيقيّة، ولكلّ كوبليه لحن خاصّ به، ومقدمة موسيقيّة أيضاً.. لتكون الأغنية غنية بالموسيقى ـ في السبعينيات.. ".
كانَ ذلك قبل أنْ يأتي أوانُ حزِّ الرقاب بوصول صدّام الى السلطة وبلوغ البلاد مرحلة اقفال الأبواب بوجه التعدّدِ السياسيّ والثقافيّ، وكانت الأقدار أنْ يختار القره غولي البقاءَ في الداخل، وهو العارفُ بخطورة هذا الخيار وفداحته على مستوى تقديمِ التنازلات لسلطة هوجاء لا ترحم.
وهو يقدّمُ للغناء العراقيّ أرقى الألحان وأنضجها، ظلّ يبحثُ عن الشعر الذي يكمل معادلة الابداع عنده، فكانت "حاسبينك"، "كذاب"، "تكبر فرحتي"، "أتنه أتنه"، "روحي"، "البنفسج"، "آنة وأنت"، "هذا آنه وهذاك أنت"، "راجعين"، "عزاز"، "تايبين"، "آنه من حبيت"، "حنيت الك بالحلم"، "ياحبيبي"، "ياطير الشوق"، "وداعاً ياحزن"، "تعال لحبك"، "يا روحي چذاب الهوى".
يحصلُ بعد العام 2005 أنْ يغادرَ العراقَ صوبَ سوريا، ويقيم في دمشق تحديداً، رأيته هناك مرّتين، مرّة في بيت الصديق الشاعر رياض النعماني، يوم كان يلحنُ لياس خضر افتتاحية مهرجان المدى التي يقول مطلع القصيدة للنعماني عن الشاعر الكبير الجواهري"هو الذي رأى زمن البلاد إلي ييجي(يأتي) وشاف(رأى) إلي ما ينشاف.. هو إلي قره(قرأ) الغيب بمهجة العرّاف"، وثانية في مبنى تجديد الاقامة في حيّ البرامكة بالشام العام 2007.
تمر الأيّامُ ويسافرُ القره غولي (أبو شوقي) صوبَ العاصمة السويديّة استوكهولم، التي قصدَها لإحياء حفل فنيّ ساهر، هناك تعرّض إلى أزمةٍ صحيةٍ بفعلِ مرض السكر الذي لم يكن أمامه إلا أن يتمّ بترُ ساقه اليمنى، وقبل عام تحديداً قرّرَ العودة إلى العراق، وإلى مدينة النشأة والذكريات، لتستقبله الناصرية وقبلها بغداد، في احتفالات ثلاث الأوّل أقيمَ في قاعة الرباط ببغداد برعاية دائرة الفنون الموسيقيّة، والثاني في منتدى الناصرية للابداع، والثالث في ملتقى الخميس الابداعيّ باتحاد الأدباء.