محمد عبده ..وسؤال الاصلاح

محمد عبده ..وسؤال الاصلاح

محمد عمارة
حول بدايات القرن الرابع عشر الهجري، تألقت الدعوة الإصلاحية للإمام محمد عبده في واقع حضاري تميز بسيادة الجمود والتقليد في دوائر طلاب العلم الديني وهو غلو يحجب الدين والإصلاح الإسلامي عن الواقع والحياة يخلق الفراغ الديني الحق في هذا الواقع، ويبعد المنهاج الإصلاحي الإسلامي عن أن يكون هو سبيل الأمة للنهضة والتقدم.

كما تميز هذا الواقع الحضاري بزحف النموذج الغربي في التقدم والتحديث على الشرق الإسلامي، ذلك النموذج الذي وفد إلى بلادنا في ركاب الغزوة الاستعمارية الغربية الحديثة لعالم الإسلام.. وهو نموذج قد تميز بالغلو الشديد، وذلك عندما انحاز إلى عالم الشـهادة رافضًا عــالم الغيب.. وإلى الدنيا في مواجهة الدين.. وإلى الفردية في مقابلة الجماعة.. وإلى الأرض في رفضه لحكمة السماء وشريعتها.. وإلى المادية والوضعية في مقابلة الروح.


والى القوة في مواجهة العدل.. والى الصراع بدلاً من التدافع.. والى العقل في مقابلة النقل والوجدان.. فملأ هذا النموذج الغربي الفضاء الفلسفي والثقافي والسياسي بحشد غفير من «الثنائيات المتناقضة»، التي عبرت وتعبر عن غلو التفريط، المقابل لغلو الإفراط الذي مثله الجمود والتقليد السائدان بين طلاب علوم الدين في شرقنا الإسلامي، بذلك التاريخ.
ولمجافاة كلا الموقفين ــ جمود طلاب علوم الدين.. وجحود طلاب العلوم الغربية.. لمنهاج الوسطية الإسلامية في الإصلاح والنهوض، كان حرص الإمام محمد عبده على تمييز منهاجه في الإصلاح بسمة الوسطية الإسلامية الجامعة.. فكتب عن تميز موقفه ومنهجه ودعوته بهذه الوسطية عن أهل الجمود والتقليد للموروث، وأهل الجمود والتقليد للوافد الغربي.. فقال:
«ولقد خالفت في الدعوة اليه.. (أي الى منهجه في الإصلاح) رأي الفئتين العظيمتين اللتين يتركب منهما جسم الأمة: طلاب علوم الدين ومن على شاكلتهم، وطلاب فنون هذا العصر ومن هو في ناحيتهم».
ثم تحدث عن أن هذه الوسطية.. التي انحاز اليها.. وتميز بها منهاجه الإصلاحي ــ ليست خيارًا ذاتيا، وإنما هي منهاج الإسلام، الذي تميز به عن الغلو الذي أصاب أهل الشرائع الأخري.. «فلقد ظهر الإسلام، لا روحيا مجردًا، ولا جسديا جامدًا، بل إنسانيا وسطًا بين ذلك، آخذًا من كلتا القبيلتين بنصيب، فتوافر له من ملاءمة الفطرة البشرية ما لم يتوافر لغيره، ولذلك سمي نفسه: دين الفطرة.وعرف له ذلك خصومه اليوم، وعدوه المدرسة الاولى التي يرقي فيها البرابرة على سلم المدنية».
فالوسطية هي السمة المميزة للإسلام، وهي السبب الذي جعل الإسلام دين الفطرة البشرية السوية.. فكان لذلك سلم الارتقاء على درب المدنية، بشهادة الخصوم قبل الأصدقاء!
ولقد أفاض الأستاذ الإمام في الحديث عن هذه الوسطية الإسلامية، الجامعة ــ في الإصلاح ــ بين الدين والدنيا.. وذلك في تفسيره قول الله ــ سبحانه وتعالي ــ (وكذلك جعلناكم أمة وسطًا) ــ البقرة: 143 مشيرًا الى دلالات مجيء الحديث عن الوسطية الإسلامية في سياق حديث القرآن عن الهداية الإلهية للإنسان (والله يهدي من يشاء).. فقال:
«أي على هذا النحو من الهداية جعلناكم أمة وسطًا».
ثم عرض لمعني هذه الوسطية الإسلامية في تراث السلف.. ثم أضاف رؤيته التي جعلتها منهاجًا في النظر والإصلاح.. فقال:
«لقد قالوا: الوسط هو العدل والخيار، وذلك لأن الزيادة على المطلوب في الأمر إفراط، والنقص عنه تفريط وتقصير، وكل من الإفراط والتفريط ميل عن الجادة القويمة، فهو شر ومذموم، فالخيار هو الوسط بين طرفي الأمر، أي المتوسط بينهما.
ولكن، يقال: لم اختير لفظ الوسط على لفظ الخيار، مع أن هذا هو المقصود؟ والأول إنما يدل عليه بالالتزام؟
والجواب من وجهين:
أحدهما: أن وجه الاختيار هو التمهيد للتعلىل الآتي، فإن الشاهد على الشيء لابد أن يكون عارفًا به، ومن كان في أحد الطرفين فلا يعرف حقيقة حال الطرف الآخر ولا حال الوسط أيضًا.
وثانيهما: أن في لفظ الوسط إشعارا بالسببية، فكأنه دليل على نفسه، أي أن المسلمين خيار وعدول لأنهم وسط، ليسوا من أرباب الغلو في الدين المفرطين، ولا من أرباب التعطيل المفرطين، فهم كذلك في العقائد والأخلاق والأعمال».
ثم مضي الأستاذ الإمام الى الحديث عن أن هذه الوسطية الإسلامية إنما جاءت ثورة على شيوع الغلو ــ غلو الإفراط والتفريط ــ الذي ساد الشرائع والأنساق الفكرية التي سبقت ظهور الإسلام:
«ذلك أن الناس كانوا قبل ظهور الإسلام على قسمين:
قسم تقضي عليه تقاليده المادية المحضة، فلا هم له إلا الحظوظ الجسدية، كاليهود والمشركين، وقسم تحكم عليه تقاليده بالروحانية الخالصة، وترك الدنيا وما فيها من اللذات الجسمانية كالنصاري والصابئين وطوائف من وثنيي الهند أصحاب الرياضات.
وأما الأمة الإسلامية فقد جمع الله لها في دينها بين الحقين، حق الروح وحق الجسد، فهي روحانية جسمانية. وإن شئت قلت: إنه أعطاها جميع حقوق الإنسانية، فإن الإنسان جسم وروح، حيوان ومَلك، فكأنه قال: جعلناكم أمة وسطا، تعرفون الحقين وتبلغون الكمالين (لتكونوا شهداء) بالحق (على الناس) الجسمانيين بما فرطوا في جنب الدين، والروحانيين إذ فرطوا وكانوا من الغالين، تشهدون على المفرطين بالتعطيل، القائلين (إن هي إلا حياتنا الدنيا نموت ونحيا وما يهلكنا إلا الدهر) بأنهم أخلدوا الى البهيمية، وقضوا على استعدادهم بالحرمان من المزايا الروحانية وتشهدون على المفرطين بالغلو في الدين القائلين إن هذا الوجود حبس للأرواح وعقوبة لها، فعلىنا أن نتخلص منه بالتخلي عن جميع اللذات الجسمانية وتعذيب الجسد وهضم حقوق النفس، وحرمانها من جميع ما أعده الله لها في هذه الحياة. تشهدون عليهم بأنهم خرجوا عن جادة الاعتدال، وجنوا على أرواحهم بجنايتهم على أجسادهم وقواهم الحيوانية، تشهدون على هؤلاء، وتسبقون الأمم كلها باعتدالكم وتوسطكم في الأمور كلها، ذلك بأن ما هُديتم اليه هو الكمال الإنساني الذي ليس بعده كمال، لأن صاحبه يعطي كل ذي حق حقه، يؤدي حقوق ربه، وحقوق نفسه، وحقوق جسمه، وحقوق ذوي القربي، وحقوق سائر الناس
(ويكون الرسول علىكم شهيدًا) أي أن الرسول ــ عليه الصلاة والسلام ــ هو المثال الأكمل لمرتبة الوسط. وإنما تكون هذه الأمة وسطًا باتباعها له في سيرته وشريعته، وهو القاضي على الناس فيمن اتبع سنته ومن ابتدع لنفسه تقاليد أخري أو حذا حذو المبتدعين.
فكما تشهد هذه الأمة على الناس بسيرتها وارتقائها الجسدي والروحي بأنهم قد ضلوا عن القصد، يشهد لها الرسول بما وافقت فيه سنته وما كان لها من الأسوة الحسنة فيه، بأنها استقامت على صراط الهداية المستقيم، فكأنه قال: إنما يتحقق لكم وصف الوسط إذا حافظتم على العمل بهدي الرسول واستقمتم على سنته، وأما إذا انحرفتم عن هذه الجادة فالرسول بنفسه ودينه وسيرته حجة علىكم بأنكم لستم من أمته التي وصفها الله في كتابه بهذه الآية، وبقوله: (كنتم خير أمة أخرجت للناس تأمرون بالمعروف وتنهون عن المنكر وتؤمنون بالله) ــ آل عمران: 110، بل تخرجون بالابتداع من الوسط، وتكونون في أحد الطرفين».
فالوسطية هي منهاج الإسلام في صياغة الإنسان المسلم.. وهي سبيل إسلامية الإصلاح في المجتمعات.. وهي الطور المتقدم الذي انتقلت الإنسانية اليه بشريعة الإسلام.. وهي شرط خيرية الأمة الإسلامية.. وهي ــ لذلك ــ «صراط الهداية المستقيم». كما قال الأستاذ الإمام.
وفي معرض مقارنة الإمام محمد عبده بين وسطية الإسلام وبين الغلو النصراني في الرهبانية والحرمان من حقوق الجسد وزينة الدنيا، وجعل الدين بديلاً ونقيضًا للحياة الدنيا.. تحدث عن أولية الحياة الدنيا ــ في الإسلام على الدين، وعن تأليف الوسطية الإسلامية وجمعها بين الحياة وبين الدين.. فقال:
«الحياة في الإسلام مقدمة على الدين. أوامر الحنيفية السمحة إن كانت تختطف العبد الى ربه، وتملأ قلبه من رهبه، وتفعم أمله من رغبه، فهي مع ذلك لا تأخذه عن كسبه، ولا تحرمه من التمتع به، ولا توجب عليه تقشف الزهادة، ولا تجشمه في ترك الملذات ما فوق العادة.
صاحب هذا الدين ــ صلى الله عليه وسلم ــ لم يقل: «بع ما تملك واتبعني». ولكن قال لمن استشاره فيما يتصدق به من ماله: «الثلث»، والثلث كثير، إنك إن تذر ورثتك أغنياء خير من أن تدعهم عالة يتكففون الناس».
والقاعدة قد عمت: «صحة الأبدان مقدمة على صحة الأديان» فترى الدين قد راعى في أحكامه سلامة البدن كما أوجب العناية بسلامة الروح.
أباح الإسلام لأهله التجمل بأنواع الزينة، والتوسع في التمتع بالمشتهيات، على شريطة القصد والاعتدال، وحسن النية، والوقوف عند الحدود الشرعية، والمحافظة على الرجولية. جاء في الكتاب العزيز: (يا بني آدم خذوا زينتكم عند كل مسجد وكلوا واشربوا ولا تسرفوا إنه لا يحب المسرفين قل من حرم زينة الله التي أخرج لعباده والطيبات من الرزق قل هي للذين آمنوا في الحياة الدنيا خالصة يوم القيامة، كذلك نفصل الآيات لقوم يعلمون. قل إنما حرم ربي الفواحش ما ظهر منها وما بطن والإثم والبغي بغير الحق وأن تشركوا بالله ما لم ينزل به سلطانًا وأن تقولوا على الله ما لا تعلمون) ــ الأعراف 31 ـ 33.
ووضع قانونًا للإنفاق وحفظ المال في قوله: (إن المبذرين كانوا إخوان الشياطين وكان الشيطان لربه كفورًا. ولا تجعل يدك مغلولة الى عنقك ولا تبسطها كل البسط فتقعد ملومًا محسورًا) ــ الإسراء: 27، 28.
وخشي على المؤمن أن يغلو في طلب الآخرة فيهلك دنياه وينسي نفسه منها، فذكرنا ــ بما قصه علىنا ــ أن الآخرة يمكن نيلها مع التمتع بنعم الله علىنا في الدنيا، إذ قال: (وابتغ فيما آتاك الله الدار الآخرة ولا تنس نصيبك من الدنيا وأحسن كما أحسن الله الىك ولا تبغ الفساد في الأرض إن الله لا يحب المفسدين) ــ القصص: 77.
فنرى أن الإسلام لم يبخس الحواس حقها، كما أنه هيأ الروح لبلوغ كمالها. فهو الذي جمع للإنسان أجزاء حقيقية، واعتبره حيوانًا ناطقًا، لا جسمانيا صرفًا، ولا ملكوتيا بحتًا، وجعله من أهل الدنيا كما هو من أهل الآخرة، واستبقاه من أهل هذا العالم الجسداني كما دعاه الى أن يطلب مقامه الروحاني. أليس يكون بذلك وبما بينه في قوله: (هو الذي خلق لكم ما في الأرض جميعًا) ــ البقرة: 29.. قد أطلق القيد عن قواه، ليصل من رفه الحياة الى منتهاه؟ والنفوس مطبوعة على التنافس، قد عزز فيها حب التسابق فيما تعتقده خيرًا أو تجده لذيذًا أو تظنه نافعًا، وليس في الغريزة الإنسانية أن يقف بها الطلب عند حد محدود، أو ينتهي بها السعي الى غاية لا مطالع للرغبة وراءها، بل خصها الله بالمكنة من الرقي في أطوار الكمال في جميع وجوهه الى ما شاء الله أن ترقى بدون حد معروف).
هكذا تحدث الإمام محمد عبده عن الوسطية الإسلامية الجامعة.. التي هي خصيصة من خصائص الإسلام.. وقسمة ثابتة من قسمات المنهاج الإسلامي في الإصلاح ــ إصلاح النفس.. وإصلاح الاجتماع الإنساني ــ كما تحدث عن انحيازه الى هذه الوسطية الإسلامية، وتميز منهاجه الإصلاحي بهذه الوسطية عن أهل الغلو ــ غلو الإفراط عند طلاب علوم الدين في عصره.. وغلو التفريط عند طلاب النموذج الغربي الوافد في ركاب الاستعمار.
ولقد امتلأت صفحات آثاره الفكرية بالتطبيقات ــ النظرية والعملية ــ لمنهاج الوسطية الإسلامية على ميادين المشروع الإصلاحي.. المشروع النهضوي للإصلاح بالإسلام.. والذي اتخذ فيه الأستاذ الإمام من تجديد الدين سبيلاً لتجديد دنيا المسلمين.
مقام العقل.. وحدوده
ولم يقف حديث الإمام محمد عبده عن العقل عند هذا الذي قدمه في «نظرية المعرفة الإسلامية»، عندما وضعه ضمن «الهدايات الأربع» التي هي سبيل الإنسان الى المعارف والعلوم.. والى الصراط المستقيم.. وإنما ــ فوق ذلك ــ كان العقل ميدانًا لمعركة كبرى وخصبة خاضها الأستاذ الإمام ضد طرفي الغلو: «غلو السلفية الحرفية»، التي تنكرت لهداية العقل، عندما اكتفت بالوقوف عند حرفية النصوص وظواهرها، غافلة عن تعقل المقاصد الشرعية من وراء هذه النصوص.. وغلو «المادية الوضعية الغربية»، التي ألّهت العقل، وتجاوزت بإدراكاته حدود «النسبية» ــ ككل ملكات الإنسان ــ الى حيث ادّعت «الإطلاق» لمدركاته، رافعة شعار «التنوير الوضعي الغربي»، القائل: «لا سلطان على العقل إلا للعقل وحده»! وهو الشعار الذي يعني الرفض لأن يكون الوحي والنقل، وكذلك القلب والوجدان من مصادر الهداية والمعرفة بالنسبة للإنسان أي الرفض للوسطية الإسلامية الجامعة.
خاض الإمام محمد عبده معركة «العقلانية الإسلامية» هذه من منطلق الوسطية الإسلامية الجامعة، ضد طرفي الغلو في التعامل مع العقل.. فكتب منتقدًا الغلو «السلفي» للوهابية ــ رغم عدَه إياها من حركات الإصلاح.. وذلك لتكفيرها جمهور المسلمين.. ولتشددها غير المبرر ضد الآثار الإسلامية ــ ومنها قبة قبر رسول الله ــ صلي الله عليه وسلم ــ التي همت بهدمها! وأيضًا ــ وهذا هو الأهم في موضوعنا ــ لتنكبها طريق العقلانية الإسلامية، ومجافاتها سبيل النظر العقلي، مكتفية بالوقوف عند حرفية النصوص وظواهرها.
ولقد كتب الأستاذ الإمام في نقد هذه «السلفية الوهابية» يقول:
«لقد قام الوهابية للإصلاح، ومذهبهم حسن، لولا الغلو والإفراط:
ــ أي حاجة الى قولهم بهدم قبة النبي ــ صلى الله عليه وسلم ــ؟!
ــ والقول بكفر جميع المسلمين؟!
ــ والعمل على إخضاعهم بالسيف، أو إبادتهم؟!
نعم، لا بأس بالمبالغة في القول والخطابة لأجل التأثير بالترغيب أو الترهيب والتنفير، ولكن، ما كل ما يقال يكتب ويبني عليه عمل.
ثم انتقد مجافاة هذه «السلفية الحرفية» لمنهاج النظر العقلي والعقلانية الإسلامية، هذه المجافاة التي جعلتهم أضيق صدرًا بالعقل والعقلانية من المقلدين الذين يعادون الإصلاح.. فقال:
«وهذه الفئة أضيق عِطنًا ــ «أفقًا» ــ وأحرج صدرًا من المقلدين. وهي، وإن أنكرت كثيرًا من البدع، ونحت عن الدين كثيرًا مما أضيف اليه وليس منه، فإنها ترى وجوب الأخذ بما يفهم من لفظ الوارد، والتقيد به، بدون التفات الى ما تقتضيه الأصول التي قام عليها الدين، واليها كانت الدعوة، ولأجلها مُنحت النبوة، فلم يكونوا للعلم أولياء ولا للمدنية أحباء».
انتقد الإمام محمد عبده هذه «السلفية ــ الإصلاحية»، لمجافاتها منهاج النظر العقلي والعقلانية الإسلامية ــ وهو السلفي العقلاني، الذي أعلن أن هدفه من وراء دعوته السلفية العقلانية، هو «تحرير الفكر من قيد التقليد، وفهم الدين على طريقة سلف الأمة، قبل ظهور الخلاف، والرجوع في كسب معارفه الى ينابيعها الاولى، واعتبار الدين من ضمن موازين العقل البشري».. فميز بين سلفيته العقلانية، الداعية الى «تحرير الفكر من قيد التقليد» وبين «السلفية الوهابية» التي جافت العقل والعقلانية، فغدت ــ في هذا الميدان ــ أضيق أفقًا من المقلدين! وقادها هذا الجفاء للعقل الى حيث تنكبت طريق العلم والمدنية!
كذلك انتقد الإمام محمد عبده «الغلو المادي الوضعي»، الذي ذهب أصحابه على درب «تأليه العقل» الى حد إنكار أن يكون النقل والوحي مصدرًا من مصادر المعرفة.. حتى لقد ذهب نفر منهم الى تفسير المعجزات والخوارق ــ وكل ما لا يستقل العقل والحس بإدراك كنهه ــ تفسيرًا ماديا!
وللصلة الوثيقة بين مقام العقل في الإسلام.. وبين تقرير الإسلام الارتباط بين الأسباب والمسببات.. كتب الأستاذ الإمام.. عن:
ــ السببية: «إن القول بنفي الرابطة بين الأسباب والمسببات جدير بأهل دين (يقصد النصرانية) ــ ورد في كتابه «الإنجيل»: أن الإيمان وحده كاف في أن يكون للمؤمن أن يقول للجبل تحول عن مكانك، فيتحول الجبل!.. يليق بأهل دين تُعد الصلاة وحدها، إذا أخلص المصلي فيها، كافية في إقداره على تغيير سير الكواكب وقلب نظام العالم العنصري!.. وليس هذا الدين هو الإسلام.
دين الإسلام هو الذي جاء في كتابه: (وقل اعملوا فسيري الله عملكم) ــ التوبة: 105 ــ (وأعدوا لهم ما استطعتم من قوة ومن رباط الخيل) ــ الأنفال: 60 ــ (سنة الله في الذين خلوا من قبل ولن تجد لسنة الله تبديلاً) ــ الأحزاب: 62 وأمثالها.
وليس من الممكن لمسلم أن يذهب الى ارتفاع ما بين حوادث الكون من الترتيب في السببية والمسببية إلا إذا كفر بدينه قبل أن يكفر بعقله!.
كما كتب الأستاذ الإمام:
ــ عن السنة الكونية الحاكمة لسير العالم والاجتماع:
«إن لله في الأمم والأكوان سننًا لا تتبدل.. وهي التي تُسمي شرائع، أو نواميس، أو قوانين.. ونظام المجتمعات البشرية وما يحدث فيها، هو نظام واحد لا يتغير ولا يتبدل، وعلى من يطلب السعادة في المجتمع أن ينظر في أصول هذا النظام حتى يرد اليه أعماله، ويبني عليها سيرته، وما يأخذ به نفسه، فإن غفل عن ذلك غافل فلا ينتظر إلا الشقاء، وإن ارتفع في الصالحين نسبه، أو اتصل بالمقربين سببه، فمهما بحث الناظر وفكر، وكشف وقرر أتي لنا بأحكام تلك السنة، فهو يجري على طبيعة الدين، وطبيعة الدين لا تتجافي عنه، ولا تنفر منه.
(قد خلت من قبلكم سنن فسيروا في الأرض فانظروا كيف كان عاقبة المكذبين) ــ آل عمران: 137، إن إرشاد الله إيانا الى أن له في خلقه سننًا، يوجب علىنا أن نجعل هذه السنن علمًا من العلوم المدونة، لنستديم ما فيها من الهداية والموعظة على أكمل وجه، فيجب على الأمة ــ في مجموعها ــ أن يكون فيها قوم يبينون لها سنن الله في خلقه، كما فعلوا في غير هذا العلم من العلوم والفنون التي أرشد اليها القرآن بالإجمال، وبينها العلماء بالتفصيل عملاً بإرشاده، كالتوحيد والأصول والفقه.
والعلم بسنن الله تعالي من أهم العلوم وأنفعها، والقرآن يحيل عليه في مواضع كثيرة، وقد دلنا على مأخذه من أحوال الأمم إذ أمرنا أن نسير في الأرض لأجل اجتلائها ومعرفة حقيقتها.
وبهذا الأصل، الذي قام على الكتاب وصحيح السنة وعمل النبي ــ صلي الله عليه وسلم ــ مُهدت بين يدي العقل كل سبيل، وأزيلت من سبيله جميع العقبات، واتسع له المجال الى غير حد».
ثم خلص الأستاذ الإمام ــ في حديثه عن العقلانية الإسلامية ــ الى تقرير الحقيقة التي خالف فيها الإسلام أهل «الغلو العقلاني».. وذلك عندما وضع للعقل حدودا لا يتعداها ــ وهي حدود عالم الشهادة ــ وقرر حاجته الى الوحي في معرفة نبأ الغيب والسماء.. وكثير من مقادير الأحكام في العبادات..
ولذلك، كتب الأستاذ الإمام، فقال:
ــ عن حدود العقل الإنساني:
«إن العقل البشري وحده ليس في استطاعته أن يبلغ بصاحبه ما فيه سعادته في هذه الحياة، اللهم إلا في قليل ممن لم يعرفهم الزمن، فإن كان لهم من الشأن العظيم ما به عرفهم أشار اليهم الدهر بأصابع الأجيال!.
وقد يكون من الأعمال مالا يمكن درك حسنه، ومن المنهيات ما لا يعرف وجه قبحه، وهذا النوع لا حسن له إلا الأمر ولا قبح إلا النهي.
إن مجرد البيان العقلي لا يدفع نزاعًا، ولا يرد طمأنينة، وقد يكون القائم على ما وضع من شريعة العقل يزعم أنه أرفع من واضعها، فيذهب بالناس مذهب شهواته، فتذهب حرمتها، وينهدم بناؤها، ويفقد ما قصد بوضعها.
وإذا قدرنا العقل البشري قدره، وجدنا غاية ما ينتهي اليه كماله إنما هو الوصول الى معرفة عوارض الكائنات التي تقع تحت الإدراك الإنساني.. أما الوصول الى كنه حقيقة فمما لا تبلغه قوته.
ومن أحوال الحياة الأخري ما لا يمكن لعقل بشري أن يصل اليه وحده.. لهذا كان العقل محتاجًا الى مُعين يستعين به في وسائل السعادة في الدنيا والآخرة.
فالعقل هو ينبوع اليقين في الإيمان بالله، وعلمه، وقدرته، والتصديق بالرسالة.. أما النقل فهو الينبوع فيما بعد ذلك من علم الغيب، كأحوال الآخرة، والعبادات.
والذي علىنا اعتقاده: أن الدين الإسلامي دين توحيد في العقائد، لا دين تفريق في القواعد، والعقل من أشد أعوانه، والنقل من أقوى أركانه.
هكذا تكلم الإمام محمد عبده.. وكتب «مقالاً في العقلانية الإسلامية»، من موقع الوسطية الإسلامية الجامعة.. ومن موقع الرفض والنقد للغلو ــ مطلق الغلو ــ غلو التفريط الذي انحازت اليه «السلفية الوهابية» ــ التي جافت العقل، وكأنها خلطت بينه وبين «الهوى»!.. وغلو الإفراط، الذي انحازت اليه المادية الغربية، التي ألّهت العقل، فجعلت سلطانه فوق كل سلطان.. حتى سلطان العلم الإلهي، الكلي والمطلق والمحيط.
فإذا علمنا أن الإمام محمد عبده كان كثير النقد للمعتزلة في كثير من مقولاتهم «العقلانية».. ومنها موقفهم من «التحسين.. والتقبيح».. أدركنا ما في مقالته العقلانية من إبداع وتجديد.

مقدمة كتاب الاعمال الكاملة للامام محمد عبده
تحقيق وتقديم د. محمد عمارة
بيروت 1975.