محمد عبده في عيون الآخرين

محمد عبده في عيون الآخرين

رسالة وفكر محمد عبده ودوره كمفتٍ الديار المصرية، ربما لما تستدعيه هذه الرسالة من صدي في عصرنا الحالي، الذي يعج بدعاوي الإصلاح، بينما لم يحظ دوره السياسي بالقدر الكافي من الدراسة في السنوات الأخيرة.

ويصعب التكهن بأسباب هذا الإغفال النوعي من قبل النخبة الثقافية العربية. هل هو عدم ارتياح لأفكار محمد عبده الإصلاحية التي توائم بين الإيمان والعقل لتعلى قيمة العقل؟ أم هو عدم ارتياح لمزجه بين الأفكار الغربية والإسلامية في إطار الدعاوي الإصلاحية؟ أم هو عدم ارتياح لدور محمد عبده في التعامل مع القوي الغربية؟
لم يكن محمد عبده، صاحب الرسالة الفكرية، من المثقفين القابعين في أبراجهم العاجية، بل كانت له تجارب سياسية في مراحل مختلفة من حياته. بل إن أعلى منصب اعتلاه محمد عبده منذ عام 1899 وحتى وفاته المبكرة في 1905 عن الخامسة والخمسين كان منصب مفتي الديار المصرية وهو منصب سياسي بامتياز. تعامل الشيخ محمد عبده مع أهل الحكم في مصر في فترة صاخبة من تاريخها هي فترة الاحتلال البريطاني. وبالرغم من الانتقاد الذي كان يوجه للإمام بأنه لم يؤيد العرابيين التأييد الكافي فإن علاقته بالثورة العرابية وضباطها وتحفظـاته على الثورة كطريق للإصلاح ربما تستدعي دراسة اخرى بعد مرور حوالي قرنين من محاولات الإصلاح والتحديث والثورة «من فوق». كذلك لم تحظ علاقة الإمام محمد عبده بالفكر والتراث الغربي وبالسياسيين الغربيين بالقدر الوافي من التحليل والدراسة من قبل الدارسين العرب.
بالطبع هنا ليس مجالا لمثل تلك الدراسة، ولكن قد تلقي قراءات في كتابات الغربيين الضوء على صورة محمد عبده في مرآة الغرب، وبالتالي على جزء من دوره في تاريخ مصر السياسي. تنقسم الكتابات التي سنتناولها هنا الى قسمين: الأول؛ السياسيين الذين عاصروه. والثاني؛ المؤرخين الذين تناولوا أعماله وموقفه في الفكر العربي الحديث بعد وفاته. ومن كتابات السياسيين سنتناول كتاب بلنت الشهير: «التاريخ السري للاحتلال الانكليزي لمصر» (1895)، وكتاب اللورد كرومر: «مصر الحديثة» (1908). فعلى الرغم من الخلاف البين بين كرومر وبلنت، حيث كان بلنت من أشد المعارضين لسياسة اللورد كرومر، كان الاثنان على علاقة جيدة بعبده, وكتاباهما مبنيان على معرفتهما الشخصية بالإمام وبمصر في تلك الحقبة. كذلك سنتطرق سريعا لكتاب «كيف دافعنا عن عرابي وأصحابه: قصة عن مصر والمصريين» لبرودلي، المحامي الذي دافع عن العرابيين بعد هزيمتهم في التل الكبير بتكليف من بلنت. أما في مجال الدراسات الاستشراقية فيظل كتاب شارلز أدامز «الإسلام والحداثة في مصر» (1933) ودراسة إيلي خدوري (1966) من أهم الدراسات الغربية عن محمد عبده.
وولفرد سكاون بلنت صاحب «التاريخ السري» هو سليل أسرة أرستقراطية إنجليزية، عمل لفترة قصيرة في السلك الديبلوماسي واحتفظ بعلاقات جيدة مع بعض الديبلوماسيين والسياسيين الإنجليز جعلته على دراية واسعة بكواليس العمل السياسي البريطاني إبان فترة صعود الإمبراطورية. وقد كان بلنت، الشاعر الرومانسي غريب الأطوار، مغرماً بالتجول في الشرق، فزار الشام ومصر والجزيرة العربية والهند مع زوجته لادي انابيلا بلنت حفيدة الشاعر الكبير لورد بيرون. وكان بلنت من أبرز المروجين في إنجلترا لفكرة استقلال العرب عن العثمانيين ولأفكار المصريين الدستوريين.
يذكر بلنت أنه تعرف على محمد عبده في 28 يناير1881 ويصفه بأنه من أفضل وأحكم الرجال ويؤكد أن هذا الوصف جاء بناء على معرفة طويلة عبر فترات وظروف مختلفة. فقد نشأت بين الرجلين صداقة دامت سنوات ونما خلالها إعجاب بلنت بالشيخ حتى أنه يصدر كتابه بصورة لمحمد عبده في مجلس العموم البريطاني.
وفي سياق الحديث عن الثورة العرابية يشير بلنت الى أن محمد عبده اختلف مع فكر وأسلوب الضباط العسكريين، بل ربما لم يكن عبده، وفقا لبلنت، كثير الإعجاب أو التقدير لشخص عرابي نفسه. إلا أنه مع الهجوم البريطاني على مصر لم يسع عبده إلا أن يقف في صف العرابيين من أجل تكوين جبهة لمواجهة التدخل الأجنبي. ويذكر بلنت في معرض محاولته للوساطة بين النواب المصريين والإدارة الانكليزية في أعقاب الأزمة السابقة للاحتلال أن محمد عبده استضاف لقاء بلنت والنواب في منزله ونصح بالتروي والتصالح كعادته، بل يقول بلنت أن عبده كان يسانده في محاولته لإقناع النواب المتشددين بالتنازل عن بعض مطالبهم المتعلقة بلائحة مجلس النواب والإشراف على الميزانية. أما بلنت نفسه، فهو يجاهر باقتناعه بعدالة مطالب النواب، لكنه شرح لهم وجهة نظر الإدارة البريطانية في محاولة لتفادي أزمة كبيرة أدت فيما بعد الى الاحتلال الفعلى لمصر.
يبدو بلنت في روايته المدافع البريطاني الوحيد عن حق المصريين في التحرر، وتبين روايته أيضاً دور المصالح الشخصية لرجال الأعمال الإنجليز أصحاب الاستثمارات في مصر وحاملي السندات المصرية من أمثال عائلة روتشيلد في التمهيد لاحتلال مصر، بالإضافة الى أهمية المزاج الشخصي لكل من الساسة والإداريين الإنجليز والفرنسيين في صياغة الأمور على النحو الذي جرت عليه. ويظهر عبده بالرغم من حداثة سنه نسبيا، في صورة الحكيم، الهادئ بل والمحافظ نوعا ما في آرائه السياسية بالرغم من رفضه للاستبداد.
وفي هذا السياق يقدم بلنت محمد عبده وقد اختلف عن ومع أستاذه ومعلمه جمال الدين الأفغاني، بشكل يتبين منه أن عبده آثر التحول التدريجي والإصلاح على الثورة والعنف والتغيير السريع. كذلك يقول بلنت أن عبده كان يحبذ فصل مسار الإصلاح الاجتماعي عن مسار الإصلاح السياسي، ويركز في فكره ودعوته على الإصلاح الاجتماعي بشقيه الديني والتعلىمي، ويتبني الدعوة الى التدرج والاعتدال في تطبيق الإصلاح السياسي بدلا عن الثورة. وربما يكون لهذا التوجه الفكري دور في تقريبه من سلطة الاحتلال الانكليزي فيما بعد.
يذيل بلنت كتابه «التاريخ السري» بعدة ملاحق يحتوي أحدها على سيرة ذاتية قصيرة لعرابي بقلمه، وتعليقات محمد عبده على هذه السيرة. والواقع أن هذه الملاحق بالذات تساهم في تعقيد الصورة العامة التي يرسمها بلنت للإمام. يذكر محمد عبده بتاريخ مارس 1903 أن الأفغاني كان قد اقترح فكرة قتل الخديوي إسماعيل قبل أن يعزل: «كان الشيخ جمال الدين موافقاً على الخلع واقترح على أنا أن أقتل إسماعيل، وكان يمر في مركبته كل يوم على جسر قصر النيل. ولكن كل هذا كان كلاما نتهامسه فيما بيننا. وكنت أنا موافقاً الموافقة كلها على قتل إسماعيل ولكن كان ينقصنا من يقودنا في هذه الحركة. ولو أننا عرفنا عرابي في ذلك الوقت فربما كان في إمكاننا أن ننظم الحركة معه لان قتل إسماعيل في ذلك الوقت كان يعتبر من أحسن ما يمكننا عمله وكان يمنع تدخل أوروبا. ولكن لم يكن من المستطاع في ذلك الوقت تأسيس جمهورية إذا نظرنا الى حالة الجهل التي كانت سائدة على العقول».
ويعكس هذا التعلىق كلا من تأثير خطاب وآراء الأفغاني الثورية على محمد عبده في فترة مبكرة من حياته وتراجع الإمام واعتداله وميله الى الإصلاح التدريجي في فترة لاحقة لأن الأمة لم تكن على استعداد للجمهورية بعد. في تعلىق آخر أيضا في ملاحق بلنت بتاريخ ديسمبر 1903 يتذكر محمد عبده أحداث عام 1881: «لم تكن الثورة من رأيي وكنت قانعاً بالحصول على الدستور في ظرف خمس سنوات... وقبل مظاهرة عابدين بعشرة أيام التقيت بعرابي في دار طلبه عصمت... فنصحت عرابي بالاعتدال وقلت له: إني أري أن بلاداً أجنبية ستحتل بلادنا وأن لعنة الله ستقع على رأس من يكون السبب في ذلك.... ولكن لما منح الدستور انضممنا جميعاً الى الثورة لكي نحمي الدستور. ولكن عرابي لم يتمكن من ضبط الجيش وكانت عند الضباط مطامع عديدة».
سحقت المقاومة وانهزم العرابيون في التل الكبير وأسفرت المعارك عن احتلال بريطاني لمصر واعتقالات ومحاكمات ونفي لقادة الثورة ومنهم عبده.
أما في كتاب أليكساندر مايريك برودلي «كيف دافعنا عن عرابي وأصحابه: قصة عن مصر والمصريين» فنجد صورة مختلفة قليلا لمحمد عبده. فبرودلي يصف عبده بالعالم والصحفي، وبأنه كان أكثر الوطنيين موهبة وأكثرهم بلاغة وتأثيرا على الطبقة المتعلمة من أبناء بلده. ويقول برودلي وهو محام إنجليزي أوكله بلنت للدفاع عن العرابيين أنه لفترة أثناء المحاكمة بدا وكأن القوة العقلية الهائلة التي تمتع بها محمد عبده قد عكر صفوها نوع من الضعف النفسي والجسماني من جراء الإحباط وخيبة الأمل والتهديد والتعذيب الذي تعرض له: «فعقله وجسمه بدا وكأنهما قد سحقا من دون أمل في الشفاء بسبب رد الفعل العنيف النابع عن الأحلام المدمرة وعذاب اليأس». فعبده ـ كالآخرين ـ أهين في السجن بل يقال أن الخديوي أرسل جمعا من خدمه للبصق على الإمام في سجنه. وبالرغم من تفهم برودلي للضغط الذي تعرض له عبده في محنته إلا أنه يبدو وقد خاب أمله في الموقف الدفاعي المستكين الذي تبناه الشيخ في الدفاع عن نفسه، فقد ركز على كونه قد اتبع التعلىمات الصادرة من رؤسائه ووضع مسافة بينه وبين العرابيين.
انتهت محاكمة محمد عبده بالحكم عليه بالنفي، فرحل الى بيروت ثم الى باريس حيث أنشأ مع أستاذه جمال الدين الأفغاني جماعة وجريدة «العروة الوثقي»، التي دعت الى الجامعة الإسلامية والإصلاح الديني والتحرر والقضاء على الاستبداد. وفي هذه الأثناء حاول عبده لعب دور سياسي عن طريق الاتصال بالإنجليز في محاولة لإيجاد حلول لمشاكل مصر والسودان. ثم عاد الى بيروت حتى سمح له الخديوي، بعد وساطة من سعد زغلول لدي كرومر، بالرجوع الى مصر عام 1888.
لم يكن محمد عبده تقليديا في فكره الديني والفلسفي، إلا أن الكثير من أفكاره المختلفة لها جذور في التراث الإسلامي. فتأثر بأفكار الغزالي، وابن تيمية وابن قيم الجوزية والمعتزلة ودعا الى تجديد الاجتهاد والى إجماع جديد يتماشي مع متطلبات العصر بعكس التقليد الشائع في الفكر الإسلامي آنذاك، كما أنه انتقي الأفكار التي تعزز التوحيد ووحدة الوجود ووحدة الأمة والسلام الاجتماعي. ومزج بين هذه الآراء النابعة من صميم التراث العربي والإسلامي، وبين اخرى مستوحاة من حضارة أوروبا في القرن التاسع عشر. فقد تأثر محمد عبده بالجدل الفكري القائم في أوروبا آنذاك، وانشغل بقضية الخلاف بين العلم والدين مثلا، ولكنه توصل الى اعتقاد راسخ بوسطية الإسلام بين الأفكار المتنافرة وملاءمته للفكر الحديث، فسعي الى تفنيد التناقض بين العلم والدين، وانشغل بالمصالحة بينتهما بما يعمل على تحرير العقل الإسلامي.
ويذهب ألبرت حوراني في كتابه «الفكر العربي في العصر الليبرالي» الى أن اتجاه عبده لم يكن محاولة للدفاع عن الأفكار والمستجدات الأوروبية من منطلق إسلامي بقدر ما كان على العكس؛ محاولة لتبرير الإسلام في ظل المتغيرات الحديثة، وإثبات أن الأمة في أمس الحاجة للإسلام كنظام أخلاقي وديني وكرادع ووازع في ظل المستجدات التي حلت بها. ويبدو أن الأوروبيين الذين عرفوا عبده عن قرب قد شعروا بألفة ما معه، فهو لم يبد لهم المفكر المسلم الغريب المختلف بقدر ما كان على نحو ما مثلهم.
يقول اللورد كرومر مثلا أنه يظن أن عبده كان في حقيقة الامر لا أدرياً (agnostic). بينما يسجل بلنت في مذكراته بتاريخ 28 يناير 1900 تعلىقا على مناقشة دينية دارت بينه وبين عبده عن البشر وعلاقة القوي بالضعيف، فيقول إن عبده لا يؤمن بمستقبل سعيد للجنس البشري ويضيف: «أخشي أن إيمانه بالإسلام، بالرغم من كونه مفتي الديار، ضعيف كضعف إيماني بالكنيسة الكاثوليكية». كذلك أشار برودلي وإن سريعا الى عدم تقليدية أفكار عبده الدينية معلقا أن وطنيته الخالصة وحدها منعت بعض الآخرين من زملائه من رفض أفكاره غير التقليدية: «حتى صديقه عرابي قال ذات مرة: إن القبعة تناسب رأس الشيخ عبده أكثر من العمامة».
لا تكفي مثل هذه التعليقات أو الانطباعات، بالتأكيد، للحكم على إيمان محمد عبده. فنحن نعرف أن تكوينه الثقافي كان واسعا وكانت له اهتمامات صوفية منذ سن صغيرة، كما انه درس الفلسفة الغربية والفكر الأوروبي الحديث، لذا من الطبيعي أن يكون شخصًا متدبرًا ومفكرًا حتى في إيمانه. ولكن المهم في هذه التعليقات ـ ربما ـ أنها توضح لنا الطريقة التي أستقبل بها كاتب هذه التعليقات أفكار محمد عبده.
ففكرة أن محمد عبده لم يكن مسلما بالقدر الكافي أو بالطريقة التقليدية وجدت جذور لها في انتقادات بعض معاصريه المسلمين، وهي انتقادات وجهت للأفغاني أيضا، وكانت وراء رفض العديد من علماء الدين لمقولاتهم حول الدين والوجود. إلا أن «قلة إسلام» عبده لا ترد بصياغة مستهجنة لدي بلنت وكرومر، بل على العكس تماما، حيث يصبح هذا الأمر مثار إعجاب الرجلين لأنه يقرب عبده من نمط المفكر كما يعرفه الغربيون.
أما إيفلين بارنج (اللورد كرومر)، المندوب السامي البريطاني في مصر منذ عام 1883-1907، فهو غني عن التعريف. كانت لديه مثل الكثيرين من أبناء عصره الغربيين نظرة متعالية تجاه المصريين والشرقيين عموما. وقد اتسمت سياسة اللورد كرومر في مصر بالتركيز على النواحي المالية والبنية التحتىة الزراعية وضبط الأمن أكثر من الرغبة في إحداث إصلاح شامل في البلاد.
يصف كرومر محمد عبده في الجزء الثاني من كتابه «مصر الحديثة» بأنه عالم من طراز مختلف عن غيره من العلماء من أبناء عصره. ويقول أنه بالرغم من كون عبده قد أدرك ضرورة المساندة الأوروبية لعملية الإصلاح، إلا أنه لا ينتمي لفئة المصريين المتأوربين الذين ينظر اليهم الإمام باعتبارهم نسخة رديئة من الأصل. ولكن كرومر في الوقت ذاته يتشكك في قدرة محمد عبده على الحكم بمقياس عملي سليم، ويصفه بأنه حالم على الرغم من وطنيته. ويقتبس كرومر تعلىق المستشرق ستانلي لاين ـ بوول أن المسلم المنتمي للشريحة العلىا من الطبقة الوسطي يكون إما متعصبا أو كافرا متخفيا. ويضيف كرومر أنه يعتقد أن صديقه عبده، «بالرغم من أنه كان سيرفض أن تنسب اليه مثل تلك الوصمة، كان في الحقيقة لا أدرياً». ويضيف أن زملاءه حتى عندما اعترفوا بعلمه وقدراته كانوا ميالين لوصفه بالفيلسوف. ثم يشير الى أن وسطية أمثال عبده تجعلهم في مرتبة ادنى من المسلمين التقليديين وادنى من المتأوربين المتعصبين في تغربهم مما يجعل عملهم صعبا ويعني أنهم يستحقون كل التشجيع: «إنهم الحلفاء الطبيعيون للمصلح الأوروبي. ولو أدرك المصريون الوطنيون فإنهم سيجدون في أتباع محمد عبده أفضل أمل في أن ينفذوا تدريجيا برنامجهم لتحقيق الحكم الذاتي». ويؤكد كرومر أنه حاول قدر استطاعته مساندة عبده في مواجهة مقاومة وسخط العلماء التقليديين والخديوي وأنه احتفظ بوظيفته كمفتٍ فقط بمساندة بريطانيا، أي كرومر نفسه.
لم يكن كرومر كثير الإعجاب بالمصريين عموما، ولم يثق في قدرة أي منهم على تسيير أمور البلاد، حيث فضل التعامل مع الأعيان الأتراك. عندما اقترح بلنت في 1887 الاستعانة بمصريين إصلاحيين مثل محمد بليغ، وإبراهيم الوكيل وسعد زغلول والشيخ محمد عبده سخر كرومر من الفكرة واعتبر تعيين حاكم أو رئيس وزراء لمصر من بين «أصدقاء بلنت» من العبث «كتعيين أحد قادة الهنود الحمر حاكمًا عامًا لكندا». ووصف كرومر المصريين بالجهل والفساد والاهتمام بمصالحهم الشخصية فقط في إطار تسخيفه للفكرة بالرغم من أن جميع الأسماء التي اقترحها بلنت كانوا من المتعلمين الذين كان لهم دور في العمل العام ولا تنطبق عليهم أوصاف كرومر النمطية. لذلك يبدو تقدير كرومر لمحمد عبده ومساندته له لافتًا للنظر وإن لم يخرج بالضرورة عن فكرته العامة عن المصريين. فالإمام شغل وظائف مثل القضاء والإفتاء احتاجت لعلماء مصريين ولم يكن من الممكن الاستعاضة عنهم بأجانب. كما أن أفكار عبده في الإصلاح لم تتعارض بالضرورة مع خطة كرومر.
وبعكس النظرة الإيجابية الرومانسية التي نقلها الساسة الإنجليز المعاصرون لعبده، تختلف صورته هو وجمال الدين الأفغاني عند المتخصصين في تاريخ الشرق الأوسط والعالم العربي الذين جاء البعض منهم من المنطقة قبل أن يدرسوا في الجامعات الغربية ويصبحوا لاحقا أساتذة في تلك الجامعات. من هؤلاء مثلا إيلي خدوري أستاذ السياسة وتاريخ الشرق الأوسط في مدرسة لندن للاقتصاد والذي يظهر محمد عبده لديه في دور التابع الواقع تحت تأثير الأفغاني والمؤمن بأفكار غامضة: خليط من الصوفية والماسونية والديانات الشرقية والفلسفة والإسلام. ولا يفصل خدوري كثيرا بين عبده وأستاذه بل يبرز عمق علاقتهما وغرائبيتها. يري خدوري أن صعود عبده في السلم القضائي والشرعي بعد عودته من المنفي جاء بناء على رغبة اللورد كرومر وأن تعيينه كمفتٍ للديار المصرية عام 1899 جاء في أعقاب الصدام بين قوات الاحتلال واثنين من كبار العلماء حول تغيير النظام القضائي.
وتشترك سلفيا حاييم ونيكي كيدي في دراساتهما عن جمال الدين الأفغاني مع خدوري في تقديم الأفغاني ومحمد عبده في صورة ثوريين سريين متآمرين، الأمر الذي يتناقض مع نظرة بعض الغربيين من أمثال بلنت وحتى آدامز، الذي يظهر عبده لديهما في صورة الليبرالي المصلح العامل على تحديث الإسلام. وعلى عكس صورة الحكيم المتروي، يظهر محمد عبده لدي خدوري في صورة المتآمر ضعيف الشخصية المنساق وراء الأفغاني. كما يشكك خدوري في إيمان الأفغاني وعبده ومدي ولائهما لفكرة الإصلاح الديني الإسلامي ويركز على نشاطاتهما الماسوني. وهذه الفكرة وإن وجدت أصول لها في بعض تعليقات كرومر وبلنت، بل ولدي منتقدي محمد عبده من معاصريه، إلا أنها في النصف الثاني القرن العشرين ربما كان لها صدي مختلف. فالتشكيك في جوهر الرسالة الإصلاحية للإمام في الستينيات من القرن الماضي، وهي فترة شهدت ما شهدت من المد القومي العربي والمواجهة في الصراع العربي الإسرائيلي، كان المقصود منه نوعًا مختلفًا من الهجوم على الإسلام والعرب. ففي القرن التاسع عشر كان محمد عبده بطلا إيجابيا لجهوده في إقامة تصالح ما بين الإسلام ومنطلقات الفكر الغربي الحديث، ولكنه والأفغاني لم يعدا أبطالا في قراءة خدوري وأنصاره بل مخادعين ينتحلان صفة علماء الدين.
مما سبق يتضح أن النظرة الإيجابية لمحمد عبده جاءت في ظل الفكر الاستعماري التقليدي المتعالي على كل ما هو شرقي وإسلامي وعربي. وحتى مع تفاوت وجهات النظر الغربية، حيث احتقر البعض العرب والمسلمين ونظر اليهم الآخرون بعين العطف، فإن الإيمان العنصري بتفوق الغرب وسموه كان عاملا ثابتا في معظم الكتابات الغربية. فحتى المتعاطفين نظروا للشرق نظرة رومانسية ترى أن الحياة البسيطة وقيم المروءة والشهامة العربية أفضل للأجناس الشرقية من اللحاق بركب التقدم الصناعي كما في الغرب. لذا كان محمد عبده في هذا الإطار بمثابة الشرقي المستنير الذي في مقدوره أن يتطور دون أن يفقد هويته. واشترك معظم الغربيين المعاصرين لعبده في احترامه واحترام اعتداله ووسطيته. ولم ينتقص رفض بعض معاصريه المسلمين التقليديين لأفكاره من احترامهم له، بل على العكس ربما يكون هذا النقد أحد إيجابياته في نظر هؤلاء الغربيين.
على العكس من ذلك تأتي صورة محمد عبده لدى المستشرقين والمشتغلين بالتاريخ الاجتماعي للمنطقة من أمثال خدوري الذي يركز على الجانب السري والخفي، فيقدم الإمام (والأفغاني أيضاً) في صورة المخادع الذي يضمر عكس ما يظهر، والذي لا يتفق إيمانه الشخصي مع زي العالم الذي يرتديه وموقع المفتي الذي يحتله. بل إن خدوري يذهب الى أن محمد عبده استغل عباءة عالم الدين لنشر أفكاره السياسية الهدامة. ومن اللافت للنظر هنا أن هذا التفكيك لصورة الإمام محمد عبده جاء في سياق الهجوم على القومية العربية أحيانا والجامعة الإسلامية في أحيان اخرى، والاثنين معا في كثير من الأحيان. وهكذا اتفق أعداء الرابطة العربية والإسلامية مع بعض أشد المتعصبين لهاتين الفكرتين في الهجوم على أفكار محمد عبده.
وهكذا يوضح النص أن أعداء محمد عبده من المصريين، الذين يعارضون منهجه الإصلاحي في الدين.. جعلهم يحجمون عن الشهادة ضده أمام المحكمة.
وبعد ذلك صدر الحكم بنفي محمد عبده ثلاث سنوات عن مصر. ولنستمع الى العقاد في تعقيبه الختامي قائلاً: «ولو أن المحامي الانكليزي كاتب هذه النبوءة، أتيح له أن يمد بصره، وراء السنوات الثلاث، لعلم أن البلاد لم تستغنى حقًا عن الإمام محمد عبده، وعلم قبل ذلك أن أمانة الصدق التي عهدها في «موكله» هي التي حملته على أن ينفي ما نفي، ويثبت ما أثبت ولم يحمله على ذلك خوف العقاب، فإنه لم ينقطع عن حملته على الاحتلال، وعلى الخديو صنيعته، في قلب العاصمة البريطانية، وهو يعلم أنه بذلك يطيل منفاه أبدًا، وقد طال منفاه فعلاً خمس سنوات اخرى» وقد عاد الإمام فعلاً بعد صدور العفو عنه! (المرجع السابق 119).


مجلة وجهات نظر اذار 2005