محمد عبده بقلمه

محمد عبده بقلمه

محمد عبده أحد رواد الإصلاح في بدايات النهضة المصرية والعربية الحديثة. لعب دورًا فائق الأهمية في تجديد علاقة الدين الإسلامي بالواقع والمجتمع ونفض عنها غبار الجمود والتخلف الذي ران عليها مئات السنين نتيجة لتوقف علماء المسلمين عن الاجتهاد ومسايرة العصر.

ولد محمد عبده عام 1849 ميلادية في قرية «محلة نصر» بمركز شبراخيت في مديرية البحيرة وتلقى تعليمه الأولي في كتاب القرية ثم بالمسجد الأحمدي في طنطا، لكن صدمه أسلوب التعليم المتخلف وهو نفس الأسلوب الذي كان موجودًا في الأزهر عندما انتقل اليه. وكان لقاء محمد عبده بالشيخ جمال الدين الأفغاني الذي قدم الى مصر في عهد الخديوي إسماعيل بمثابة تحول في حياته وحياة كثير من المصريين المتعلمين بسبب الأفكار التي بثها الأفغاني في عقولهم.
وقد دخل عبده السجن بعد فشل الثورة العرابية ثم قضى 7 سنوات من حياته مشردًا منفيًا. اشترك أثناءها في تحرير جريدة «العروة الوثقي» مع الأفغاني وعاد الى مصر ليتولي بعد ذلك منصب مفتي الديار المصرية. وفي كل ذلك لم يكف يومًا عن العمل من أجل صلاح الأمة وتقدمها الى أن توفي عام 1905.
وقد اخترنا نشر مقتطفات من السيرة الذاتية التي كتبها محمد عبده ولم يكملها وأكملها صاحب المنار السيد رشيد رضا ولم تنشر إلا عام 1931، ثم أعدها وعرضها للنشر في الهلال الأستاذ طاهر الطناحي.
نشأتي وتربيتي
تعلمت القراءة والكتابة في منزل والدي، ثم انتقلت الى دار حافظ قرآن.. قرأت عليه وحدي جميع القرآن أول مرة، ثم أعدت القراءة حتى أتممت حفظه جميعه في مدة سنتين، أدركني في ثانيتهما صبيان من أهل القرية..
بعد ذلك حملني والدي الى طنطا، حيث كان أخي لأمي الشيخ مجاهد رحمه الله، لأجود القرآن في المسجد الأحمدي لشهرة قرائه بفنون التجويد. وكان ذلك في سنة 1279 الهجرية. ورجعت الى محلة نصر على نية ألا أعود الى طلب العلم، وتزوجت في سنة 1282 على هذه النية.
فهذا أول أثر وجدت في نفسي من طريقة التعلىم في طنطا، وهي بعينها طريقته في الأزهر.. وهو الأثر الذي يجده خمسة وتسعون في المائة ممن لا يساعدهم القدر بصحبة من لا يلتزمون هذه السبيل في التعلىم.. سبيل إلقاء المعلم ما يعرفه أو مالا يعرفه بدون أن يراعي المتعلم ودرجة استعداده للفهم، غير أن الأغلب من الطلبة الذين لا يفهمون تغشهم أنفسهم فيظنون أنهم فهموا شيئًا.. فيستمرون على الطلب الى أن يبلغوا سن الرجال، وهم في أحلام الأطفال، ثم يبتلي بهم الناس وتصاب بهم العامة، فتعظم بهم الرزية لأنهم يزيدون الجاهل جهالة، ويضللون من توجد عنده داعية الاسترشاد، ويؤذون بدعاواهم من يكون على شيء من العلم، ويحولون بينه وبين نفع الناس بعمله.
ماذا صنع محمد على؟
ما الذي صنع محمد على؟ لم يستطع أن يحيي، ولكن استطاع أن يميت. كان معظم قوة الجيش معه، وكان صاحب حيلة بمقتضي الفطرة.. فأخذ يستعين بالجيش، وبمن يستميله من الأحزاب، على إعدام كل رأس من خصومه، ثم يعود بقوة الجيش وبحزب آخر على من كان معه أولاً، وأعانه على الخصم الزائل، فيمحقه.. وهكذا، حتى إذا سحقت الأحزاب القوية، وجه عنايته الى رؤساء البيوت الرفيعة، فلم يدع منها رأسًا يستتر فيه ضمير (أنا) واتخذ من المحافظة على الأمن سبيلاً لجمع السلاح من الأهلين، وتكرر ذلك منه مرارًا حتى فسد بأس الأهالي، وزالت ملكة الشجاعة منهم، وأجهز على ما بقي في البلاد من حياة في أنفس بعض أفرادها، فلم يبق في البلاد رأس يعرف نفسه حتى خلعه من بدنه أو نفاه مع بقية بلده الى السودان فهلك فيه.
أخذ يرفع الأسافل ويعليهم في البلاد والقرى، كأنه كان يحن لشبه فيه ورثة عن أصله الكريم حتى انحط الكرام وساد اللئام، ولم يبق في البلاد إلا آلات له يستعملها في جباية الأموال وجمع العساكر بأية طريقة، وعلى أي وجه.. فمحق بذلك جميع عناصر الحياة الطيبة من رأي وعزيمة واستقلال نفسي ليصير البلاد المصرية جميعها إقطاعًا واحدًا له ولأولاده، على أثر إقطاعات كثيرة كانت لأمراء عدة.
الدين والأوقاف
من جدران سلطانه دعامة من الدين.. أي دين كان دعامة لسلطان محمد على؟.. دين التحصيل (جمع الضرائب بالقوة) دين الكرباج.. دين من لا دين له إلا ما يهواه ويريده. وإلا فليقل لنا أحد من الناس أي عمل من أعماله ظهرت فيه رائحة للدين الإسلامي الجليل؟
لا يذكرون إلا مسألة الوهابية، وأهل الدين يعلمون أن الإغارة فيها كانت على الدين لا للدين.. نعم إن الوهابية غلوا في بعض المسائل غلوا أنكره عليهم سائر المسلمين.. وما كان محمد على يفهم هذا، ولا سفك دماءهم لإرجاعهم الى الاعتدال، وإنما كانت مسألة محضة تبعثها جرأة محمد على، على سلطانه العثماني.
نعم أخذ ما كان للمساجد من الرزق، وأبدلها بشيء من النقد يسمى «فائض رزمانة» لا يساوي جزءًا من الألف من إيرادها. وأخذ من أوقاف الجامع الأزهر ما لو بقي له اليوم لكانت غلته لا تقل عن نصف مليون جنيه في السنة، وقرر له بدل ذلك ما يساوي نحو أربعة آلاف جنيه في السنة.
وقصارى أمره في الدين، أنه كان يستميل بعض العلماء بالخلع أو إجلاسهم على الموائد لينفي من يريد منهم إذا اقتضت الحال ذلك، وأفاضل العلماء كانوا عليه في سخط.. ماتوا عليه.
إن هذا الرجل كان تاجرًا زارعًا، وجنديا باسلاً، ومستبدًا ماهرًا، لكنه كان لمصر قاهرًا، ولحياتها الحقيقية معدمًا.
نهضة جمال الدين
جاء الى هذه الديار في سنة 1288 هـ (1871 ميلادية) رجل بصير في الدين، عارف بأحوال الأمم، واسع الاطلاع، جم المعارف، جريء القلب واللسان. وهو المعروف بالسيد جمال الدين الأفغاني، اختار الإقامة في مصر، فتعرف اليه في بادئ الأمر طائفة من طلبة العلم، ثم اختلف اليه كثير من الموظفين والأعيان، ثم انتشر عنه ما تخالفت آراء الناس فيه من أفكار وعقائد، فكان ذلك داعيا الى رغبة الناس في الاجتماع به لتعرف ما عنده.
وكانت مدرسته بيته.. فاشتغل بتدريس بعض العلوم العقلية وكان يحضر دروسه كثير من طلبة العلم، ويتردد على مجالسه كثير من العلماء وغيرهم. وهو في جميع أوقات اجتماعه بالناس، لا يسأم من الحديث فيما ينير العقل، ويطهر العقيدة، أو يذهب بالنفس الى معاني الأمور، أو يلفت الفكر الى النظر في الشؤون العامة مما يمس مصلحة البلاد وسكانها. فاستيقظت مشاعر،وانتبهت عقول، وخف حجاب الغفلة في أطراف متعددة من البلاد خصوصًا القاهرة.
وأخذ الشيخ جمال الدين الأفغاني في حمل من يحضر مجلسه من أهل العلم وأرباب الأقلام على التحرير، وإنشاء الفصول الأدبية والعلمية في موضوعات مختلفة، فأخذت الحرية الفكرية تظهر في الجرائد الى درجة يظن الناظر فيها أنه في عالم خيال، أو أرض غير هذه الأرض


مذكرات محمد عبدة
تحقيق طاهر الطناحي القاهرة 1961