منهج محمد عبده في تناول قضايا المرأة

منهج محمد عبده في تناول قضايا المرأة

شغلت قضية المرأة جزءاً من كتابات محمد عبده الأخيرة, وحاول بهذه الكتابات أن يسد الفجوة القائمة بين واقع المدينة الحديثة التي أعطت المرأة كثيراً من الحقوق, وبين الواقع الذي تعيشه المرأة المسلمة في عصره.

وقد اعترف-في البداية- بحاجة المجتمع إلى التغيير, وربط هذا التغيير بفهم مبادئ الإسلام فهماً صحيحاً, وأثبت أن الإسلام يقبل التغير والتطور, بل يعد التطور من مستلزمات الحياة الضرورية, وأن الدين الإسلامي دين عالمي صالح لجميع الشعوب, وكل الأزمان, (وليس في ديننا شيء ينافي المدنية المتفق على نفعها عند الأمم المرتقية)(12) إلا في بعض المسائل.
ومن أجل تأكيد هذا المعنى اشترك في مناقشات بخصوص حقيقة الإسلام,
منى أحمد


وكان مفتاح دفاعه عن الإسلام فهمه الخاص للدين, القائم على التمييز بين ما هو جوهري وغير متغير فيه, وبين ما هو غير جوهري ويمكن تغييره, ويقع على عاتق العلماء هذا التطوير, ومن هنا اضطلع محمد عبده بهذه المهمة, أي أن يوائم بين المدينة الحديثة ووضع المرأة المسلمة في مصر.
وغني عن الإشارة أن محمد عبده لم يقصده بتأكيده أن الإسلام يحبذ كل ما يعمل باسم التقدم, إن غاية العلماء الجدد تكون إضافة طابع شرعي لكل ما هو حديث, إنما قصد أن ينظر إلى الإسلام وفق مقتضيات العصر, وأن يقدم فهماً جديداً لنصوص الدين, وأن يجتهد في فهم أحكام الدين فهماً جديدًا.
فالقرآن والسنة حددا أحكاماً تفصيلية ثابتة للعبادات, أما المعاملات فلم يحددا لها في الغالب سوى مبادئ عامة, تاركين للناس مهمة تطبيق هذه المبادئ في شتى أحوال الحياة, وهذه هي دائرة الاجتهاد المشروعة, ودائرة الرأي البشري, وميزة المجتمع البشري الأمثل عنده لا تنحصر في الأخذ عن الشريعة فقط, بل تتناول العقل أيضاً, فالمسلم الحقيقي عنده هو الذي يستعمل عقلة في شؤون الدنيا والدين، والكافر الحقيقي هو وحده الذي يطبق عينيه على نور الحقيقة ويرفض النظر في البراهين العقلية.
وأقبل محمد عبده على قراءة القرآن وتفسيره, تحدوه الرغبة في إصلاح حال النساء وتجلية تعاليم الإسلام بتقديم فهم صحيح له, ولم يقدم تفسيراً كاملاً, بل قدم تفسيراً لبعض السور ابتداءً من الفاتحة حتى الآية 125 من سورة النساء(13).
وكان منهجه في هذا الفهم منهجاً يتجاوز سابقيه؛ إذ لم يكن يعنيه إلا فهم روح القرآن والوقوف على معانيه العامة دون التمسك بحرفية الكتاب, ولم يرد أن يأخذ بذلك الفهم الموجود في الكتب والتفاسير الأخرى, بل رأى أن التفسير الصحيح هو الذي يتحكم فيه لطف الوجدان ورقة الشعور, والذوق السليم, والفهم العقلي الواعي(14).
وكان منهجه في هذا الإطار قائماً على أسس ثلاثة:
الأول: فتح باب الاجتهاد، والذي كان إغلاقه سبباً من أسباب أزمة المجتمع الإسلامي وجمود الفكر, وانصراف الكثير عن الأخذ بأحكام الشريعة, على الرغم من أن الاجتهاد مطلوب في كل عصر؛ لأن (الناس لا يأخذون من الوحي في كل زمان إلا بقدر استعدادهم)(15).
الثاني: قراءة النصوص الدينية في ضوء المتغيرات القائمة, ومصالح الأمة دون الخروج على ثوابتها القطعية, وذلك من خلال تأويل النصوص تأويلاً جديداً, فما كان صالحاً في زمن قد يسبب أضراراً في زمن آخر, ومن هنا رأى محمد عبده أن (الدين أنزل لمصلحة الناس وغيرهم, وأن من أصوله منع الضرر والضرار, فإذا ترتب على شيء مفسدة في زمن لم تكن تلحقه فيما قبله, فلا شك في وجوب تغير الحكم وتطبيقه على الحالة الحاضرة, يعني على قاعدة درء المفاسد مقدم على جلب المصالح)(16).
الثالث: الاتجاه إلى الفقه الإسلامي بمذاهبه المختلفة خروجاً من ضيق المذهب الواحد إلى سعة الشريعة, فالإمام محمد عبده كان ينتمي إلى مذهب مالك, ودرس الفقه الحنفي في الأزهر وقام بتدريسه, وعمل عندما كان مفتياً, ورأى أن الجمع بين المذاهب الفقهية الأربعة والتوفيق والتلفيق بينها(17) يخدم حال المسلمين, بل ضم إليها مذاهب أخرى مثل المذهب الجعفري، ونادى بأن يقوم الفقيه بالاجتهاد، حتى وإن لم تكن المسألة مطروحة على أي من المذاهب المعروفة.
ولعل أهم ما يميز هذا المنهج للأستاذ الإمام في مجال التطبيق أمران:
- الأول: توسيع دائرة الاعتماد على مقاصد الشريعة الإسلامية، وهو في ذلك متأثرًا بمنهج الإمام الشاطبي في كتابه (الموافقات)، الذي دعا الإمام تلاميذه إلى قراءته وفهمه وتدريسه؛ لأن (الدين جاء بالحكمة مؤيدة للكتاب... فمن جمع بين الكتاب والحكمة فهو المؤمن الكامل)(18).
- الأمر الثاني: تفعيل القواعد الفقهية في تأصيل الحلول الجزئية، بما يعد عودة لمنهج الأوائل في استنباط الأحكام، وربما كان منهج المذهب المالكي في النوازل والفتاوى خير موجه للأستاذ الإمام في بناء الفروع على الأصول، بحيث أوضح أن الدين الإسلامي (أبعد من أن يكون حجر عثرة في سبيل تطور المرأة، وأنه على العكس من ذلك يميل إلى رد حقوقها)(19).
إلا أن المسلمين لم يأخذوا بما جاء به القرآن من أحكام في شأن المرأة بل أهملوه، وارتدوا في كثير منها إلى ما كانت عليه المرأة في الجاهلية، فصار الحال في عصره نسيان (ما جاء به القرآن من الأحكام لإصلاح البيوت بحسن معاملة النساء... وعادت إلى جهالة الجاهلية)(20).
ومن هنا سعى محمد عبده إلى تصحيح وضع المرأة، بطرح آراء متقدمة، وشملت نطاق الآراء التي أبداها، والقرارات التي اتخذها والأحكام والفتاوى التي انتهى إليها حل كثير من مشكلات المرأة، بل تطوير وضعها، ومن أمثال هذه القضايا: هل تعدد الزوجات محمودٌ خلقيًا أو مذموم؟ هل يترك حق الطلاق حقًا مطلقًا للرجل أم يُقيد؟ هل التعليم أمر ضروري للمرأة أم الأفضل والأعف والأكرم أن تبقى بلا تعليم؟ وهي مسائل وقضايا أجاب عنها محمد عبده في حديثه عن حقوق المرأة في الإسلام.
المساواة بين المرأة والرجل
يشير الإمام محمد عبده إلى أن الإسلام قد كرم المرأة ووضعها في درجة لم يرفعها إليها دين سابق، ولا شريعة من الشرائع، بل لم تصل إليها أمة من الأمم قبل الإسلام ولا بعده. وأن أوروبا بما بلغته من تقدم في مظاهر الحياة المدنية، وبما قدمته للمرأة من التكريم والتربية والتعليم، لا تزال دون المكانة التي رفع الإسلام المرأة إليها.
ويرى محمد عبده أن القرآن ذكر مساواة الرجل والمرأة، فهما متساويان ومشتركان في الإنسانية التي هي مناط الوحدة وداعية الألفة والتعاطف بين البشر، معتمداً في ذلك على تفسيره لقوله –تعالى-: يَا أَيُّهَا النَّاسُ اتَّقُوا رَبَّكُمُ الَّذِي خَلَقَكُمْ مِنْ نَفْسٍ وَاحِدَةٍ وَخَلَقَ مِنْهَا زَوْجَهَا وَبَثَّ مِنْهُمَا رِجَالاً كَثِيراً وَنِسَاءً (النساء، آية 1)؛ بالإضافة إلى قوله –تعالى-: هُوَ الَّذِي خَلَقَكُمْ مِنْ نَفْسٍ وَاحِدَةٍ وَجَعَلَ مِنْهَا زَوْجَهَا ليَسْكُنَ إِلَيْهَا (الأعراف، آية 189)، ويؤكده كذلك بقوله –تعالى-: وَمِنْ آيَاتِهِ أَنْ خَلَقَ لَكُمْ أَنْفُسِكُمْ أَزْوَاجاً لِتَسْكُنُوا إِلَيْهَا وَجَعَلَ بَيْنَكُمْ مَوَدَّةً وَرَحْمَةً (الروم، آية 21).
وهذه المساواة مثبتة بما قرره القرآن من أن الرجل والمرأة لهما نفس الحقوق ونفس الواجبات في الدنيا والدين، فهما يتماثلان في الحقوق والواجبات، وفي الذات والإحساس، وفي الشعور والعقل، أي (أن كلاًّ منهما بشر تام، له عقل يتفكر في مصالحه، وقلب يحب ما يلائمه ويسرُّ به، ويكره ما لا يلائمه، وينفر منه)(21).
وبناء على هذا التفسير ينقد محمد عبده التفاسير الأخرى المستمدة من الإسرائيليات، والتي حاولت أن تجعل المرأة مخلوقا غير كامل، باعتبار أن حواء قد ذُكرت في التوراة بأنها خُلقت من ضلع آدم، وهو تفسير يرفضه الإمام قائلاً: إن (القصة لم ترد في القرآن كما وردت في التوراة)(22), ومن هنا فالمرأة كائن كامل الأهلية مساوٍ للرجل لا تنتقص عنه شيئًا.
وهذا ما أكده (تشارلز آدمس) من أن الشيخ محمد عبده وأنصاره كانوا يرون (أن الإسلام لا تتجلى محاسنه باعتباره دينًا أُنزل للناس كافة في شيء أكثر مما تتجلى في تكريمه للمرأة.. فالإسلام يقر بمساواة المرأة بالرجل في جميع الأمور الجوهرية(23).
كما سعى محمد عبده إلى توضيح أن ميزة الرجل على المرأة كان المقصود منها مقصد خاص وهو ما سنعرضه في فكرة القوامة.
- القوامة: يشير محمد عبده إلى أن المساواة بين المرأة والرجل ليست مساواة على الإطلاق, لأن الرئاسة يجب أن تكون للرجل, إذ أوجب الإسلام على المرأة شيئاً, وعلى الرجال أشياء, وهو يفسر هذه القوامة من خلال تفسيره لقوله –تعالى-: وَلَهُنَّ مثْلُ الَّذي عَلَيْهِنَّ باِلْمَعرْوُفِ ولَِلرِّجَالِ عَلَيْهِنَّ دَرَجَةٌ (البقرة، آية 228)، وقوله –تعالى-: الرِّجَالُ قَوَّامُونَ عَلَى النِّسَاءِ بِمَا فَضَّلَ اللهُ بَعْضَهُمْ عَلََى بَعْضٍ وبما أَنْفَقُوا مِنْ أَموالِهمِْ (النساء آية 34).
ويفسر الإمام القوامة بأنها تعني (الرياسة التي ينصرف فيها المرؤوس بإرادته واختياره وليس معناها أن تكون المرؤوس مقهوراً مسلوب الإرادة, لا يعمل عملاً إلا ما يوجهه إليه رئيسه, فإن كون الشخص قيّماً على آخر، هو عبارة عن إرشاده، والمراقبة عليه في تنفيذ ما يرشده إليه)(24).
وقد نقدت (عائشة تيمور) فكرة القوامة, ورأت أن شروطها وفرة العقل والدين والإنفاق من الرجال على النساء, فإذا تهرب الرجال من مسؤولية الأسرة انتفى مبدأ القوامة، وأصبح من حق النساء تولي السلطة في الأسرة حماية لكيان البيت(25), فهي قوامة غير مطلقة للرجال, بل لها واجبات إذا تنصل منها الرجال, ولم يقم بها كاملاً سقطت عنه.
وينطلق محمد عبده من تحليل هذه الرئاسة وتدعيمها ليقرر أن الحياة الزوجية صورة من صور الحياة الاجتماعية, ولما كان لكل اجتماع رئيس يُرجع إليه عند الخلاف كان الرجل أعلم بالمصلحة، وأقدر على التنفيذ بقوته وماله, وكان هو المطالب شرعاً بحماية المرأة والنفقة عليها, وكانت هي مطالبة بطاعته في المعروف.
وهذه القوامة لا تعطي الرجل حق استعباد المرأة, بل ينبه الله -تعالى- إلى أن هذه القوامة لا تعني أنه الأفضل والأقرب إلى الإيمان, إذ لا فضل لأحد إلا بعمله وتقواه, فهما يشتركان معاً في إقامة الحياة الزوجية، وإقامة الأسرة التي يتألف منها المجتمع, والمرأة هي محور الأسرة؛ ولكن هذه الدرجة التي رفعها القرآن للرجل على المرأة يرجعها محمد عبده إلى أمرين أحدهما فطري, والآخر كسبي(26).
السبب الفطري يرجع إلى ضعف المرأة في أصل الخلقة مما يضطره إلى حمايتها, وقد أيده في هذا الاتجاه كثيرون, ومنهم (محمد طلعت حرب) في كتابه (تربية المرأة والحجاب) قائلاً: (هذه إناث الحيوانات كلها تدلنا.. دلالة صريحة على أن الخالق جل شأنه خلق الإناث أضعف من الذكور في الأنواع)(27)، وإن كان الطهطاوي من قبل قد نقد هذه النظرة الشرقية القديمة التي تنظر إلى المرأة بأنها أقل من الرجل وأضعف منه, فيقول (هي مثله سواءً بسواء، أعضاؤها كأعضائه حاجتها كحاجته, وحواسها الظاهرة والباطنة كحواسه وصفاتها كصفاته حتى كادت أن تنتظم الأنثى في سلك الرجال)(28) وأن ما يظهر من ضعف البنية نتيجة إهمالها على مر العصور وعدم تدريبها واستخدامها كما يستخدمها الرجل.
والسبب الكسبي عند محمد عبده ناشئ عما ينفقه الرجل على المرأة باعتباره التزاماً مصدره عقد الزوجية وليس تفوق الرجل.
وينتهي الإمام من هذا إلى أن وضع المرأة في الشريعة يدل على أمرين(29):
أحدهما: إعطاء المرأة من الحقوق على الرجل مثل ما له عليها, بعد أن كانت مهضومة الحقوق عند العرب وجميع الأمم.
الثاني: جعل الرجل رئيساً عليها؛ لأن الله أعلم بهذا في حكمته. وواضح من هذا أن تفسير محمد عبده لهذه القوامة هو تشبث لما جاء به النص في ظاهره.
حق التعليم
في سياق الدعوة إلى إصلاح منزلة المرأة حتى يصلح المجتمع, يتعرض محمد عبده لحق المرأة في التعليم؛ لأن الإسلام يدعو إلى التفكير في أمور الدنيا والآخرة معاً, ليصح أن المسلمين أمة وسط, تهتم بالدنيا والدين, (كيف تسعد في الدنيا أو الآخرة أمة نصفها كالبهائم لا يؤدي ما يجب عليه لربه ولا لنفسه ولا لأهله ولا للناس، والنصف الآخر قريب من ذلك)(34).
وقد سبقه في هذا الطهطاوي, عندما أفرد فصلاً في كتابه (المرشد الأمين) للدعوة لتعليم البنات, ورأى أن (نفع تعليم البنات أكثر من ضرره, بل إنه لا ضرر فيه أصلاً)(35).
وقد انطلق محمد عبده في هذه القضية من واقع التناقض المرير بين ما دعا إليه الإسلام من طلب العلم, وجعله فريضة على كل مسلم ومسلمة, واعتبار أن من مات في سبيله فهو شهيد, وبين واقع الجهل الذي ترزح تحته النساء, فالرجل والمرأة مكلفان بطلب العلم, فيقول: (إن صح لفظ الحديث (طلب العلم فريضة على كل مسلم) أو لم يصح, فإن القرآن يؤيد معناه, وعمل الأولين من المسلمين تحقيق صحة ما حواه, فالرجل والمرأة سواء في الخطاب التكليفي(36).
ولذا كانت دعوته الأساسية في الإصلاح قائمة على تعليم الأمة, لأن بالتعليم تصلح الأمة وتصلح السياسة, في حين أن أستاذه الأفغاني رأى العكس بأن بالسياسة تصلح الأمة. ومن هنا كان مشروع محمد عبده الأول هو التعليم لكل من الرجل والمرأة على حد سواء(37).
وهذا ما دفع بأحد المستشرقين إلى القول بأن (من أهم الأفكار الجوهرية التي برزت فيما كتبه الشيخ محمد عبده في صحفية المنار تربية البنات وتعليمهن تعليماً لا يقل عن تعليم الذكور)(38).
ووجه الإمام اهتمامه الفكري والعملي لهذا الهدف, فكتب عن تعليم المرأة, وضمنها في تفسيراته, وساهم في إنشاء الجمعية الخيرية الإسلامية التي كان من مهماتها إنشاء المدارس وأنشئت أول مدرسة تابعة لها سنة (1878م) بل وتمنى أن تنهض بعض السيدات المتعلمات بمهمة الدعوة إلى تعليم المرأة(39)، وتمنى أن تقوم الأميرة (نازلي فاضل) بهذا الدور بدلاً من الاشتغال بالأمور السياسية(40).
تعدد الزوجات
ويتناول محمد عبده موضوع التعدد بمبحث تاريخي يبحث فيه جذور التعدد في التاريخ السابق واللاحق على الإسلام، فيشير إلى أن عادة التعدد كانت معروفة عند الشعوب الشرقية والغربية على حدٍ سواء، وأن التعدد ليس من خواص أهل المشرق، ولا الاكتفاء بواحدة من خواص أهل المغرب، فشعوب (التبت) و(المغول) لا تعرف التعدد، وفي الغرب في عهد (سيزار) عرف (الغولوا) تعدد الزوجات، وكذلك عند (الجرمانيين) في زمن (ناسيت)، بل أباحه بعض البابوات لبعض الملوك بعد دخول الدين المسيحي إلى أوروبا مثل (شارلمان) ملك فرنسا، وكان ذلك بعد ظهور الإسلام).
كما كانت هذه العادة متفشية عند العرب قبل ظهور الإسلام، فكان الرجل يتزوج ما يشاء من النساء، ويربط محمد عبده بين الفكر وواقع الحياة ليفسر تفشي هذه الظاهرة عند العرب قديماً، وأنها نتيجة لصراعهم المستمر وقتالهم، الذي كانت نتيجته نقص عدد الرجال، وبقاء كثير من النساء بلا زواج، (مما أتاح للرجال أن يختاروا من النساء ما يشاءون، بالإضافة إلى ما امتلكوا من نساء عن طريق الأسر)().
وقد جاء الإسلام فوجد تعدد الزوجات مباحاً بلا حدود، فاتخذ منه موقفًا إصلاحياً يهدف إلى إلغائه بالتدريج وتنظيمه، فألغى التعدد بلا حدود، ووقف به عند الأربعة، ووضع شروطاً لهذا التعدد يكاد يجعله مستحيلاً، وهو ما عبّر عنه محمد عبده بقوله: (فالإسلام قد خفف من الإكثار من الزوجات، ووقف عند الأربعة، ثم أنه شدد الأمر على المكثرين إلى حد لو عقلوه لما زاد واحد منهم على الواحدة)(45).
ولم يقر الإسلام التعدد لذاته، وإنما أباحه من أجل هدف اجتماعي، فقد ذكر التعدد في (سورة النساء) في قوله –تعالى-: وَإِنْ خِفْتُمْ أَلاَّ تُقْسِطُوا فِي الْيَتَامىَ فَانْكِحُوا مَا طَابَ لَكُمْ مِنَ النِّسَاءِ مَثْنَى وَثُلاثَ وَرُبَاعَ (النساء، الآية 3).
فكان الرجل يكفل اليتيمة، فإن أعجبه جمالها ومالها وكانت تحل له تزوجها، ولم يعطها حقوق الزوجة، وضم مالها إلى ماله، فنهى الله المؤمنين عن ذلك، وقال لهم: إن ضعف اليتيمات يجركم إلى ظلمهن، فإن خفتم ألا تقسطوا وأن يطغى فيكم سلطان الزوجية فدونكم النساء سواهن فانكحوا ما يطيب لكم من ذوات جمال ومال من واحدة إلى أربع(46)، فالتعدد المذكور هنا كانت له فائدته الاجتماعية، وهي المحافظة على أموال اليتيمات.
ويؤكد محمد عبده أن التعدد ليس مباحاً في الإسلام بلا ضابط، بل له شرط خاص لابد من توافره حتى يباح للرجل التعدد، وهو العدل، لقوله –تعالى-: فَإِنْ خِفْتُمْ أَلاَّ تَعْدِلُوا فَوَاحِدَةً (النساء آية 3).
وهذه العدالة هي ما التزمها العرب في صدر الإسلام، وما قام بها محمد –صلى الله عليه وسلم- في معاملته لأزواجه، فكان يطوف وهو مريض على بيوت زوجاته محمولاً على الأكتاف، ورفض أن يخص واحدة منهن بالإقامة، وكذلك كان الصحابة والخلفاء الراشدون والعلماء والصالحون (يجمعون بين النسوة مع المحافظة على حدود الله في العدل بينهن)(47), فهو شرط يقيد العدل بعدم الجور والظلم.
أما عن حدود هذا العدل، فإنه العدل في المبيت والعطاء، وفيما يملكه الرجل، وفي الملبس والمأكل والصحبة، أما ميل القلب إلى زوجة دون الأخرى، فهو ما لا طاقة لأحد به و(العدل من حقوق الزوجية، فهو واجب على الرجل كسائر الحقوق الواجبة شرعاً)(48).
ويتساءل محمد عبده، هل هذا العدل متاح وفي إمكان الرجل أم لا؟ ويرى أن القرآن أشار إلى صعوبة تحقق العدل، بدليل أننا إذا جمعنا بين الآية فَإِنْ خِفْتُمْ أَلاَّ تَعْدِلُوا فَوَاحِدَةً والآية وَلَنْ تَسْتَطيِعُوا أنْ تَعْدِلُوا بَيْنَ النِّسَاءِ وَلَوْ حَرَصْتُمْ لوجدنا أن القرآن قد نهى عن كثرة الأزواج، وهو ما أكده محمد عبده بقوله (فمن تأمل الآيتين علم أن إباحة تعدد الزوجات في الإسلام أمر مضيق فيه أشد التضييق كأنه ضرورة من الضرورات التي تباح لمحتاجها بشرط الثقة بإقامة العدل)).
هذا من وجهة النظر الدينية، كما أنه -من وجهة النظر الاجتماعية- أمر مقيد على حد كبير لما ينتج عنه من مفاسد تصيب الزوجة والأولاد والمجتمع بكامله، أما الأضرار التي تصيب الزوجة، فوصفها محمد عبده بقوله: (وبديهي أن في تعدد الزوجات احتقاراً شديداً للمرأة، لأنك لا تجد امرأة ترضى أن تشاركها في زوجها امرأة أخرى، كما أنك لا تجد رجلاً يقبل أن يشاركه غيره في محبة امرأته، وهذا النوع من الاختصاص طبيعي للمرأة كما أنه طبيعي للرجل)).
وتعدد الزوجات يثير الحقد والكراهية في قلب كل زوجة على الأخرى، فتسعى للانتقام منها، وتنتقل هذه الكراهية إلى الأبناء، فتزرع كل زوجة في نفس ولدها كراهية لأخوته من الزوجات الأخريات، وينشأ الطفل وهو على هذه الكراهية (فيشب نفورا من أخيه عدوًا له لا نصيرًا وظهيرًا له.. كما هو شأن الأخ)(51)، وتزداد المشاجرات بين الزوجات، وبين الأخوة، مما يؤدي إلى الطلاق وتشريد الأطفال وحدوث تفكك للأسرة والمجتمع بكامله, وبعد أن كان المقصود من علاقة الزواج والمصاهرة ائتلاف الأمة واتحادها، ينقلب الأمر بالتعدد إلى تمزق وحدة المجتمع وتشتته().
وتمنى الأستاذ الإمام لو أعرب عن فتواه بتحريم التعدد في عصره، لما نشأ عنه في واقع مجتمعه من مفاسد، ولذا ناشد العلماء إعادة النظر في هذه المسألة لأن التعدد في صدر الإسلام لم تكن له مضاره الموجودة في المجتمع الآن، بل كانت له فوائد كثيرة في الجمع بين القبائل المتنافرة بالمصاهرة، وبه قويت العصبية، ولم يكن له أضراره التي هي عليها الآن، وكان أذى الضرة لا يتجاوز ضرتها أما اليوم فإن (دائرته واسعة وممتدة وتشمل الأولاد والأهل والأقارب، وزرع العداوة والبغضاء بينهم)().
فإذا وجد حكم لم ينتج عنه مضار فيما قبل، ثم تغير واقع المجتمع، وأصبح هذا الحكم أو هذه الرخصة في التعدد ينتج عنه أضرار تصيب كافة أفراد المجتمع، وجب تغييره أو تقييده، وهو ما عبر عنه الإمام بقوله: إذا ترتب على شيء مفسدة في زمن لم تكن تلحقه فيما قبله، فلا شك في وجوب تغيير الحكم وتطبيقه على الحال الحاضرة، يعني على قاعدة أن درء المفاسد مقدم على جلب المصالح، (وبهذا يعلم أن تعدد الزوجات محرم قطعاً عند الخوف من عدم العدل)(54)، ويشير محمد عمارة إلى أ، موقف محمد عبده من تعدد الزوجات قد خلف لنا فيها آراء إصلاحية لا زلنا ننادي بتطبيقها، ولم تُطبق حتى الآن، وهذه الآراء قد حسمت القضية بموقف إسلامي مستنير يرى تحريم تعدد الزوجات إلا في حالة الضرورة(55).
وهكذا يتضح موقف الإمام المعارض لتعدد الزوجات لما فيه من الخطر على الأسرة والمجتمع، وهو في ذلك يعبر عن مقتضيات العصر والملابسات الاجتماعية والأخلاقية الجديدة من خلال تفسير القرآن تفسيراً يتناسب مع الحياة الجديدة، ومراعاة لمتغيرات الحياة التي لا تنتهي، والتي أخذ بها في سبيل ارتقاء المرأة، ومهد طريق الإصلاح أمام المصلحين التالين، وسلح المرأة المصرية بالشجاعة وروح الإقدام، وحملها على المطالبة بحقوقها والعمل على تحرير نفسها، وهذا ما سنراه بعد ذلك من تطور الحركة النسائية في مصر والوطن العربي، وقام بعبء هذه المهمة مجموعة من تلاميذه في كافة المجالات، الاجتماعية مثل قاسم أمين، والدينية مثل الشيخ مصطفى المراغي، والسياسية مثل أحمد لطفي السيد وغيرهم.