(الحلقة الثالثة) :الانتخابات النيابية في العهد الملكي

(الحلقة الثالثة) :الانتخابات النيابية في العهد الملكي

معن عبد القادر آل زكريا
باحث تراثي
بخصوص ما قيل وما لم يقل عن موضوع الانتخابات النيابية في العراق ، يقول الشيخ عبود الهيمص أحد شيوخ عشائر البو سلطان في منطقة الشوملي في محافظة بابل (الحلة) ، وهو الخبير والعضو في المجلس النيابي، كلاماً جاداً وخطيراً بخصوص ذلك فيه ما يأتي :

لا مناص لمن كان لهم مثلي دور المساهم والشاهد في بعض الحوادث والوقائع التي تشكل صفحات من تاريخ العراق في الماضي القريب ، من الحديث عن دوري في الانتخابات التي جرت للمجالس النيابية في مختلف مراحل الحكم الملكي التي وسمت كل مرحلة من تلك المراحل بسمات وصفات مستمدة من الظروف السائدة التي جرت فيها ، ولكنها تشترك جميعاً في كونها انتخابات غير مثالية كتلك الانتخابات التي تجري في الأقطار التي تنص دساتيرها على أنها (ديموقراطية نيابية) ، بل لم يكن لها نصيب من ان تسمى بـ (المعارك الانتخابية) ، ويعود ذلك إلى حداثة عهد العراق بالديموقراطية في الفترات الأولى من تاريخه الحديث
هذا من جهة ، ومن الجهة الأخرى هو حرص العناصر الحاكمة على عدم تمكين الشعب العراقي من ممارسة حقوقه عن طريق الأحزاب والمؤسسات الديموقراطية لتفشي الأمية والفقر في القرى والأرياف ، ولعدم وجود العدد الكافي من المثقفين الذين يملكون قابلية التغلغل في صفوف الناس وتعويدهم على ممارسة حقوقهم . يضاف إلى كل ذلك وقوع الحكم تحت سيطرة من يملكون التأثيرات والتحكم بمقدرات الشعب السياسية والاقتصادية من أصحاب الإقطاع الواسع والأموال الضخمة المرصدة للأعمال التجارية الكبرى . ولست أقول ذلك من باب الانتقاد – بعد فوات الأوان – ولكن لأسجل واقعاً كنت أشارك في الشكوى منه والعمل على تحرير الناس من مساوئه على قدر الإمكان . وقد سبق ان أشرت في العديد من صفحات هذه المذكرات والخواطر إلى مطالبتي بتبديل بعض القوانين ومساواة أبناء الشعب بحقوقهم وواجباتهم ، وفي محاضر مجلس النواب يجد القارئ الدليل على ما أقول .
يقول الشيخ عبود الهيمص في معرض حديثه عن الانتخابات والمجالس النيابية :
كانت القوى الفاعلة المؤثرة في الحكم تتألف من ثلاث :هي السفارة البريطانية والبلاط الملكي ورجال الحكم ، وهي بلا شك أقوى بكثير من قوى الشعب الذي لا حول له ولا قوة ، وكانت تلك القوى المؤثرة لا تتورع عن انتهاج أساليب القمع والبطش التي تتفاوت شدة وضعفاً حسب الظروف ضد القوى الديمقراطية حديثة التكوين ، الأمر الذي لم يجعل من المجالس التي جاءت في مثل تلك الظروف معبرة عن آراء الشعب ، كل الشعب ، وكان ذلك يعد من افدح الأخطاء التي باعدت بين الشعب والحكومة .
ومن الحقائق التي يمكن الاستشهاد بها ، أن المجلس التأسيسي الذي تألف بعد الثورة العراقية في حزيران سنة 1920 ، بالرغم من المقاطعة شبه الجماعية لهذا المجلس ، فانه يعد من افضل المجالس التي مثلت الشعب ، لأن الشعب العراقي لم يكن آنذاك بالشعب المتمتع بكامل حقوقه الديموقراطية ولا يملك جدارته لممارسة هذه الحقوق . ومن المعلوم أن تأليفه تم بالاختبار الذي كان موفقاً ، حيث كانت معظم طبقات الشعب ممثلة فيه التمثيل الجيد الذي لم يتوفر في أي مجلس من المجالس التي انتخبت بعده . ومن يراجع محاضر المجلس التأسيسي يجد الكثير من الخطب والآراء والمطالب الدالة على أن أعضاء هذا المجلس كانوا بالمستوى المطلوب يومذاك . وكم كان يجدر بالقّوامين على أمور الناس يومئذ ان يجعلوا من ذلك المجلس التأسيسي قدوة للمجالس التي يجري انتخابها بعد ذلك ، وكان دورها مع الأسف الشديد غير محقق للآمال التي كان يعقدها الشعب على الحياة البرلمانية . ولقد بلغ من تعسف القوى المتنافسة على السلطة وامتلاك الأغلبية البرلمانية (فيما بعد ، وعلى امتداد التجربة البرلمانية) ان يؤدي الصراع بين الأمير عبد الاله الوصي على العرش ونوري السعيد إلى حل المجلس النيابي الأخير في العهد الملكي بالرغم من كونه مجلساً انتخبت أغلبيته بالتزكية ، دون ان تتاح لهذا المجلس أن يعقد جلسة واحدة !! لا لكون المجلس الأخير قد دخلته عناصر وطنية لا يتجاوز عددها اثنتي عشرة شخصية ، بل لان أكثرية هذا المجلس كانت محسوبة على البلاط ، في حين كان نوري السعيد يريدها لجانبه ! وقد أشار عدد من السياسيين العراقيين المعاصرين في مذكراتهم إلى هذه الحقائق . بل لعلي لا أتجاوز الواقع إذا قلت ان حل هذا المجلس هو الذي قضى على الأمل الأخير في نفوس الناس بان تكون الانتخابات النيابية في المستقبل احسن مما كانت عليه …. بل لم تكن اقدر على الأتيان بمن يمثلون الشعب تمثيلاً حقيقياً يملكون حرية الأعراب عن آماله وأمانيه ويتمكنون من نزع الثقة عن الحكومات التي لا تمثل الشعب .
ولما ظهرت نتائج الانتخابات بالأكثرية المؤيدة للبلاط ، ثارت ثائرة نوري السعيد واخذ يردد القول : "ان العراق سوف يكون كوريا ثانية في هذه المنطقة من العالم" . وتعبيراً عن غضبه ، سافر السعيد إلى لندن مؤكداً هذا الكلام وغيره في أوساط وزارة الخارجية البريطانية وفي غيرها من الأوساط السياسية في لندن . واستناداً إلى النتائج الملموسة ، حصلت القناعة لدى الأوساط البريطانية بذلك واخذت تؤيد وجهة نظر نوري السعيد وآرائه ، فأوعزت إلى السفير البريطاني في بغداد ان يطلب - وبشيء من الإصرار والإلحاح - ان يضغط على الوصي عبد الاله بلزوم مصالحة نوري السعيد والاتفاق معه. وأمام هذه الضغوط اضطر الوصي للسفر إلى باريس ومن هناك طلب حضور نوري السعيد لمقابلته في العاصمة الفرنسية ، حيث تنازل الوصي عن الكثير من مواقفه وخضع لمطالب نوري السعيد حتى حل المجلس الذي لم يكتب له ان يلتئم بعد ! بعد ذلك عاد نوري السعيد إلى لندن لاستكمال الفحوصات الطبية ومن ثم العودة إلى بغداد .
عاد الوصي من باريس إلى لبنان ونزل في فندق بحمدون ، وقد صادف وجودي هناك مصطافاً فأتيت لزيارته والسلام عليه ، فوجدت معه بعض الزعماء السوريين مثل الدكتور معروف الدواليبي ، فاستنتجت ان الغاية من مجيء الوصي إلى لبنان قبل العودة إلى بغداد ، كانت لغرض الاتصال بالزعماء السوريين من اجل دراسة الخطط لتوحيد القطرين سورية والعراق .
خلال مقابلتي الوصي اخبرني بأن نوري السعيد قابله في باريس وكان وضعه الصحي ضعيفاً للغاية ، حتى أغمي عليه خلال المقابلة فأجريت له إسعافات طبية مستعجلة ، وبعد أن استفاق من إغمائه وتحسنت صحته ، تحدثنا طويلاً في الأمور العامة ، وقد وعد بأنه سيعود إلى بغداد قريباً ، وبالفعل عاد نوري إلى بغداد وفور وصوله توجه إلى سرسنك يصحبه عدد من السياسيين الذين كان ينوي استيزارهم ، وقد كان الوصي حاضراً ، وقد أملى نوري السعيد شروطه على الوصي بضرورة الحصول على كراسي الحكم واتخاذ كل الذرائع للمكوث فيها والتربع فوقها وإهمال مصالح الناس .
لقد تم انتخابي للنيابة عن لواء الحلة في الانتخابات التي جرت على عهد وزارة السيد ياسين الهاشمي سنة 1935 ، وقد أشرت إلى بعض ما قمت به من جهود في ذلك المجلس ، اما في الانتخابات التي جرت بموجب قانون الانتخابات الذي عدل سنة 1946 فقد أجراها نوري السعيد ، حيث لم تجر على أسس وطنية عامة ، بل جرت على أساس تكتل سياسي ضيق النطاق ، فقد كانت هناك (الكتلة) وهي تجمع مؤقت يؤيد صالح جبر لعقده معاهدة بورتسموث – كانت هذه الكتلة حريصة على ان يكون من يمثلها في الحلة من أعوان صالح جبر أو نوري السعيد ، حيث كان المفروض في هذه الانتخابات ان تسفر عن مجلس مؤيد لصالح جبر الذي ستسند اليه الوزارة تمهيداً لقيامه بالتفاوض لتعديل المعاهدة العراقية – البريطانية . ولهذا قاطعت الأحزاب التي كانت قائمة يومذاك انتخابات مجلس افترض فيه سلفاً الموافقة على المعاهدة الجديدة عند عرضها عليه .
كان صالح جبر حريصاً على ان يكون عبد المحسن الجريان وغضبان الجريان نائبين عن قضاء الهاشمية أو عن عشائر البو سلطان ، وقد أبديت لصالح جبر اعتراضي على ذلك فلم يسمع اويبال ، فآثرت عدم ترشيح نفسي لتلك الانتخابات التي كانت مثار الطعن من جميع أبناء الشعب ، ولم يلبث ذلك المجلس ان أطاحت به انتفاضة الشعب العراقي ضد معاهدة بورتسموث وعاقديها في كانون الثاني سنة 1948 .
اما الانتخابات التي جرت بعد الوثبة على عهد وزارة السيد محمد الصدر ، فقد تولى توجيهها وزير الداخلية السيد مصطفى العمري ، وقد وقع السيد العمري تحت تأثير صديقه عبد الرحمن جودة وتوجيهاته ، وكان الأخير متصرفاً للواء الديوانية ، وكانت بيني وبينه نزاعات عائلية لا أريد التطرق إليها ، فقد سعى لترشيح ابن أخي مهدي شخير الهيمص للنيابة ، وحين علمت بذلك وأنا في بغداد ، لم أر من اللياقة مزاحمة ابن أخي الذي تربى في كنفي ، ولم أر كذلك فائدة من الاقتراب للحكم من أجل نيابة ، فغادرت بغداد متوجهاً نحو الحلة ، وكان بصحبتي ابن أخي مهدي .
ففي الانتخابات التي أجراها نوري السعيد ووزير داخليته صالح جبر واسفرت عن المجلس الذي أريد منه إبرام معاهدة بورتسموث علمت ان صالح جبر يريد ان يرشح للنيابة صهره غضبان الجريان بالإضافة إلى عبد المحسن الجريان ونائباً ثالثاً عن قضاء الهاشمية الذي كان المفروض أن أكون المرشح الأول فيه للنيابة عن هذه المنطقة لكونها موطناً لعشيرتي التي تربطني بها أوثق الروابط وقد استغربت ان يرشح صالح جبر غضبان الجريان للنيابة مع شدة معارضة الأخير لزواجه من ابنة عمه واشتداد الخصومة بينهما ، ولكن يبدو ان المصاهرة قد أحدثت أثرها في نفس صالح وكان ثمن المصالحة ترشيح غضبان للنيابة متنكراً لحقوقي المكتسبة في تمثيل المنطقة وللحقوق التي بيننا ومتغاضياً عن لجاجة غضبان في خصومته على النحو الذي لا أريد الإسهاب فيه.. .
وقبل الانتخابات التقيت صالح جبر في مجلس الأعيان بحضور حمدي الباجه جي فقلت له : ياصالح انك تسعى لصيرورة صهريك عبد المحسن وغضبان نائبين عن الهاشمية - والحال ان النيابة وكذلك وظائف الدولة - هي من حق الجميع ولا يمكن حصرها بالأنساب والأصهار ، وانا لا أتمنى لك ان يقال صالح جبر استغل ظروفه المساعدة ومنصبه ليأتي بصهرين من أصهاره لا يمتازان عن الآخرين بشيء الا لكونها ما أصهاره وعن قضاء واحد . فقال وبشيء من اللامبالاة التي لم تكن معهودة فيه في السابق : أنت رشح نفسك والانتخابات حرة واذا نجحت (اول رايت قالها بالإنكليزيةAll right) . فقلت له : إذا كانت الأمور وصلت إلى حد (اول رايت) فنحن نعرف مكاننا وقد سبق لي ان كنت نائباً وإذا لم اكن نائباً اليوم فلا زالت مكانتنا وخدمتنا للبلاد مستمرة والأيام بيننا وتركتٌه …. وانصرفتُ …

*****
اثنان – حزب الاستقلال والانتخابات النيابية
في لواء الموصل

استعداداً للانتخابات النيابية المخطط إجراؤها لدورة المجلس النيابي لسنة 1947 , فقد جندّت كل القوى السياسية الوطنية أنصارها و مؤازريها تحدّيا للمجالس النيابية المؤازرة للحكومة , تلك التي يأتي نوابها إلى البرلمان بطريقة تعرف بالتزكية.
و قياساً على جهود الأحزاب و المنظمات الوطنية , فقد زجّ حزب الاستقلال بكل ما لديه من سلاح و عدّة في المعركة الانتخابية , فضلاً عما سبقها من دعاية لمرشحيه و تقديم مزاياهم و خصالهم بما يتناسب و طموحات الناخبين من جماهير الشعب في سبيل تحقيق أهدافهم , و السعي في منح أصواتهم لمن هو أوفر حظاً في تحمّل المسؤولية و أداء الرسالة , و التفريق بين الصالح و الطالح.
و في اليوم المحدد للاجتماع امتلأت مدرجات سينما الملك غازي الشتوي و مقصوراتها عن آخرها بالحضور من أهالي الموصل و الكوادر العليا من مؤسسي الحزب و معتمديه. فقد ألقيت كلمة الأستاذ محمد مهدي كبة رئيس الحزب من قبل المحامي حازم المفتي معتمد الحزب في الموصل. كما ألقى المحامي سامي باش عالم كلمة المحامي الأستاذ داؤود السعدي المعتمد العام للحزب , فضلاً عن كلمة الأستاذ عبد الرزاق الضاهر. أما كلمة أمين السر العام الأستاذ فائق السامرائي , فقد ألقاها المحامي حازم الصابونجي عضو اللجنة العليا.
و قد ألقى كوكب علي الجميل كلمة الأستاذ إسماعيل الغانم. أما كلمة عبد الرحمن الخضير فقد ألقاها الأديب عبد الغني المّلاح . و قد ألقى المحامي قاسم المفتي كلمة الأستاذ سلمان الصفواني عضو اللجنة العليا. و من ثمّ جاء دور عبد القادر العبيدي المحامي فألقى قصيدة بالمناسبة أعقبتها كلمة إبراهيم وصفي المحامي.
و قد اختتم المرشح الأستاذ محمد صديق شنشل ذلك الحفل بكلمة مؤثرة كانت بعنوان (الموصل صخرة الله التي لا تنكل) , قال من ضمن ما قاله فيها : "إن أبناء الموصل الواعين يريدون مخلصين أن يأخذوا نصيبهم من العمل الجدّي لتحرير الوطن العربي من مطامع الدول الكبرى و مخالب الاستعمار , و لا يريدون أن يمثلهم ألا من يشاركهم الشعور في ضرورة الخلاص".
و بمناسبة ترشيح الأستاذ محمد صديق شنشل الـمحامي من قبل حزب الاستقلال في المنطقة الانتخابية الثانية , فقد نشرت لجنة الاجتماع الانتخابي لمرشح الحزب قائمة بأسماء الناخبين الثانويين (طريقة الانتخاب غير المباشر و على دفعتين) و طبعتها في دار طباعة أم الربيعين في الموصل تأكيداً للإيضاح و التوضيح (حسبَ ما جاء ذكرهُ في القائمة

******
إنتخابات سنة 1954
و الذي يهمنا قوله في هذا الباب و نحن نوثق للإنتخابات النيابية التي خاضها حزب الإستقلال وعلى نحو خاص في مدينة الموصل إذ له قاعدة جماهيرية عريضة و شعبية وطنية كبيرة في هذه المدينة . والذي يلزمنا ذكره , أن الفترة الزمنية الواقعة بين سنة 1947 و سنة 1954 وأمدها في عرف الزمن القريب سبع سنوات , قد شهدت سقوط وزارة صالح جبر _ التي أرادت امرار معاهدة بورت سماوث _ و لكنها لم تنجح بل سقطت سقوطاَ مريراَ . ومن ثم أعقبتها وزارة السيد محمد الصدر , التي استقالت بدورها بزعم أنها أنجزت مهمتها وهي ليست كذلك .
وفي سبيل إجراء التحضيرات التمهيدية التي تسبق الإنتخابات , فقد انعقد مساء يوم الأحد المصادف السادس عشر من شهر أيار سنة 1954 على مدرجات سينما الملك غازي الصيفي في الدواسة اجتماعا عاما لجماهير مدينة الموصل .
و قد وقف مرشح حزب الاستقلال الأستاذ محمد صديق شنشل بوصفه مرشحاَ عن ائتلاف الجبهة الوطنية , وقف خطيبا مفوّها و وطنيا صادقا يخاطب أبناء مدينته قائلاَ : " إني لواثق أنكم تشاركوننا الشعور بأن الكفاح في سبيل الظفر بحرية الفرد و المجتمع و مواصلة السير في الطريق الشائك , و تحمّل ضروب الأذى من اجلها , كل ذلك يمنح المكافح لذّة التمتع بالحرية حتى يبلغها أو يهلك" .
ويضيف الأستاذ شنشل وهو يخاطب إخوانه أبناء الموصل قائلاَ : "إني لا أستطيع أن اصف شعوري تجاه جمعكم الحاشد الكريم , فلسان حال اجتماعكم يقول إن الشعب العراقي موجود , وان الروح الوطنية متغلغلة فيه , و أن الإيمان بالمبادىء السليمة و المطالب العادلة يجمع القلوب و يجعل المواطنين صفا واحدا ضد الظلم و الطغيان , و قوة عظيمة لا تقهر , بل سيكتب الله لها النصر و لو كره الظالمون " .
بتلك الكلمات القوية في معناها و الجليلة في مبناها , وما تبعها من تضمين بيان الجبهة الوطنية من مطالب , قدّم محمد صدّيق شنشل صورة واضحة و معالجة موضوعية صادقة لمشاكل العراق يوم ذاك على المستويات السياسية والاقتصادية و الاجتماعية .
وقد قطع المتحدث العهد للجمهور المخاطب بأنه سيكون ملتزما تمام الالتزام ببرنامج حزب الاستقلال الذي ينتمي إليه . و عاهد الجمع على أن يواصل ما بدأه في حياته و خصوصا يوم شرّفه أهله في الموصل بتحمّل أمانة الترشيح عن المنطقة الانتخابية الثانية ..... كيف لا و قد جعل المطالبة بإصلاح وضع الموصل جزءاَ لا يتجزأ من المطالب العامة التي خصصّها في تأمين مشاريع الري وتوفير القّوة الكهربائية بأثمان منخفضة , ناهيك عن طلبه تأسيس المراعي الاصطناعية و العمل على فتح كليات عالية تمهيداَ لتأسيس جامعة الموصل .
كما أن المنظور العام للمطالب الوطنية على مستوى القطر العراقي كانت في مقدمة طلبات ممثل حزب الاستقلال سواء على مستوى منطقة ترشيحه ( مرّشح الجبهة الوطنية ) في منطقته الانتخابية ( المنطقة الانتخابية الثانية في لواء الموصل ) على نحو خاص , أو على مستوى دولة العراق على نحو عام , بحسبها مطلبا جماهيريا لا يقبل المماطلة أو التأجيل . و من أهم تلك الشعارات المطلبية التي تقدّم بها الحزب إلى الحكومة و طرحها مرشحه في كلمته الموجهة إلى الجماهير المحتشدة على مدرّجات سينما ملك غازي الصيفي ..... فقد كانت الكفاح في سبيل الحرّية . تأييد انتفاضات الأحرار في الوطن العربي , تحقيق مطالب ميثاق الجبهة الوطنية , إلغاء معاهدة سنة 1930 الجائرة , التنديد بموقف بريطانيا المهين للعرب في قضية فلسطين , رفض التزّود بالسلاح من الاميركان بسبب ضغوطهم بتكبيل استخدامه , الحكومة تبذّر الملايين , إلغاء امتياز الشركات , تحقيق العدالة الاجتماعية , الدعوة إلى تأميم النفط , معالجة آثار كارثة الفيضان
الأليمة .
و في ختام كلمته دعا المتحدث الحضور جميعاَ إلى التعّلق بوعوده المنقولة عن وعود بقية أحزاب الجبهة كونها تحرص على الوفاء بالتزاماتها مهما كلّفها ذلك من جهد و تضحية , و أنها لا يثنيها إغراء و لا يخيفها إرهاب , إذ أنها قررت العمل على تحقيق مصالح الأمة و المجاهدة في ذلك حتى يظفر العراق بالحرية و تظفر الأقطار العربية بالوحدة الشاملة في ظل نظام ديموقراطي يكون فيه الحكم من الشعب ولمصلحة الشعب.
و بعد أن فاز مرشح حزب الاستقلال بانتخابات النيابة لتلك السنة , حصل أن تمّ حلّ المجلس كما تمّ حل الأحزاب و تعطيل الصحافة و إعلان الأحكام العرفية , فاستقالت على أثرها وزارة مصطفى العمري , وتهرّب رئيسها من المسؤولية , فعرّض بذلك العاصمة بغداد للنهب والفوضى .
وقد تم تشكيل وزارة طوارىء برئاسة الفريق نور الدين محمود ( بتدبير من الأمير عبد الإله) التي سرعان ما سقطت هي الأخرى لتخلفها في الحكم وزارة نوري السعيد في 23 تشرين الثاني سنة 1952 , إذ أعلنت فيها الإدارة العرفية , بعد أن اعتذر جميل المدفعي عن قبوله تشكيل الوزارة.