حرفة لغسيل الحكايات

حرفة لغسيل الحكايات

صلاح عيال
ربما، في لحظة الانتاج القصصي يضع الكاتب نقطة أولى يقترحها ـ هي غير نقطة الثبات التي برقت في ذهنه ـ ثم يندفع بالقلم لرسم أول حرف ثم كلمة فجملة، محاولا من خلالها ان ينشر غسيل حكاياته المتمثلة بماء الوقيعة الدامي، قبل تراقصها امام عين الشمس،

قارئة المجهول. أو يتدرج في وضوحها كما تصورها القاص المبدع محمود عبد الوهاب في رقم الهاتف الرابع والمثبت في( دليل الهواتف) باعتباره الزمن المستعاد في ذاكرة استطاعت ان تحيي ما دوّن على صفحات أو تجربة( رغوة السحاب، الرواية الصادرة عن دار الشؤون الثقافية، بغداد 2001) .
يقترح القاص محمود عبد الوهاب على لسان السارد، ان يضع نقطة الاكتشاف التي دفعت( الكسندر كراهام في أول هاتف اخترعه) ليختزل المسافة أو يُذوّب الشوق اذا ما كان، الهاتف، البديل عن الخطوات وعسر استمرارها.
نلاحظ، أول فصل للرواية هو دليل الهاتف لانطلاق الحكايات وتكرر مأساتها وتباين أماكنها وأزمانها. فما أن تقلب أول صفحة كُتب عليها اسم صاحب الهاتف حتى تستدعي الحكاية السارد لان يشكلها، ليس كـ(مذكرات أو يوميات أو اعترافات لأنها تتطلب توثيقا وتسجيلاً لم اقم بهما..)12 بل هي كما اشار إليها القاص مواجهة لاستيقاظ الوقائع التي تحقق وجودها مع الآخرين ضمن حاضنة الرواية أو في ضمير القراء اذا ما تأملوا انتاج النص مع شخصيات أخرى علقت في ذاكرتهم.
لاشك ان الكتابة خيط سري بين الكاتب والقارىء، يكمل أحدهما الآخر، إرسالا واستقبالا، كما كان الهاتف في الرواية: (يلبي النداء البشري) الذي يوحد الأبعاد المترامية. فالدليل أو دفتر الذاكرة، دليل الهواتف.. هو مجموعة محصلات استعادت حيويتها تحت خطوات القلم الذي صبّ ماء حروفه الباردة على حكايات هربت من هول الوقائع نحو أزقة المدينة أو شوارعها النافرة، حدائقها، فنادقها، غرفها المظلمة أو مطابخها وقد تحولت بفعل الحرب إلى ساحات كبرى، استطاع الكاتب ان يقسمها إلى فضاءات رعب متباينة، القتل واصوات الطائرات وما خلفته من حكايات انتشلها لتتجسد واقعيتها بذاكرة السارد وحياة شخوصه واحاسيسهم دون خطط مسبقة، ربما اجبرته المخيلة لان يراقب بعين الدليل شخصياته وارقام هواتفه( أراقب، غالبا في المساء، تأتي في موكب صغير: طفلتك ذات الشعر المضفور بعناية والملموم في مؤخرة الرأس الصغير بشريط ملون على شكل جناحي فراشة، وانت بعكازك وبنطالك الرمادي، الذي ينتهي من الاسفل بطيّة متقنة تخفي ساقك المبتور، وزوجتك تصغي إلى حكاياتك التي لا تنقطع)49.
هكذا يمنح الزمن السردي هوية المدينة التي أثثتها الحروب في كتاب(رغوة السحاب)، الرواية التي شكلت اتصالا آخر بين مدينة الحرب البصرة والمدينة الآمنة في حلم السارد أو قبل حلول الحرب وآثار اللقاءات التي تلاشت في ساحة الحقيقة لتُنشأ في فضائها، مدينة الرواية، شخصيات رممها الامل الذي تنشده،
( اذا كان العدو قد أتلف ساقك
فاحذر أن تسحق روحك..)51
ربما عند لحظة سكون تام انطلق الرجل المبتور الساق وزوجته وابنته امام المشهد الحلمي في عين الكاميرا وقد ابتسموا امامها لتكون نهاية القصة، الامل المستعاد وسط الحديقة بعيدا عن الحروب وخراب المدينة.
ثمة ما يدعو لمراقبة الاشياء الصغيرة التي استطاع ان يظهرها كقيمة كبرى تعادل اية قيمة فقدها ولا يستطيع استعادتها، قد نراها بسيطة في الحياة اليومية غير انها فاعلة واساسية عند فقدان اصحابها.
( لم يكن للمرآة اطار، فحوافها تستدق حتى تلتصق نهاياتها بالجدار، وحينما كان اخي يرطب ذقنه برغوة الصابون وينفخ شدقيه ليتيح لموساه ان تقتلع ادق شعرات خديه، كان ماء المرآة يتقد في عيني، حاد الاضاءة، يعمي بصري حتى لم أعد اتبين أين كان يقف أخي ، كأنه في المرآة وخارجها) هذا ما يدخل في سمو الصنعة التي تفنن بها القاص منذ (القطار الصاعد إلى بغداد) عمله الأول وابعاده الجمالية وقدرته على إحكام تأثيث القص حتى (رائحة الشتاء) مجموعته الصادرة في عام 1997، إذ وظفها عبر أساليب مقتصدة دالة على الهدف المركزي البعيد عن الترهل.
تحت هذه الافلاك ينشر القاص تجاربه وطرائق كتاباته التي تتنوع من دليل هاتف إلى آخر بينما تتجسد في متن واحد أو كتل سردية واحدة ظهرت من خلالها الرواية التي تخلى عن كثير من مسوداتها، هذا ما اشار له في احدى القصص المقترحة في ذاكرة الدليل(لم تكن هي المسودة الأولى للقصة التي استطيع انجازها منذ اكثر من ثلاثة اسابيع، ربما كانت المسودة الخامسة أو السادسة التي مزقتها، ان شيئا في داخلها لا يرضيني)105 ولا غرابة انه مسح أو مزق أوراقا لقصص افترضها في الرواية.
إن لفي تجربة المبدع الكبير محمود عبد الوهاب وضوحا ورسما دقيقا لمرحلة تأريخية عاشتها مدينته البصرة التي ذاب في يومياتها وتجلى في اعلاء قيمتها في هذا التدوين المؤثث بلغة مكثفة وبليغة الاثر استطاع ان يحكمها من أول الدليل مرورا بمكالمات الليل التي افترض بناءها؛ الرقم الاكبر فالاصغر وحتى الفصل الاخير، في الصباح حيث يستلم البطل من جاره (حافظة الجلد والبوم الصور بانحناءة مهذبة) لم يزدنا الروائي من تلك القصص الصورية الكثير كما فعل في قصته الصادرة بمجلة الاقلام سيرة لصورة وشخصيات يبدو ان العمل غار بنا اليها حتى عمق هذه الرواية.
(وراءه، هذه الصورة، تبدو غابة سوداء. عيناه، من خلف نظارتيه المدورتين، مسالمتان. مقدمة صلعته وشعراته.......)
ان رواية بهذا الشكل وهذه الحرفة تدعونا إلى التأمل في طرائق الكتابة ومعنى ان تكتب قصة أو تتخلى عن مشهد أو قصة أو رواية، ربما شرعت بكتابتها منذ ثلاث سنوات.. ترى هل تصبح في ذاكرة النقطة الأولى التي تقترحها وقد بدأ بها المبدع الكبير محمود عبد الوهاب ولم يتخلّ عنها؟