قضية رئيس تحرير (نداء الشعب) ووزير المالية

قضية رئيس تحرير (نداء الشعب) ووزير المالية

سعدون ابراهيم حلمي العمر
مترجم عراقي راحل
كان المرحوم صبيح نشأت وزيرا للمالية في وزارة عبد المحسن السعدون الثانية، وفي آب 1926 اوفدته الحكومة الى بريطانيا لمناقشة وحل بعض القضايا المالية والاقتصادية الملحة وكان اهمها (لجنة العملة العراقية، وتحويل ملكية السكك الحديدية الى العراق وانشاء مصرف زراعي وتسوية الديون الخارجية)

وقد ارتأى حزب الشعب العراقي بعد عودة الوزير ومستشاريه من رحلته هذه ان توفد رئيس تحرير جريدتها (نداء الشعب) لسان حال الحزب لمقابلة الوزير واخذ حديث مالي/ اقتصادي يتعلق بالقضايا التي اشرنا اليها.
* فذهب رئيس تحرير الجريدة الصحفي المعروف (ابراهيم حلمي العمر) لمقابلة الوزير صبيح نشأت وكان في الديوان العين (فؤاد الدفتري) الذي كان يحاور الوزير ويستسفر منه عما الت اليه مساعيه ومباحثاته في بريطانيا، الا ان صبيح بك نشأت بدأ حالا بالتشنيع على جريدة (نداء الشعب) متهجما على سياستها ونهجها واصفا اياها باقسى النعوت منها انها (بلا ناموس) واعترض رئيس تحريرها المرحوم العمر علي هذا التجني، سيما وانه لم ينبس بحرف واحد حول الموضوع الذي قدم من اجله منتظرا ان تسنح الفرصة والاذن بذلك، الا ان الوزير كان على ما يظهر مغتاضا من المقالات التي كتبتها الجريدة عن سياسة الحكومة وعن وزير ماليتها بالذات منددة بفشله وتقاعسه بمهمته في تحقيق اي هدف او نتيجة طيبة من رحلته الى بريطانيا. فقد كتب رئيس تحريرها مقالا بعنوان (صبيح في العراق وزيور في مصر) اهتزت له الاوساط السياسية كما كانت المحافل الوطنية والمجالس السياسية ممتعضة من الاساليب الواهنة التي تعالج بها الحومة مشاكل البلد المالية – كل هذه الرواسب ادت بالوزير صبيح بك نشأت ان ينفث غيضه ويصب جام غضبه على شخص رئيس تحرير الجريدة فاهانه وشتمه وطرده من مجلسه في الوزارة!.
* قامت قيامة (حزب الشعب العراقي) وقرر اقطابه (ياسين باشا الهاشمي ومزاحم بك الامين الباججي ونصرة بك الفارسي وغيرهم) اقامة الدعوى الجزائية على صبيح نشأت فاقام المحامي كمال ابراهيم الدعوى بصفته صاحب الجريدة، كما اقام ابراهيم حلمي العمر دعوى جزائية مستقلة بسبب مالحقه من اذى معنوي واهانة من شخص صبيح بك نشأت وقد توكل عن العمر المحامي نصرة الفارسي، ولم يتوكل عن المرحوم ابراهيم كما اي محام – الا ان حاكم جزاء بغداد رفض الدعوتين مستندا ومتعللا بنص المادة (5) من قانون العقوبات البغدادية واقترح قيام المشتكيين باستجلاء نص المادة (81) من القانون الاساسي لترويج دعواهما.
* لم يقتنع اقطاب حزب الشعب العراقي بهذا القرار الذي صدر في 18 ايلول 1926 فعمد المشتكيان الى تمييزه لدى (المحكمة الكبرى) كما لم يكتف المرحوم ابراهيم حلمي العمر بذلك بل عمد الى استغلال مواهبه الصحفية وهو الصحفي اللامع فخرجت (نداء الشعب) بتاريخ 14/9/1926 بمقال لاهب تحت عنوان (على رسلك ياصبيح) نقتطف منه ما يلي (... وهل يحب صبيح نشأت بك ان الامة توافقه على كلمته بحق (نداء الشعب) وهي الناطقة بلسان حزب يضم خبرة ابناء البلاد علما ووطنية وجهادا في القضية.. وهم الذين اقاموا بجهودهم الوطنية وتضحياتهم الشخصية هذا الكرسي الذي تجلس عليه الان، فتلقي من فوقه درسا بعيدا عن كل المجاملات السياسية والمؤهلات الوزارية.
انها ليست المرة الاولى التي تصدم الاداب السياسية في بلادنا على يد صبيح بك نشأت فقد اوشك ان يعرض كيان الدستور الى التلف والدمار عندما تهجم على (رشيد عالي الكيلاني) رئيس المجلس النيابي لولا حكمة بعض العقلاء ورباطة جاش الكيلاني.
والان ياتينا باعتداء آخر على السلطة الرابعة بشخص رئيس تحرير (نداء الشعب) ويتناول الحزب المعارض بما لايليق..).
* كانت اللائحة التمييزية التي قدمها المشكتي النائب (ابراهيم كمال المحامي) بصفته صاحب جريدة نداء الشعب تتضمن حيثيات قانونية واسانيد قضائية ندرج في ادناه اهم ماورد فيها:
- ان الفعل المسند الى وزير المالية صبيح بك نشأت امر شخصي بحث ليس له علاقة بوظيفته الرسمية سياسية كانت ام غير سياسية فان اعطاء الوزير تصريحات الى ارباب الصحف او امتناعه عن ذلك لايمكن اتباره ضمن نطاق اعماله الرسمية اذ ليست هناك مسؤولية تتوجب عليه من اجراء ذلك كما ان الفعل المسند الى وزير المالية بشكله المادي يشكل فعلا شخصيا.
فلم تحدث محاورة مع العين (فؤاد افندي الدفتري)( وقد اعتبرت محكمة الجزاء افعال الوزير هذه ضمن الامور التي حددتها المادة (81) من الدستور العراقي حيث استندت الى كون فعل المميز عليه يقع ضمن وظائفه العامة. بينما هذه المادة تختص بمحاكمة الوزراء والنواب عن جرائمهم السياسية ووظائفهم العامة استنادا الى دعوى يتقدم بها المجلس النيابي وبقرار اتهامي يصدره ثلثا الاعضاء حتى يمكن بالتالي تشكيل (محكمة عليا) لاجراء محاكمة المتهم وهذا امر لا تتصور ان تلجأ اليه حكمة التشريع العراقي فتعمد الى المجلس النيابي لغرض مناقشة افعال وتصرفات هي جرائم شخصية عادية وعليه اطلب نقض قرار حاكم جزاء بغداد ومحاكمة المميز عليه في المحاكم النظامية.
* اما اللائحة التمييزية التي قدمها (الاستاذ المحامي نصرة الفارسي) وكيلا عن العمر فقد جاء فيها طلب نقض قرار حاكم جزاء بغداد حيث ان المادة (81) من الدستور لا تمثل واقع الحال. ولايمكن اعتبار الاهانة التي وجهها وزير المالية الى جريدة نداء الشعب ورئيس تحريرها عملا من ضمن واجبات الوزير الرسمية والعامة.. وبعد ان ضمن الاستاذ الفارسي مطالعته القانونية الاساتنيد التشريعية والتي جاءت متماثلة تقريبا مع تلك التي اوردها زميله الاستاذ المحامي ابراهيم كما طلب احالة صبيح بك نشأت الى المحاكم المختصة للاقتصاص منه عما بدر منه تجاه موكله (الاستاذ ابراهيم حلمي افندي العمر).
* ان هذه القضية بالرغم من انها لم تحدث فعلها التنفيذي والاجرائي، اذ ان التعقيبات القضائية قد جمدت حسب علمنا اوسحبت الا ان الضجة السياسية التي احدثتها مع ما تبع ذلك من تردي سمعة الحكومة وعجزها ادى الى سقوطها بتاريخ 1/ تشرين ثاني / 1926 وبعد القاء خطاب العرش وبعد مناقشات انية في المجلس النيابي حملت الحكومة لوما وتفريعا شديدين فكان سقوطها الذريع جزاءا وفاقا اقتنع به حزب الشعب والمشتكي العمر وقد خلفت وزارة السعدون وزارة جعفر باشا العسكري في 21/11/1926.
* ومن الطريف ان نذكر ان المرحوم صبيح نشأت قد قابل المرحوم العمر شخصيا في حفلة اقامها الشاعر جميل صدقي الزهاوي بعد هذه الحادثة في داره تكريما لزميل بيهم من رواد الحركة النسوية في سوريا وحضرها معظم رؤوساء الوزارات السابقين والشخصيات السياسية والادبية وبطلب من الزهاوي افتتح ابراهيم حلمي العمر الحفلة بخطبة بليغة اشاد فيها بشاعرية الزهاوي وجهاد ال بينهم الاجتماعي وعند الانتهاء تقدم المرحوم صبيح نشأت الى العمر وصافحه وهنأه على خطبته المجيدة القيمة.
جريدة الاتحاد
العدد 86 (21 آب1988)