ينظر الى المستقبل بأمل:محمد دكروب مؤرخ النهضة

ينظر الى المستقبل بأمل:محمد دكروب مؤرخ النهضة

محمود أمين العالم
اعترف منذ البداية انه لولا المؤرخ والناقد والمفكر والمناضل محمد دكروب لما صدر عام 1955 كتاب بعنوان "في الثقافة المصرية" للدكتور عبد العظيم انيس وكاتب هذه السطور، كان له صدى كبير في الحياة الثقافية العربية انذاك ففي عام 1954 فصل كلاهما مع اخرين من جامعة القاهرة،

اولهما من كلية العلوم قسم الرياضة، وثانيهما من كلية الاداب قسم الفلسفة وكان قد صدر لكل منها بعض مقالات متفرقة حول الادب، مثل بعض مقالات لعبد العظيم انيس عن نجيب محفوظ وعن المازني وغيرهما فضلا عن مشاركة كاتب هذه السطور في مقالات سجالية مع طه حسين والعقاد ردا منه على مقال للدكتور طه حسين بعنوان "الادب الفاظ ومعان" الى جانب بعض مقالات اخرى لكاتب هذه السطور عن عبد الرحمن بدوى وعن الشعر العربي الحديث الى غير ذلك من مقالات ونظرية وتطبيقية في النقد الادبي وعندما تم فصلهما من التدريس في الجامعة مع غيرهما من اساتذة ومدرسين جامعيين، انتهى الامر بكاتب هذه السطور الى الانخراط في العمل الصحفي بمجلة "روز اليوسف" كاتبا ادبيا وسياسيا، وبالدكتور عبد العظيم انيس بالسفر الى بيروت للعمل في معهد الاحصاء الدولي فيما اذكر وكان من الطبيعي ان يلتقي د. انيس بالعاملين في مجلة "الطريق" وعلى رأسهم د. حسين مروه، ومحمد دكروب، وكانا بالطبع على معرفة بقيمته الفكرية والثقافية فضلا عن موقفه السياسي وبكتاباته فاقترحا عليه جمع مقالاته ومقالات كاتب هذه السطور في كتاب واحد مشترك لوحدة رؤيتهما الفكرية والسياسية والادبية.
ووافق د. انيس، ومن ثم قام محمد دكروب يجمع هذه المقالات من مصادرها المختلفة، وترتيبها بحسب ما هو نظري وما هو تطبيقي في مجال النقد الادبي، وبين ما هو فكري وما هو سياسي في مجال الرؤية الاجتماعية وقام د. حسين مروة بكتابة مقدمة تجليلية وتقييمية تكشف الدلالة العامة لهذه المقالات على تفرقها وتنوعها والحق انه ما كان في نية د. انيس قبل سفره، او في نية كاتب هذه السطور تجميع هذه المقالات او اعادة نشرها على هذا النحو الذي جعل منها بنية منهجية ورؤيوية واحدة منسقة رغم تنوعها في مجال النقد الادبي – اساسا – تعد امتدادا واضافة الى ما كان ساندا قبلها من نظريات في النقد الادبي العربي وتنتسب على غير وعي كامل من جانبيها الى اسميها.
اردت ان اقول ببساطة ان هذا الكتاب الصغير الذي اصبح جزءاً من التراث العربي الحديث انما يرج الفضل فيه الى الجهد الفكري والعملي لكل من حسين مروة ومحمد دكروب.
***
والحق، انني لا اذكر هذا، استعادة لحدث ادبي قديم قد لا تعرف الاجيال الادبية الحالية اصوله وفصوله، وانما لاضع يدي على سمة اصيلة من سمات محمد دكروب مؤرخا وناقدا وباحثا ومفكرا، هي حرصه على متابعة وابراز وتقديم وتحليل الملامح الاساسية للفكر العربي الحديث والمعاصر في تجلياتها المختلفة منذ بدايات عصر النهضة والى اليوم واكاد اقول انه حرص على ابراز الجوانب الجديدة المتصلة بوجه خاص، التي شقت وتشق الطريق وسط عقبات وقيود الاوضاع العربية المتردية الساندة، وتدق ابواب المستقبل في جلياتها المختلفة الادبية منها والفنية والفكرية والسياسية، مستعينا ومتسلحا في هذا بمنهج مادي اجتماعي تاريخي جدلي، لا يكتفي فيه بالعرض الشكلى الجامد، او بالتوصيف البراني الاحتفالي او بالاحكام النهائية القاطعة، بل يحرص على الغوص في اعماق العمل الادبي او الفكري او الفني او السلوكي برؤية موضوعية نقدية لا تتعلق على خصوصيته الذاتية، او تغفلها في سياقه الموضوعي العام، انها تجمع هذه الرؤية بين ما هو خاص وما هو عام، بين ما هو ذاتي وما هو موضوعي بين ماهو جامد نهائي وما هو متحرك مسكون بالمستقبل وهكذا يتابع محمد دكروب بدأب واخلاص مختلف الكتابات والاجتهادات والمواقف الادبية والفنية والفكرية منذ البدايات الاولى لعصر النهضة الى ايامنها هذه، كانما يسعى لإعادة كتابة تاريخنا العربي الحديث من زاوية تاريخ الكتابة نفسها كتعبير عن حقيقة التاريخ نفسه وحقيقة الموقف منه ولهذا تتنوع قراءته للتاريخ وتتنوع مصادره فقد تتعلق بكتابات شعراء او روائيين او نقاد او مفكرين او سياسيين او علماء او مناضلين ومع هذا التنوع الشديد للتاريخ في تجلياته الكتابية تتجلى حقيقته الموضوعية الجدلية الموحدة بفضل هذا التنوع وبالرغم منه – هكذا نتبين من خلال قراءاته المتعددة المتنوعة لتلك الكتابات رؤيته لتاريخنا منذ عصر النهضة وخلالها وبمدى ما تتضمنه من رؤى مستقبلية يحرص على استكشافها وابرازها وتاكيدها.
إنه يحقق هذا سواء كان ما يقرأه هو تاريخ لحركة سياسية تتجلى في الحزب الشيوعي اللبناني بين عامي 23- 1934 في كتابه "بذور السنديانة الحمراء" او تتجلى في كتاباته عن "الأدب الجديد والثورة" او ي متابعته لاسماء من اسهموا او ما يزالون يسهمون في محاولة بناء النهضة العربية، من رفاعة رافع الطهطاوي الى سلامة موسى، فامين الريحاني فلطفي السيد، فطه حسين، فعبد الله العلايلي، فقسطنطين زريق، فمارون عبود، فرؤوف خوري، فعمر فاخوري، فلويس عوض، فحسين مروة فمهدي عامل، فصادق سعد، فعبد الله العروي، فصادق جلال العظم فمحمد عابد الجابري وطيب تيزيني، فضلا عن كتابات عن المبدعين من الادباء والفنانين مثل توفيق الحكيم والياس ابو شبكة وخليل جبران ونجيب محفوظ وتوفيق يوسف عواد، ونجيب سرور، فسعد الله ونوس، فاميل حبيبي والجواهري ومصطفى فروخ ويوسف ادريس وجمال الغيطاني ولطيفة الزيات وعبدالرحمن منيف واحسان عباس وسهيل ادريس ومحمد مندور ومحمد برادة، عبد العظيم انيس وغيرهم.
***
وما اكثر الاسماء الاخرى التي عرض لكتاباتها عرضا تحليليا نقديا التي كان من خلالها وبها يؤرخ لحركة النهضة العربية وللرؤى المستقبلية لها في تجلياتها الكتابية المختلفة ولهذا فهو كما ذكرت مؤرخ بحق للحركة الادبية والفنية والفكرية والسياسية العربية وبخاصة في توجهاتها القومية واليسارية ورؤاها المستقبلية. وهو في الحقيقة وفي غير مقالاة ومؤرخ متابع مخلص، امين جاد، يعرض لمختلف كتابات هؤلاء المفكرين والادباء والفنانين بروح الحرص الصادق على ابراز ما هو ايجابي مستقبلي اساسا فاذا اختلف او انتقد بمستوى او باخر فانها بروح من المودة الصافية والاحساس العميق بالمسؤولية إزاء قيم الحق والحرية والعدالة واستشراق المستقبل ولهذا فليست هناك قضية شخصية في الاختلاف الفكري او السياسي او القيمي بينه وبين اي انسان ايا كان وحقا، انه يتعامل دائما ويوعي اقتناع كامل مع مختلف القضايا الادبية او الفنية او الفكرية او التاريخية او الاجتماعية او السياسية الخالصة بمنهج المادية التاريخية والجدلية، ولكنه يمارس هذه المنهجية بغير تزمت او جمود او تحزب تنظيمي بل ما اكثر ما يخوض معارك حادة على غير عادته ضد رفاقه الاقربين فكرا وانتماء تنظيميا وصداقة، عندما يستشعر هذا الانحراف الذي ما اكثر ما يسود والذي يتمثل في تحويل الماركسية الى قواعد جامعة ، واحكام نهائية من اجراءات قاطعة على اساس من قراءة نقية حرفية ضيقة ولهذا ففي كتاباته وسلوكه الفكري والعمل على السواء يستشعر الان القريب منه والبعيد، مدى تفتحه الفكري والسلوكي على الخبرات الجديدة بتجدد الحياة، ومدى حرصه على الانصات العميق بتواضع جم، وبرغبة صادقة في التعلم والتجدد الدائمين.
ولايصدر هذا فحسب عن طبيعته الاخلاقية البالغة الصفاء والرقة والعذوبة الانسانية والطيبة الاصيلة والشرف النفسي، وانما يصدر كذلك عن اتساع افقه المعرفي، وعمق خبرته الانسانية الحية فهو انسان عصامي بحق، نشا من اسرة شعبية بسيطة ولم تكن نشأته او حياته عامة ميسرة، لكن ينال من التعليم الرسمي، والمكانة الاجتماعية الرسمية المريحة، وانما من قاع المجتمع استطاع بكفاءته الشخصية وخلقه الرفيع، ان يرتفع الى قمة المجتمع معرفة وعلما ووعيا واستنارة دون ان يحرص وكان في مقدوره – على ان يتوسل بشخصيته وثقافته التي انتزعها انتزاعا بجهده واجتهاده الشخصي الى الارتقاء في المكانة الاجتماعية الطبقية وانما حرص على ان يظل مرتبطا بالقاعدة الاجتماعية الشعبية اذ يكرس معرفته بل حياته وطاقاته لخدمة ما تتطلع اليه من عدل وحرية وتقدم بانتسابه الى الحزب الشيوعي اللبناني حزب قوي والعدل والتقدم وتحقيق انسانية الانسان وبعد هذه السنوات الطويلة من عمره وبعد كل ما قدمه لوطنه اللبناني وللامة العربية من وعي ثقافي، وتنمية لقيم انسانية رفيقه ما يزال محمد دكروب هو ابن الشعباللبناني البسيط الفقير ولكنه الغني بعلمه ونضاله وابداعه الادبي والفكري والسياسي وتكريسه كل طاقاته للواجب الوطني والقومي والانساني بغير مقابل إلا احساسه بالرضا الداخلي وادراكه بعمق محب كل من حوله وممن يعرفونه او يقرأون له دون ان يعرفوه شخصيا .
وبرغم اننا نكاد لا نعرف عن محمد دكروب إلا انه ناقد ادبي في المحل الاول فضلا عن رؤيته الفكرية المنهجية المادية الجدلية والتاريخية، ذات الافق المتجدد الفعال، التي تتجلى في كتابات ومواقفه العملية والنضالية الا ان محمد دكروب كاتب مبدعفي مجال لايكاد يعلن عنه او يعرفه الكثيرون فهو كاتب مبدع في مجال القصة القصيرة، حقال لم يصدر حتى الان ومنذ فترة بعيدة غير مجموعة واحدة، في حدود علمي فقد شغلته اعباؤه العملية والنضالية وحرصه الصادق على التعبير عن الاخر ومن اجل الاخر اكثر من حرصه عن التعبير الابداعي عن نفسه، وعن مواصلة كتاباته القصصية الابداعية، وان كنت استشعر دائما الفنان القصاص المبدع في كتاباته، عن غيره من الادباء والفنانين وان كنت كذلك استشعر القصاص في كثير من كتاباته الادبية النقدية عن الاخرين فضلا عن كتابه "جذور السنديانة الحمراء".
واكاد اتصور فيما يشبه اليقين بان محمد دكروب يكاد يخفي عنا اعمالا ادبية ابداعية او على الاقل يسعى دائما لاجهاضها في نفسه تفرغا لاعبائه العملية والادارية والسياسية والكتابية الفكرية والنقدية في خدمة الاخرين ولهذا تمنى على الاقل ان يتفرغ ذات يوم لكتابة قصة حياته وادرك عن يقين انها ستكون قصة بالغة العمق والرهافة انسانيا وفنيا.
تمنيت ان اقف عند واحد من كتبه ودراساته العديدة دارسا محللا ملامحه النقدية والفكرية والادبية والاخلاقية بشكل تفصيلي واتمنى ان اتمكن من ذلك مستقبلا.
ان محمد دكروب قيمة فكرية وادبية ونضالية واخلاقية كبيرة ونادرة وعزيزة في حياتنا وثقافتنا العربية والمعاصرة لا في لبنان وحسب، بل في التاريخ الادبي والسياسي والفكري والنضالي لامتنا العربية عامة. ولهذا نقدره، ونحبه، ونتطلع دائما الى انتاجه ونتابع جهوده النضالية والعملية والنشرية على رأس مجلة الطريق ودار الفارابي للنشر ونتفاءل دائما بوجوده في حياتنا ، ونتمنى له دائما الصحة والعافية ومواصلة العطاء فضلا عن السعادة والتوفيق الدائمين له ولعائلته، وتحية اخيرا للشعب اللبناني الذي انجبه.

عن جريدة اخبار الادب ملف خاص عن محمد دكروب