من أوراق الانقلاب الدموي..صالح مهدي عماش: حصدنا أربعة آلاف شيوعي!!

من أوراق الانقلاب الدموي..صالح مهدي عماش: حصدنا أربعة آلاف شيوعي!!

(وطن تشيّده الجماجم والدم تتهدم الدنيا ولا يتهّدم)
شاعر عراقي
في صباح 8 شباط / فبراير 1963 ، قتل جلال الاوقاتي قائد القوة الجوية غيلة ، وكان اغتياله إشارة بدء حركة انقلابية ضد حكم قاسم ، ثم قصفت وزارة الدفاع بالطائرات في قلب بغداد ، ودارت معركة ساخنة أنهت نظام الزعيم عبد الكريم قاسم اثر انقلاب دموي قام به البعثيون ،

وفي اليوم الثاني سّلم الرجل نفسه لخصومه البعثيين بعد أن دافع دفاعا مستميتا ، ولكنه استسلم لجلاديه من دون أن ينهي حياته من اجل حفظ كرامته ، واقتيد إلى دار الإذاعة ليواجه أعداءه من الانقلابيين ، وليعدم هناك بسرعة رفقة ثلاثة من اخلص معاونيه في واحد من استوديوهات الإذاعة .. لقد اعدم في الوقت الذي كانت تجري مذابح في أحياء من بغداد بين الشيوعيين والبعثيين ، ولم يتوّرع القادة الجدد أن يعرضوا على شاشة التلفزيون العراقي مشاهد من مصرع الزعيم قاسم ، وجندي يمسك خصلة شعره ويرفع رأسه ويبصق بوجهه على مرأى ملايين العراقيين وفي شهر رمضان ، إذ لم يكن هناك أي اعتبار أو حرمة لا لكونه زعيم بلاد هزم في معركته ، بل احترام لرتبته العسكرية ..
في يوم السبت 9/2/63 استسلم قاسم والمهداوي وطه الشيخ احمد وكنعان حداد ونقلوا لمبنى الإذاعة ، حيث ضُرب المهداوي ضربا مبرحا منذ لحظة نزوله وسال الدم كالنافورة من رأسه وعندما طلب الرحمة قيل له اطلبها من الطبقجلي ورفاقه الذين أعدمتهم في ساحة أم الطبول، وحاول أن يلقي بكامل المسؤولية على قاسم ، وهو القائل إبان محاكماته الشهيرة: «أنا بسمة من بسمات قاسم، أنا نسمة من نسمات قاسم»، وقد صدر حكم سريع بإعدام الجميع وقد نُفذ الحكم على كراسي الموسيقيين .. ونقلت مشاهد الإعدام على التلفزيون بالأبيض والأسود !
كان المجتمع قد زاد انقسامه أيضا بين أناس بكت الزعيم بكاء مرا ، ولم يزل العراقيون يحملون أجمل ذكرى عنه ، ولكن ثمة عراقيين آخرين ، رقصوا مع أغاني التلفزيون المبتهجة بـ ( موت الزعيم الهمشري ) ، وكنت صبيا لا افقه معنى تلك الكلمة التي تثير التقزز ! كنت اسمع إذاعة صوت العرب ، وهي تتشفّى بنهاية زعيم العراق الذي اسماه عبد الناصر في خطبه بقاسم العراق !! .. مع حدوث مجازر على مدى أيام من قبل البعثيين ضد كل من الشيوعيين والقاسميين ، وحفلات تعذيب مرعبة بحق قياديين ومسؤولين حزبيين ، أمثال : سلام عادل وعبد الجبار وهبي وعدد كبير من الشيوعيين الذين قتلوا ، إذ يذكر صالح مهدي عماّش للرئيس عبد الناصر إن البعثيين حصدوا أربعة آلاف شيوعي .. وهناك من حشر في قطارسموه بـ " قطار الموت " إلى سجن نقرة السلمان الصحراوي وكانت رحلة عذاب ونهايات مريرة لم نشهد مثلها في أي بلد مجاور ! .
ومثلما سمعنا السيدة أم كلثوم تغني مباركة 14 تموز / يوليو 1958 ( بغداد يا قلعة الأسود ) .. غنّت مباركة 8 شباط / فبراير 1963 ( ثوار ثوار لآخر مدى ) !! السؤال : إن الكل يفرح ويغّرد في الشوارع والساحات مع أناس تبكي خفية بين جدران بيوتاتها .. ولا احد يسأل سؤالا واحدا : لماذا يقتل زعماء العراق ويهانوا بطريقة لا يقبلها أي عقل .. ؟؟ وأسأل سؤالا آخر : لماذا يفرح العرب لمصرع زعماء عراقيين ولماذا يحزنوا على زعماء آخرين ؟ لماذا حزنوا على موت فيصل الأول ، ولماذا فرحوا بمصرع فيصل الثاني ؟ لماذا فرحوا بإعدام عبد الكريم قاسم ولماذا حزنوا على شنق صدام حسين ؟ ما سر هذا التناقض الذي يميّز بين هذا أو ذاك وكل من هذا وذاك له نهاية واحدة هي الموت بأبشع الوسائل ! وبين هذا وذاك لماذا لم تقم الدنيا وتقعد بتقطيع أجساد زعماء عراقيين ، أو رفض اهانتهم عند نهاياتهم المريرة ؟
لماذا لا احد يذكر كيف مات عبد السلام عارف أو احمد حسن البكر ؟
القيادات العارفية : نهايات بشعة
في 18 تشرين الثاني / نوفمبر 1963 ، لم تسفك دماء البعثيين على يد المشير الركن عبد السلام عارف الذي انقلب عليهم بعد أن شاركهم انقلابهم ضد قاسم .. وكانوا وراء تنصيبه رئيسا للجمهورية العراقية ولأول مرة بلا أية انتخابات تشريعية ، ولكنه عفا عنهم بانقلابه .. ويقال أن الرجل لم يعدم أحدا إعداما سياسيا طوال حكمه .. ولكن نهايته كانت مفجعة أيضا ، إذ احترق بطائرة الهليوكبتر اثر حادث لم يزل غامضا في كل تفاصيله الدقيقة والمريبة ، وتشير أصابع الاتهام لأكثر من طرف كانت له مصلحة في وضع نهاية له .. ولقد شاهدت بنفسي شباب العراق من طلبة وطالبات جامعة بغداد وقد اصطفوا يودعونه وهم يبكون نهايته المتفحمة ، اذ كانت نهاية تراجيدية، وكالعادة كان هناك من حزن لرحيله ، وهناك من صفق لمصرعه وراح يعدّ العدة للاستيلاء على السلطة من هذا الطرف أو ذاك .. ولقد تواصل عهده بعهد أخيه الذي اختير من بعده رئيسا ، ولأول مرة يرث الأخ حكم أخيه في العراق الجمهوري ! وبالرغم من حدوث أكثر من محاولة انقلاب إلا أن العارفيين الاثنين لم يعدما من تآمر على حكمهما ! وإذا كانت نهاية حكم عبد الرحمن عارف سليمة ، إذ لم يقتل أو يعدم ، بل نفي إلى تركيا على يد الانقلابيين البعثيين في 17 تموز / يوليو 1968 ( توفي في الأردن 24 أغسطس 2007) ، إلا أن أركان الحكم العارفي قد نالتهم التصفيات البشعة ، إذ عّذب الدكتور عبد الرحمن البزاز رئيس الوزراء السابق عذابا شنيعا ، وسلخ جلد شامل السامرائي وزير الوحدة السابق ، واحرق بطيئا عبد العزيز العقيلي على مدفئة وكان وزير دفاع سابقا ، ، وقطعّت أعضاء رشيد مصلح التكريتي الحاكم العسكري السابق ، وعذب عذابا شديدا ، وعّذب طاهر يحيى التكريتي رئيس الوزراء السابق ..عذابا لا يرحم ، وفعل بالعشرات من غيرهم من دون أن يذكرهم أحد .
إعدام اليهود: قافلة الموت الزؤام
وفي عهد الرئيس البكر قتل واعدم العشرات ، بل المئات بشتى أنواع القتل الشنيع سواء بالإعدامات الجماعية ، أو مجازر قصر النهاية ، أو عذابات مديرية الأمن العامة .. وقتل العديد من المشاركين في السلطة الجديدة بدءا بناصر الحاني وعبد الكريم الشيخلي وحردان التكريتي وعبد الرزاق النايف ومدحت الحاج سري وشيوخ عشائر واعيان مجتمع ومئات لا يحصى عددهم .. انتقالا إلى من كان يتهم بمؤامرات قلب نظام الحكم أو الذين اتهموا جواسيس وعملاء وخونة وصولا إلى ناظم كزار مدير الأمن العام الذي كان يتصف بشروره وقتله أعدادا لا تحصى من العراقيين وما سمي بمؤامرته التي قتل فيها حماد شهاب وزير الدفاع .. ويأتي مصرع ناظم كزار ( الذي قتل ببشاعة بنفخ جسمه وهو حي ) وكان له تاريخ سيئ جدا .. وكانت هناك تصفيات بدس السم من اجل القتل البطيء ، وكان ممن ناله ذلك شاذل طاقة وزير الخارجية وعشرات غيره .. وكانت نهاية الرئيس احمد حسن البكر غامضة هي الأخرى بعد مقتل ولديه أيضا ، وصولا إلى اعتلاء النائب صدام حسين سدة الرئاسة في العام 1979 ، وافتتح عهده بمصرع الذين اتهمهم بالتآمر على الحزب والثورة من ابرز القياديين العراقيين ، وأشهرهم : عبد الخالق السامرائي ، وعدنان حسين، ومحمد عايش ، وغانم عبد الجليل ، وعبد الحسين مشهدي وغيرهم .. وسجل عهده نهايات لعدد من ابرز المسؤولين، مثل : مرتضى سعيد عبد الباقي ، ورياض حسين ، وفاضل البراك وصولا إلى عدنان خير الله ( الذي قتل بحادث طائرة غامض ) وزوجي ابنتيه حسين كامل وأخيه وغيرهم كثير .
ولقد أعدم العشرات من الضباط العراقيين بتهمة التخاذل والجبن في الحرب العراقية الإيرانية .. كما اعدم عدد كبير من التجار بتهمة تهريب العملة .. وقتل العديد من أركان المعارضة السياسية ، وكان في مقدمتهم السيد محمد باقر الصدر وأخته نور الهدى وعدد كبير من أعضاء حزب الدعوة .. ناهيكم عن مصرع العديد من الشخصيات العراقية خارج العراق ، أمثال الشيخ طالب السهيل .. واعدم الدكتور راجي التكريتي بعد إرجاعه إلى العراق بطريقة بشعة ! وهناك العشرات من الشخصيات المهمة سياسيا وعسكريا واجتماعيا لاقوا حتفهم بأساليب مختلفة شنقا ورميا بالرصاص واغتيالا .. وتعذيبا وتسميما .. الخ أما التصفيات والإعدامات الجماعية التي واجهها العراقيون إبان الحروب في الشمال أو الجنوب ، أو في السجون والمعتقلات .. فهي كثيرة لا تحصى أبدا . وكان العراقيون وما زالوا يعانون من آثارها وتداعياتها الصعبة .
المعنى التاريخي
لقد انتهى صدام حسين نفسه بعد أن سقط نظامه من قبل جيوش الاحتلال الأميركية في 9 نيسان / ابريل 2003 .. وقبض عليه بعد أشهر ، وحوكم على امتداد سنة كاملة ، ونفذ فيه حكم الإعدام شنقا حتى الموت .. لتّشكل نهايته ضجة كبرى إذ انه شنق فجر يوم عيد الأضحى.. ومثلما انقسم العراقيون عند نهايات من سبقه من الزعماء ، فلقد انقسموا اليوم إزاء نهايته ..
وإذا كان الإخوة العرب قد فرحوا ورقصوا لدى سماعهم بإعدام عبد الكريم قاسم في 15 رمضان ( 9 فبراير 1963 ) من إذاعة صوت العرب ، فإنهم بكوا صدام حسين في أول أيام عيد الأضحى .. إنهم يسجلون استعراضا إعلاميا من دون أن يدرك كل من العراقيين والعرب مغزى هكذا نهايات ! ولماذا ينتهي زعماء العراق واغلب قيادييه ومسؤوليه نهايات مقرفة تقع دوما بين الشماتة وبين التقدير ؟؟ وهل يتعظ من تاريخ تلك النهايات الصعبة كل من سيحكم العراق لاحقا ؟ هل يفهمون المعنى التاريخي لنهايات تاريخية كتلك التي سجلها عبد الكريم قاسم وهو يتلقى الرصاص رافضا أن يعصب عيونه أو تلك التي سجلها صدام حسين وهو يهوي معلقا بحبل المشنقة رافضا وضع أي كيس يغطي به رأسه ؟؟

ست سنوات من الفوضى والنهايات الدموية
إن العراقيين ما زالوا يعيشون هذه " الظاهرة " حتى هذه اللحظة ، وإذا كانت حياة الفوضى قد استشرت في كل مكان ، وأصبح الموت لعبة أطفال .. إننا على امتداد أكثر من ست سنوات ومنذ العام 2003 ، أصبح المجتمع العراقي كله رهين حالة الرعب والموت لكثرة من قتل ، أو غّيب ، أو اضطهد ، أو فجّر ، أو اغتيل .. زعماء العراق اليوم لا يمكنهم أبدا الخروج من منطقة خضراء تحميهم من قتل مؤكد ! لقد انتقل العراقيون من حالة دكتاتورية مخيفة إلى حالة فوضى مرعبة ! لقد خسر العراق طوال هذه السنوات الأخيرة العدد الكبير من أبنائه ظلما وعدوانا . فهل سيهدأ البلد يوما بعد كل هذا الصراع .. وقد تفاقمت الأحقاد ، وتنامت الكراهية في المجتمع مع ضعف تركيبته الآن. لقد رحل وبأساليب مثيرة ودراماتيكية خلال السنوات التي أعقبت السقوط العام 2003 ، كل من السيد عبد المجيد الخوئي والسيد محمد باقر الحكيم وعضوي مجلس الحكم عقيلة الهاشمي وعزالدين سليم .. ونالت التصفيات المئات من الساسة والأساتذة الجامعيين والعلماء والضباط والطيارين ورجالات الأعمال .. وصولا إلى أعداد لا تحصى من المواطنين العراقيين .
إن التاريخ مدرسة رائعة لمن يدرك معاني الأحداث والوقائع ويتعلم منها .. إن تاريخ العراق لابد أن يدركه كل العراقيين ، ويغّيروا ما بأنفسهم ويؤمنوا بالحياة المدنية ، ويتخلصوا من انقساماتهم ، فالوطن لابد أن يتقّدم على كل الانتماءات .. على العراقيين أن يتوحدّوا بدل انقساماتهم التي تصنع زعماء لا يعرفون الرحمة فالزعماء لا تقوى على البطش إلا عندما تجد بيئة مساعدة على البطش والتنكيل .. كنت أشارك احد أصدقائي العراقيين قبل سقوط العراق وقبل انهيار نظام حكم صدام حسين أن تبدأ صفحة جديدة يتوّحد فيها العراقيون من اجل تحقيق أهدافهم الأساسية بتحرر العراق وبنائه من جديد على أسس وركائز قوية بعيدا عن الكراهية والأحقاد والتشظي.
وأخيرا : من أجل نهايات عراقية بلا تصفيات !
وأحب القول بأن المشهد لا يفترق بين حفل زعيم عراقي قتل بالرصاص ، وخصومه تنظر اليه لتشفي غليلها وبين حفل زعيم عراقي اعدم شنقا بعد أكثر من أربعين سنة وخصومه تنظر إليه لتشفي غليلها .. فما الذي كان ؟ وما الذي سيكون ؟ وأتمنى أن لا يكون هذا المقال مؤججا للمشاعر ، بل لإثارة درس واضح المعالم ، لما يمكن للعراقيين التعّلم منه . إننا نسمع اليوم بثارات العراقيين ، والتهديد بما سيفعلونه ، وما يتوّعد كل طرف الطرف الآخر ، وكل المعارضين إزاء المسؤولين ، وكل حزب إزاء خصمه .. وكل متعّصب إزاء الآخرين .. وكل الحمقى إزاء الجميع ..
وأخشى أن تبقى هذه " الظاهرة " المقيتة سارية ، وهي تنتج النهايات المفجعة ، وان تتحّول إلى محنة لكل العراقيين . إن الوعي بهذه الظاهرة لدى كل العراقيين أولا ، وتغيير سياسات العراق الاجتماعية جذريا ثانيا ، وتربية الأجيال العراقية القادمة تربية مسالمة ومختلفة ثالثا ، كلها أساليب كفيلة للتقليل من جحيم النهايات المريرة عند العراقيين .. أنها واحدة من نهايات كانت وستبقى لزعماء العراق ، وقد تنوعت الأسباب والموت واحد ، ولكن.. هل سيولد عراق جميلا بلا تصفيات ؟ ومتى سيزول هذا " المصطلح " العراقي المشؤوم .. مصطلح التصفيات.